«قطط تعوي وكلاب تموء» قصص المصري أحمد عبد المنعم رمضان: رصد التحولات في غرائبية دراما الحياة

صابر رشدي
حجم الخط
0

في مجموعته القصصية الصادرة مؤخرا، يلجأ الكاتب أحمد عبد المنعم رمضان إلى التجريب، والعمل على موضوعات مغايرة، غير تقليدية، بدءا من العنوان «قطط تعوي وكلاب تموء»، الذي يكشف مبكراً أن هناك أشياء غير مألوفة، وأوضاعا معكوسة تحتاج إلى تعديل. فالطبيعي أن الكلاب هي التي تعوي، والقطط هي التي تموء، وأننا هكذا، منذ اللحظة الأولى، قد طرقنا أبواب الفانتازيا، والغرابة، وتشابك العوالم وعدم معقوليتها.
يمثل الحضور الكثيف لهذه الأشياء سمة أساسية في معظم نصوص هذا العمل المقسم إلى جزأين: «حيوانات المدينة» و«تائه في الغابة». كل جزء يحوي عددا من النصوص، تحكمها نبرة سردية موحدة، وتناغم واضح. فالذات الساردة واحدة، تتخذ زوايا متقاربة وهي تتطلع إلى ما يدور حولها، تنهل من الواقعي، من سجلات حافلة به، لكنها تلجأ إلى الخيال، إلى النأي إلى عوالم بعيدة، غير منظورة، وغير متوقعة، منددة بخفاء، بما يحدث من تقلبات في عصرنا، وبانهيار القيم، معطية مساحة واسعة للحيوانات التي تشاركنا هذا العالم، ولا نستطيع تجاهلها.
البطل شخص واحد، وحيد ربما، يغالب عزلته، ويؤنسها بمراقبة العالم، والتنصت إلى أدق التفاصيل، أحياناً من وراء باب مسكنه، أو من خلال فرجة الشيش الضيقة.
في قصة «بين فكي أسد» نحن أمام راوٍ يخبرنا بوصول رسالة إليه على بريده الإلكتروني، من إحدى الشركات التي راسلها من أجل وظيفة بها، بعدما فقد عمله السابق في جريدة لا يقرأها أحد، ورئيس تحرير كان يضطهده ويقوم بإذلاله على نحو متكرر، يصفه دائما بأنه جبان، لا يصلح لأن يكون صحافياً، أو فراشاً في جريدة. إنه القهر، والعمل على محو الشخصية، سحقها وتدميرها معنوياً. تنهض دراما الحياة وغرائبيتها عندما يبدأ هذا الشخص رحلة البحث عن العنوان المرسل إليه من هذه المؤسسة. هناك، في العمارة الموصوفة، اكتشف أن رقم الشقة لم يذكر، فيقوم بما يشبه المغامرة، طرق عدة أبواب، يفاجأ بأشخاص غريبي الأطوار، يصعد إلى طابق آخر، ثم يهبط، يقضي وقتاً طويلاً في عالم مقبض وقاتم. «الطريق» اسم الشركة، الدلالة والرمز جاهزان للعمل، بداخلهما كل المعاني المتخيلة. عند الخروج، أو بمعنى أدق الفرار من المكان، كادت تدهسه سيارة، يكتشف أن سائقها أحمد عسكر زميل دراسة، وأنه مدير بشركة «الطريق». يدعوه عسكر إلى حفل في قصره، ثمة أحداث لا تقل غرابة يقابلها هناك، تنتهي بمواجهة أسد، وجها لوجه. في النهاية يلخص الرواي ما حدث على نحو كافكاوي بعد ترك بطولة الجزء الثاني للنص لهذا للأسد القادم من لعبة تهريجية:
«طال انتظاري أكثر مما توقعت، ولكني لم أجرؤ على إعادة فتح عيني إلا بعد دقائق طويلة، ساعات ربما، كلما هممت بفتحها عاندتني، إلا أنني فعلت أخيراً، بترو وخوف، لم أجد أثراً لكل الصخب والجلبة السابقين، لم أجد شيئاً على الإطلاق، لا أثر للحفل أو المسابقة أو القصر، لا أسد ولا زئير، وحدي أجلس منكمشاً بجوار سور متهالك وسط صحراء ممتدة، أستند إليه كجنين في وضع التكوير، استرخيت وفردت ساقي تدريجياً، ثم زحزحت ظهري رويداً رويداً حتى صرت مستوياً على سطح الأرض كورقة شجر سقطت ولم ينتبه لها أحد، فجأة انتهى كل شيء وهدأ كل الضجيج وانطفأ كل الصخب، ونمت».
يؤمن الكاتب أحمد عبد المنعم رمضان بمقولة غابرييل غارسيا ماركيز، بأن التخيّل ما هو إلا أداة لبلورة الواقع، وأن الواقع دائما هو مصدر الخلق، وهو الذي يبقى في نهاية الأمر، مستخدما كثيراً هذه القاعدة، بقسط كبير من النجاح.
عن اضطراب الحواس، والتشوش، وعن حيوان ينظر له بعداء تاريخي، عقائدي، يذهب رمضان إلى عالم يبدأ مثالياً؛ ثم ينقلب رأساً على عقب، في حوار داخلي مكتوب على مهل، وبنظرة حساسة إلى طبيعة الحكاية. ففي قصة «أنوف الخنازير» تستيقظ المدينة على رائحة مختلفة، لا أثر للأتربة، أو رائحة البهائم التي تنثر روثها في كل مكان، تلاشت رائحة الغبار الممزوج بالعفن التي كانت تملأ الأجواء، روائح القمامة، عرق البشر. نحن أمام مدينة تتطهر، تكتسي بالورد والرياحين والروائح الزكية. حتى الخنازير التي كانت ترعى في العفن، وتستنشق القذارة بأنوفها الحمراء الضخمة، صارت أنوفها صغيرة ورائحتها طيبة. من الطبيعي أن تدخل السياسة، تتسلل إلى هذا النص، من خلال رموز معينة، ومضات تبرق بسرعة ثم تختفي؛ حتى لا تثقل الحكاية، لكنها تكشف عن تغيير عميق، سهل الاستنتاج عند التدقيق فيما يحدث حولنا، في البنية الاجتماعية، والسياسية. ادعى البعض أن الروائح السابقة هي رائحة العدو. مرت الأيام، ظلت الأمور كما هي، احمرت السماء أيضاً، تنازلت عن لونها الأزرق الأبدي. هنا بدأ الرعب، ماذا سيحمل لهم الغد. هل تتغير أشكالهم وألوانهم؟ هل يسخطون قروداً؟ هل تتبدل أنوفهم لتحل محلها أنوف الخنازير؟ أسئلة ظلت معلقة، تؤرق لياليهم المسهدة. إنها أفكار مجتمع مأزوم، لا يتوقع الأفضل، يرى أن الأوضاع المثالية الطبيعية ليست من نصيبه. يختتم الكاتب قصته بتحقيق توقعات الناس، عودة كل شيء إلى سابق عهده، الروائح المنتنة، الخنازير لقذارتها.. إلخ: «ارتاح الجميع واستنشقوا الهواء القذر بشراهة مفرطة واستمتاع لافت، تثاءبوا في اللحظة نفسها حتى اهتزت الأرض تحت أرجلهم، تثاءبوا برضى وارتياح، حمدوا ربهم، وصلّوا شكراً لله الذي رفع غضبه عنهم، وخلصهم من روائح المسك وعبير الورود، وأعادهم من جديد لما اعتادوه من روائح وألوان وأشكال وحياة». نهاية عقابية، لنص يحتاج إلى أكثر من تأويل، فهو يطوي بداخله طبقات متعددة، مشحونة بالرمزية، والدلالات، والمعاني المثيرة، التي تتفجر مع كل محاولة للقراءة المدققة.
يجرب القاص في أكثر من نص، يلعب، يترك لجموحه العنان ليصل إلى نقاط مثيرة، يبدأ من الواقعي، ويعود إليه في نهاية المطاف. أو كما يقول ألان روب غرييه»عن نفسه إنه يعمل على واقع يسوده حضور مكثف للأشياء التي توصف لذاتها بعيداً عن أي حضور إنساني.
يستعير رمضان من عمله كطبيب، مشهداً مثيراً من أيام الدراسة في قصة «درس التشريح»، يعيد تشكيله فنياً وفقاً لعالمه القصصي، مختبراً به أفكار بطله، وأحلامه، وأشياءه المخفية عن العيون. إنه يفتتح المشهد ببرولوغ مزلزل، يمهد به لما سيجري، كما يحدث في التراجيديات القديمة، وكأنه يضع هذا الافتتاحية، المليئة بألوان الرعب، على لسان جوقة من المنشدين: «اليوم درس التشريح، اليوم يأتي الطلاب بمشارطهم وأعينهم وحواسهم مسنونة من أجل الفرجة على عملية التشريح، واليوم تنقبض القلوب ويسري الدم في العروق وتخرج الأنفاس وتدخل وتتحول السحب في سماء الحجرة وتشرق الشمس من مغربها وتغرب من مشرقها، اليوم يتم القمر ويشع الضياء… اليوم حصة التشريح».
يدخل بعدها إلى خشبة مسرح القصة مدرس الطب، بملابس رثة وهيئة مزرية، بقفازين في يديه، يمسك سكيناً بدلاً من المشرط، ينظر إلى القمر المغطى بالغيوم في طرف الغرفة ثم يقول: «من سنقوم بتشريح جثته الليلة؟». مهاد سردي يجذب القارئ، يشد انتباهه بقوة للمتابعة وترقب الأحداث، الذات الساردة تقوم بدور المرشد إلى ما يجري، وكأنها ذات منفصلة عن الأحداث: «سأكون أنا الجثة اليوم». ثم يستلقي على الطاولة بتحدٍ، يبدأ المدرس عمله حاملاً منشاراً أو ربما ساطوراً، موجها نصله إلى جسده، يفتح صدره، يمد يده يخرج قطعة حمراء نابضة بالدم. بحيادية تلك الذات المنفصلة عن الأحداث، والتي مازالت تصف المشهد من خارجه تستغرق في وصف الآتي: «أشار لنا المدرس أن ننظر إلى تلك القطعة قائلاً: هذا هو القلب ياسادة» يمضي بعدها في شرح فوائده، لكنه يقرر إنه ليس بالأهمية الكبرى كما يظن البعض، وأنه يمكن الاستغناء عنه، وأن هناك مراكز كبرى وسلطات تشترط في موظفيها عدم وجود القلب، وبعض الدول تحكم بالإعدام على أي مواطن يتبين أنه مازال يحمل بداخله قلباً نابضاً.. يذهب المدرس إلى تقسيم قلب الطالب بالسكين وفتح حجراته، واحدة وراء الأخرى. هنا يستبدل أحمد عبد المنعم رمضان التحليل النفسي والعمل على الاستبطان الداخلي، إلى التشريح الفسيولوجي للقلب، التوغل في أركانه المظلمة، إخراج كل العوالم المخفية إلى النور: قصص الحب، الفتيات الجميلات، البشر المكروهين، لحظات السعادة والموسيقى، عالم زاخر بالأشياء المهمة والأشياء عديمة القيمة، الحقائق الإنسانية، الأكاذيب، كل ماله صلة بالوجود.
الرعب مكون أساس في هذه المجموعة، حاضر بقوة، كأنه صار معتاداً، لا يخيف أحداً، يتعامل معه الجميع كشيء طبيعي، انعكاساُ لتغيرات جذرية تسري بخفاء في نسيج الحاضر، عالم مربك، من الصعب العثور فيه على الأمان والطمأنينة. نعثر على هذه السمات المستحدثة داخل قصة «حادث قتل جماعي». جريمة قتل في رابعة النهار، شاب عشريني، تدهسه سيارة، تقذف به بعيداً، يرتطم بالأرض، يجده المارة ينزف بغزارة وبجواره بائع فاكهة حاملاً سكينه المقوسة مطلية بلون الدم. هنا، في تلك اللحظة، تبدأ القصة: انقسام الشهود، أمام خيارين لا ثالث لهما: من القاتل؟ سائق السيارة أم بائع الفاكهة؟ الجثة تنزف، الخلاف السوفسطائي يزداد، الجثة ملقاة بإهمال، الشهود يتشاجرون، فريق آخر يرى أن الشاب مسؤول عن موته بوقوفه في هذا المكان، حتى أن أحدهم كاد يبصق عليه. السائق والبائع وقفا صامتين، يترقبان هذه الخلافات العنيفة. حتى يكتشف أحدهم أن الشاب ما زال يتنفس وأن دقات قلبه مستمرة، وعليهم أن يسارعوا إلى نقله إلى مستشفى قصر العيني. تبدأ لعبة الانقسامات مرة أخرى، على نحو أشد وطأة. لقد تهرب رجل الأمن، تهرب الجميع من المسؤولية، انفض الزحام الكثيف على لا شيء، ترك الشاب على الأرض ينزف روحه ودمه بين السائق والبائع. نهاية مأساوية، شخصيات مزروع بداخلها الخوف، تغطيه بالسفسطة والجدل، غير قادرين على إنقاذ جثة رمزية من الموت، ولا يستطيعون الاتفاق والإشارة إلى القاتل، شخصيات أضاعوا الحقيقة بينهم، يلاقون حتفهم فردا وراء الآخر، وهم مشيعون بالثرثرات العقيمة، والتخاذل، وردود الأفعال المحبطة.
لقد استطاع أحمد عبد المنعم رمضان رصد التحولات الدراماتيكية المعاصرة، عبر أكثر من حيلة فنية، وبتكنيكات ذكية في معظم قصصه، مستفيدا من المجاز والغرابة والفانتازيا، مجرباً تيمات مختلفة، وجامحة، ليصل في النهاية مع القارئ إلى نتائج غير متوقعة.

أحمد عبد المنعم رمضان: «قطط تعوي وكلاب تموء»
دار الشروق، القاهرة  2023
120 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية