كولومبيا تقض مضاجع إسرائيل.. من خيمة صغيرة إلى حركة احتجاج واسعة نصرة لغزة وفلسطين

وديع عواودة
حجم الخط
0

الناصرة- “القدس العربي”: منذ أيام عبّر رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو عن غضبه الشديد من اجتياح المظاهرات المناهضة للحرب ولإسرائيل الجامعات الأمريكية، وسارع لمحاولة وصمها بالحيلة إياها، نعتها بـ “اللاسامية”، وقال إنها زعزعتْه.

لكن ليس نتنياهو فحسب، فهناك أوساط واسعة جداً داخل إسرائيل متفاجئة من هذا المدّ الاحتجاجي المعادي لإسرائيل، وتعرب عن قلقها باعتبارها خطراً على مكانة وصورة الدولة اليهودية، التي باتت منبوذة أصلاً، وتدعو للبحث عن علاج مفيد لها. وفي التزامن، هناك من يتهم الإدارة الأمريكية بتشجيعها لتحقيق أكثر من هدف، كالمستوى السياسي والدولة العميقة، يعرب أيضاً رؤساء الجامعات في إسرائيل عن قلقهم من “العنف ضد الإسرائيليين واليهود في الجامعات الأمريكية”.

جنرال إسرائيلي: هذا موقف لا يخلو من النفاق، وهذا كذب، فلماذا لم يحتج هؤلاء الطلاب على قتل نظام الأسد نصف مليون سوري وتهجير ملايين آخرين؟

وقال هؤلاء، في مذكرة مشتركة، إنهم “مستعدون لدعم باحثين وطلاب يهود وإسرائيليين يرغبون بالالتحاق بجامعات إسرائيلية في ظل الأزمة”. ورغم سلمية الاحتجاجات الطلابية، وفي تلميح خفيف لعدم رضاهم من موقف إدارات المؤسسات الأكاديمية في الولايات المتحدة، قال رؤساء الجامعات الإسرائيلية “إنهم لا يشككون بأن رؤساء الجامعات الأمريكية يقومون فعلاً بمكافحة تجليات العنف”.

اتساع الاحتجاجات

في الأيام الأخيرة تنتشر الاحتجاجات من جامعة كولومبيا إلى جامعات الولايات المتحدة وكندا وفرنسا وغيرها، وربما في جامعات عربية، من أجل وقف الحرب المتوحشة على غزة، وكان قرار إدارة كولومبيا، قبل أيام، لدعوة شرطة نيويورك لتفريق متظاهرين داخل الحرم الجامعي قد صب الزيت على نار الاحتجاجات التي انتشرت أكثر، وربما هذا هو أثر قرارها، أمس، بتهديد طلابها بالإبعاد.

لكن طلاب كولومبيا وغيرها يعتقدون أن هذا واجبهم الإنساني الأخلاقي الآن لمواصلة التشبُث بإرث الجامعة العريقة التي خرجت في مثل هذا الشهر عام 1968 في احتجاجات واسعة ضد الحرب الأمريكية على فيتنام، وعلى تفشي العنصرية والفاشية داخل الشارع الأمريكي، انتشرت إلى السوربون وبقية جامعات فرنسا وهزتّها طولاً وعرضاً، وبالتحديد مثل الليلة 30 أبريل/نيسان 1968 اقتحمت شرطة نيويورك الحرم الجامعي في كولومبيا، كما فعلت أمس، لوقف اعتصام الطلاب الجامعة ووقف الدراسة فيها. ولاحقاً، في الخامس من أبريل /نيسان 1985، خرج طلابها أيضاً نصرةً للشعب المناضل من أجل حريته وسيادته في جنوب إفريقيا ومكافحة نظام الفصل العنصري فيها.

قلعة معرفية وأخلاقية

عراقة احتجاجات طلابها من أجل العدل والسلام في العالم من عراقة جامعتهم، فكولومبيا واحدة من أهم الجامعات البحثية في العالم، وأعرقها، فقد تأسسّت عام 1754 في نيويورك، وهي تستقطب خيرة وصفْوة الطلاب من العالم. وفلسطينياً برز فيها المفكر الراحل إدوار سعيد، أستاذ الأدب المقارن والنقد الأدبي لفترة طويلة. واليوم المؤرخ رشيد الخالدي، أستاذ الدراسات العربية الحديثة فيها.

وينتصر عددٌ متزايدٌ من طلاب كولومبيا، عرباً ومسلمين ويهوداً وأجانب لغزة وفلسطين، ولا يكترثون بتهديد الإدارة بإبعادهم، وبحملة إسرائيلية وصهيوينة عالمية، علاوة على الكونغرس، تتهمهم بالكراهية.

هذا الحراك المبارك ضد الحرب ملهم، ويسلّط الضوء مجدداً على سؤال من هو المثقف ودوره، وعلى دور الصروح الجامعية في بناء دفيئات للفكر الحرّ وللقيادات المستقبلية، وفي تربية طلاب وأساتذة لا يكتفون بالنجاح المهني، بل يتداخلون ويتحرّكون كي يكون العالم أكثر جمالاً وإنسانية، جامعيون “أساتذة” في التواضع ونصرة المظلومين والمحرومين والمحاصرين.

مظاهرات كولومبيا مستمرة منذ 17 نيسان، وهو أجمل شهورها منذ عقود، ويبدو أنها باتت قدوة لجامعات أخرى في أمريكا والغرب، وربما في القاهرة وعمان والجزائر وبير زيت. وهذه ليست المرة الأولى، فقد احتجت على حروب إسرائيلية أخرى في غزة كحرب “الرصاص المصبوب”، نهاية 2008، لكن هذه المرة تبدو الاحتجاجات أكبر وأهم وأكثر قلقاً بالنسبة لإسرائيل، كونها مساهمة كبيرة في المعركة على الرواية في العالم، وفي الضغط على دولة الاحتلال.

الإدارة الأمريكية تشجع المظاهرات

ويرى مستشار الأمن القومي الأسبق الجنرال في الاحتياط غيورا آيلاند أن الإدارة الأمريكية تشجّع هذه المظاهرات داخل الجامعات، ويحاول التدليل على ذلك بالإشارة لاكتفاء وزير الخارجية بلينكن، حينما سئل عنها، أمس، بالقول إن الطلاب يعبّرون عن قلقهم عمّا يحصل داخل غزة”، منوهاً أيضاً لموقف البيت الأبيض، الذي يراها شرعية طالما بقيت سلمية.

 ويتابع آيلاند، في حديث للإذاعة العبرية العامة، اليوم: “هذا موقف لا يخلو من النفاق، وهذا كذب، فلماذا لم يحتج هؤلاء الطلاب على قتل نظام الأسد نصف مليون سوري وتهجير ملايين آخرين؟

ويزعم آيلاند أن الإدارة الأمريكية معنية بهذه المظاهرات لتغازل الفئات الشبابية والطلابية وتدفعها للتصويت للحزب الديموقراطي ومرشحه بايدن، وكذلك الضغط على إسرائيل لقبول صفقة، ولإنهاء الحرب على غزة، التي تقف حائلاً دون تقدم نظرية بايدن لإعادة ترتيب الشرق الأوسط بصفقة سياسية كبرى.

تغيير عميق في المجتمع الأمريكي

في المقابل، يتحفظ على هذه القراءة الباحث في شؤون الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب ميخائيل ميليشتاين، الذي قال للإذاعة ذاتها، صباح اليوم الثلاثاء، إن المظاهرات تأتي انعكاساً لتحولات عميقة داخل المجتمع الأمريكي، معتبراً حصر ما يجري بـ “اللاسامية” توصيفاً تبسيطياً غير دقيق. لكنه يتفق مع من يعتبرها خطيرة من ناحية المعركة على الرواية.

وينوه ميليشتاين بأن “حماس” وقطر تستفيدان من الاحتجاجات بل تقومان بتأجيجها، كما هو الحال في موضوع ملاحقة إسرائيل في محكمة الجنايات الدولية، ويضيف رافضاً اتهام الإدارة الأمريكية: “أمريكا الرسمية تتبنّى الرواية الإسرائيلية”.

يشار إلى أن طلاباً يهوداً في الولايات المتحدة وغيرها يشاركون في الاحتجاجات المناهضة لإسرائيل، وفي كولومبيا بالتحديد  شارك النادي الطلابي “الصوت اليهودي من أجل السلام” في تنظيم المظاهرات.

على خلفية انتشار نار الاحتجاجات في الجامعات داخل أمريكا وبدء انتقالها لدول أخرى، يحذّر المعلق الصحفي الإسرائيلي بن درور يميني، في مقال تنشره “يديعوت أحرونوت” بعنوان “بين الهاوية والحلم”، من عدة تطورات خطيرة في هذه الحرب، منها أوامر اعتقال للقيادة الإسرائيلية، واتساع الاحتجاج في الجامعات، معتبراً ذلك خطراً حقيقياً داهماً على مكانة وصورة إسرائيل، وأن صفقة كبيرة تشمل تطبيعاً مع السعودية فرصة للنجاة من الهاوية. ويتساءل يميني، كمراقبين محليين كثر، اليوم، عمّا إذا كان نتنياهو سيتسامى على حسابات فئوية خدمةً لمصالح عليا لإسرائيل.

إسرائيليون يتهمون الإدارة الأمريكية بتشجيع احتجاجات طلاب الجامعات لتحقيق أكثر من هدف

الطريق لمكافحة المظاهرات

يعتقد عاميت ياغور، عميد في الاحتياط في قسم التخطيط في جيش الاحتلال، وقائد سابق في الاستخبارات العسكرية البحرية، أن هناك حلاً للمظاهرات الخطيرة، ويقول إن جهات يهودية، وبعض الإسرائيليين سابقاً، يشاركون في تمويلها.

في مقال تنشره صحيفة “معاريف”، يقول ياغور إنه قبل أن تغمر المظاهرات العالم الغربي بـ “موجة لاسامية سامة” يمكن اقتلاعها من جذورها، منوهاً أنها نَبَعَتْ من اتساع ناجح لرواية “حماس” بأن إسرائيل تقوم بحرب تجويع وإبادة في غزة. ويرفض ياغور تقديرات إسرائيلية بأن هذه موجة عابرة، ويحذّر من تحوّلها لكرة ثلج متدحرجة تقود لاعتقال جنود وضباط إسرائيليين، ولاصطياد طلاب إسرائيليين ويهود في العالم. ويقترح مركبات دبلوماسية، منها حظر دخول لإسرائيل، حراك مقابل الخارجية الأمريكية، ومقابل كل ولاية أمريكية، تحديد ناشطين مركزيين في هذه المظاهرات، علاوة على “سحب البساط من تحت رواية الإبادة في غزة، وفضح ممولي الاحتجاجات، وشن حملة مضادة لهم في الصحافة الأمريكية، واستخدام تهمة اللاسامية، وعدم الاكتفاء بمجهود دعائي تقليدي.

في المقابل، تشكّك أوساط غير رسمية في إسرائيل بمثل هذه المقترحات، وتعتبرها وهمية، منبهةً لكون المظاهرات مرآة تعكس مشكلة خطيرة تتمثل بتحول مواقف الشباب الأمريكيين، بمن فيهم اليهود، ضد الاحتلال المتواصل وجرائمه وضد إسرائيل وتوجهاتها.

يضاف لذلك أن جرائم الاحتلال هذه المرة داخل القطاع كانت وما تزال كافية لترجيح كفّة الرواية الفلسطينية في العالم، وتحريك الجامعات داخل الدولة الحليفة ضد إسرائيل، وهناك من يتساءل بحق عن مدى استثمار الفلسطينيين لهذه التحولات لتقصير عمر الاحتلال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية