كيسنجر: خوفي أن إسرائيل لن تطيل البقاء!

تزامن إحياء الذكرى الأولى لإطلاق برنامج تشات جي. بي. تي. وما رافقه من جدل حول المخاطر التي تنطوي عليها تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي التي تتطور بسرعة عجيبة تنذر بإفلات الزمام من يد الإنسانية، مع نشر تقارير في الصحافة الإسرائيلية والبريطانية تكشف أن أحد أسباب الارتفاع المهول في عدد الضحايا الفلسطينيين واتساع نطاق التدمير في غزة هو شدة اعتماد جيش الاحتلال الإسرائيلي على برامج الذكاء الاصطناعي في تحديد أهداف القصف.
وليس أدل على خطورة برامج الذكاء الاصطناعي من أن أهم الباحثين الذين طوروها هم أول من أنذر، ولا يزال ينذر، من عواقبها المفزعة على مستقبل الإنسانية! كما أن آخر مقال نشره شيخ الواقعية السياسية هنري كيسنجر قد كان بعنوان «الطريق إلى التحكم في أسلحة الذكاء الاصطناعي». وتركز المقال، الذي نشره كيسنجر قبل شهرين فقط من وفاته، على قرع نواقيس الخطر من هذه التكنولوجيا التي يعدّها سلاحا جديدا، حيث يقول إن أسلحة الذكاء الاصطناعي في النصف الأول من هذا القرن ستكون أكبر خطرا وأبعد أثرا من الأسلحة النووية التي كانت بعد جديدة في النصف الأول من القرن العشرين. ومعروف أن كيسنجر كان من أوائل من كتبوا، عام 1956، عن الأسلحة النووية وعن سبل التحكم فيها في مقال شهير انطلق فيه من مقولة كانط عن السلام الأبدي وبين فيه أن أمريكا ترد على كل تقدم سوفييتي في المجال النووي بالهروب التكنولوجي إلى الأمام، أي بالاستمرار في صنع أسلحة أخطر وأفتك، ولكن كلما تعاظمت خطورة هذه الأسلحة وقوة فتكها كلما تعاظم الإحجام عن استخدامها، بما يثبت صحة موقف «لا بديل عن السلام» الذي لخص به الرئيس أيزنهاور المعضلة التي تطرحها تكنولوجيا الأسلحة الجديدة. وبهذا كانت آراء كيسنجر في مجال إدارة السباق النووي مع الاتحاد السوفييتي من أبكر عوامل انتباه المؤسسة العسكرية الأمريكية إليه، ثم تقريبه تدريجيا إلى دوائر القرار.

أول جيش عُرفت عواقب استخدامه للذكاء الاصطناعي هو جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يعلن يوميا إصابته لمئات من الأهداف، بحيث أصاب أثناء الأيام الـ35 الأولى من عدوانه على غزة 15 ألف هدف

أما في المقال الأخير، الموصول وصلا موضوعيا وتاريخيا واضحا بمقال 1956، فإن كيسنجر ينذر بأن من شأن التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي أن يؤدي إلى بلاء عظيم، ويحث الساسة الأمريكيين على الاهتداء بتجارب العصر النووي واستخلاص العبر منه في مواجهة هذا الخطر الجديد الداهم. ولهذا صح قول الكاتب الأمريكي فريد زكرياء بأن كسينجر بدأ حياته المهنية متخوفا من السلاح النووي وختمها متخوفا من الذكاء الاصطناعي.
ومعروف أن كثيرا من الجيوش بدأت تستخدم الذكاء الاصطناعي في تعزيز أنظمتها الدفاعية وتحسين قدراتها القتالية. وليس هذا بمستغرب، فقد كانت المؤسسة العسكرية الأمريكية هي أول منتج ومستخدم للمعلوماتية وأجهزة الكومبيوتر، منذ كان الواحد منها يملأ بحجمه الضخم غرفة كبيرة، كما كانت هي أول مستخدم للإنترنت وللشبكة العنكبوتية عندما كان الهم الأول هو الوقاية من الهجمات السوفييتية بإنشاء منظومة اتصالية ممتنعة على التدمير بفضل خلوّها من جهاز تحكم (كومبيوتر مركزي). ولكن أول جيش عُرفت عواقب استخدامه للذكاء الاصطناعي هو جيش الاحتلال الإسرائيلي الذي يعلن يوميا إصابته لمئات من الأهداف، بحيث أصاب أثناء الأيام الـ35 الأولى من عدوانه على غزة 15 ألف هدف، بينما كان عدد الأهداف التي أصابها أثناء الأيام الـ51 التي استغرقها عدوان عام 2014 يتراوح بين 5 و6 آلاف.
وقد مكن برنامج الذكاء الاصطناعي الإسرائيلي، المسمى حبصورا، جيش الاحتلال من تضخيم الأهداف المحتملة أضعافا مضاعفة ومن التعجيل الأقصى لمسار الاستهداف، أي اختزال الفاصل الزمني بين تحديد الهدف وقرار ضربه، حيث لم يعد يتجاوز دقيقة واحدة. وهو قرار متروك في معظم الحالات لفتيان وفتيات لا يزالون في طور أداء الخدمة العسكرية. وهكذا صار في وسع جيش الاحتلال، بسبب اعتماده الكامل على الخوارزميات، أن يستهدف في أي وقت مبنى سكنيا كاملا لمجرد الاشتباه في أن عضوا واحدا من حماس يقيم فيه، بحيث يرتفع عدد «الأضرار الجانبية» من الضحايا المدنيين، في كل ضربة، من العشرات إلى المئات. فلا عجب إذن أن يستخلص الباحث جوليان نوستي بأن غزة قد صارت حقل تجارب للخوارزميات الإسرائيلية.
ومع هذا فإن آخر ما قاله ماكيافيللي التاريخ المعاصر لفريد زكرياء في آخر غداء جمعهما قبل بضعة أسابيع هو أنه يخشى أن إسرائيل لن تكون قادرة على البقاء لزمن طويل.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية