قراءة نقدية في نتائج الانتخابات المحلية التركية

تُعدّ الانتخابات المحلية في أي بلد من المؤشرات الملموسة التي تجسّد توجهات الناس في مختلف المناطق. ورغم أن نتائجها لا تتطابق دائماً مع نتائج الانتخابات العامة، سواء التشريعية أم الرئاسية؛ ولكنها بصورة عامة تلقي الأضواء على تحوّلات في المزاج الشعبي العام والميول والتوجهات السياسية، وتوحي بحدوث متغيّرات في الخريطة السياسية. ما لم تُتخذ خطوات فاعلة ثابتة، ومراجعات معمقة بقصد معرفة الحقائق، لا بهدف تبرئة الذات أو التعمية؛ مراجعات تضع حداً لجملة الأخطاء التي تتراكم عادة، وتتفاعل كلما طالت فترة البقاء في الحكم، وغابت المساءلات المطلوبة، والمحاسبات الملموسة التي من شأنها تهيئة الأرضية للتعامل مع التحديات الجديدة بعقلية نقدية، وأساليب جديدة، تتجاوز القوالب القديمة التي ربما كانت إيجابية، مفيدة كافية في مرحلة من المراحل، بفعل الإنجازات التي قد تكون شكّلت علامة فارقة في ما مضى، ولكنها مع الوقت أصبحت عديمة الجدوى، أو فاقدة التأثير بفعل تآكل المصداقية نتيجة تراكم الفساد، وعجز الحلول المقترحة عن مواكبة مستوى التحديات، واخفاقها في تحديد ماهية الاشكاليات المطروحة، ونوعية المعالجات التي تستوجبها.
والنتائج التي أسفرت عنها الانتخابات المحلية التركية تتقاطع في أوجه كثيرة مع ما تقدّم، وهي نتائج كانت مفاجئة بالنسبة إلى الكثير من المحللين والمتابعين للشأن التركي؛ وذلك بناء على معارفهم السابقة، واعتقادهم بقوة شعبية حزب العدالة والتنمية، وبفاعلية دور الرئيس رجب طيب أردوغان شخصياً، وقدراته الاستثنائية في ميدان التأثير في الرأي العام التركي، والتواصل مع الأوساط الشعبية، وخطاباته التعبوية إذا صح التعبير، وبراعته في التبديلات السياسية، ومهاراته في ميدان إغلاق الأبواب أو فتحها في علاقاته مع القوى الإقليمية والدولية.
ولكن ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات بيّن أن كل ذلك لم يمكّن حزب العدالة من التغطية على الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعاني منها تركيا راهناً، وهي أزمة تتمثل في انهيار قيمة الليرة التركية مقارنة مع الدولار، إلى جانب الارتفاع الحاد في نسبة التضخم، وكل ذلك أدّى، وسيودّي، إلى ارتفاع غير معقول  في الأسعار، إلى جانب زيادة نسبة البطالة. هذا مع أهمية الإشارة إلى ما كان يعاني منه المتقاعدون أصلاً من ظروف اقتصادية صعبة؛ وهم، كما هو معروف من أكثر الشرائح المجتمعية تأثراً بالأزمة الاقتصادية، لأن رواتبهم، الشحيحة أساساً، تعرضت لانكماش كبير بلغ مستويات قياسية مقارنة بما كان عليه الحال قبل نحو عقدين من الزمن أو ربما أكثر. وقد دفعهم ذلك إلى العزوف عن التصويت، أو الامتناع عن التصويت لصالح حزب العدالة والتنمية كما كانوا يفعلون عادة، وفي الحالتين تعّرض الأخير لانتكاسة انتخابية كبيرة، وذلك نظراً للوزن الانتخابي الكبير الذي يحظى به المتقاعدون في المجتمع التركي.
ورغم كل الحلول الإسعافية التي لجأ إليها وزير المالية والخزانة محمد شيمشك، أو تلك التي حاول أن يطبقها، ظلت الأزمة مستمرة، بل تعمقت أكثر لتصبح أشد ثقلاً على ذوي الدخل المحدود.

ظهور أحزاب جديدة

إلى جانب العامل الاقتصادي، هناك جملة عوامل أخرى، منها حزبية خاصة بحزب العدالة والتنمية نفسه، ومنها ما له صلة بظهور أحزاب جديدة تنافس حزب العدالة وحليفه حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهتشلي على صعيد الأيديولوجيتين الدينية والقومية، ويُشار هنا إلى حزب السعادة بقيادة تمل كارامول أوغلو، وحزب الرفاه الجديد بقيادة فاتح أربكان نجل نجم الدين اربكان استاذ قيادات حزب العدالة وفي مقدمتهم أردوغان نفسه.
هذا إلى جانب الانشقاقات الداخلية التي أدت إلى خروج شخصيات قيادية مؤسسة معروفة من حزب العدالة، مثل علي بابا جان الذي أسس حزب التقدم والديمقراطية، وأحمد داود أوغلو الذي أسس حزب المستقبل. ورغم عدم تحقيق تلك الأحزاب والشخصيات نتائج لافتة مؤثرة في الانتخابات الأخيرة، إلا أن خروجها من حزب العدالة والتنمية، ومنافستها له كانا من بين العوامل الحاسمة في إضعاف شعبية الحزب، وفقدانه للزخم الذي كان قد مكّنه من الفوز في سائر الانتخابات العامة والمحلية التي خاضها بقيادة عبدالله غول عام 2002-2003 ورجب طيب أردوغان في الفترة ما بين عامي 2003 و 2023.
بالإضافة إلى العاملين المذكورين، كان لإخفاق حزب العدالة والتنمية في عملية الوصول إلى حل عادل للمسألة الكردية في تركيا على قاعدة وحدة الشعب والوطن، التأثير الملموس في تراجع شعبية حزب العدالة، وعجزه عن بناء تحالفات انتخابية متوازنة مستقرة في مواجهة المعارضة على وجه العموم، وحزب الشعب الجمهوري على وجه التحديد.
فحزب العدالة لم يطرح برنامجاً خاصاً به بشأن حل المسألة المعنية بغض النظر عن التوافق أم عدم التوافق مع حزب العمال الكردستاني وواجهته السياسية حزب الشعوب الديمقراطي (الذي غير اسمه ليصبح حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، وذلك لتحاشي قرار الإغلاق من جانب المحكمة) وهو الأمر الذي مكّن الحزب الجمهوري من استغلال الوضع، وعقد الصفقات مع الحزب الأخير، حتى ولو على المستوى التكتيكي الذي لم يرتق إلى درجة التوصل إلى حل جذري شامل للمسألة الكردية.
ومما هو جدير بالذكر في هذا المجال هو تمكن حزب الشعب الجمهوري بسياسته الداخلية، وتوجهه نحو الجمهور الكردي، من كسب الكثير من الأصوات في اسطنبول (التي فاز مجددا برئاسة بلديتها) والولايات الشرقية؛ وربما ساعد هذا التوجه، إذا تمكن حزب العدالة من بناء التفاهمات مع حزب الشعب الجمهوري على فتح المجال أمام حل وطني شامل للمسألة الكردية في تركيا، الأمر الذي سيساعد حزب العدالة على التحرر من قيود ومآلات التحالف مع حزب الحركة القومية التركي المتشدد، ويقطع الطريق على الأحزاب القوموية الأخرى المتطرفة العنصرية. وربما يفتح المجال أمام عودة قيادات وكوادر حزب العدالة والتنمية المؤسيين والمؤثرين الذين غادورا الحزب لأسباب عدة من بينها توجهه القوموي الانعزالي.
ومن بين الأسباب الداخلية الأخرى التي أدت إلى تراجع شعبية حزب العدالة في الانتخابات المحلية الأخيرة، تجدر الإشارة هنا إلى زيادة القيود على حرية الإعلام والصحافيين، وقد استغلت المعارضة هذا الموضوع  إعلامياً وشعبياً. كما كان للتشكيك في نتائج الانتخابات في بعض الولايات أثر كبير في تراجع الثقة بنتائجها، وسيكون لهذا الأمر نتائج سلبية كبيرة مستقبلاً، ما لم يتم تدارك الموقف عبر معالجة السلبيات، والتعامل مع الانتقادات بجدية ومسؤولية.
من جهة أخرى، أدت السياسات الإقليمية والدولية المضطربة التي اعتمدتها حكومة حزب العدالة إلى خلخلة في الموقف التركي، وأضعفت مصداقيته. ويُشار بخصوص هذا الموضوع إلى صفققة شراء منظومة صواريخ الدفاع الجوي 400 الروسية؛ والتناغم مع الأيديولوجية الأوراسية التي يبشّر بها الكسندر دوغين المقرب من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وهي تشكّل الأرضية النظرية للحركة السياسية الروسية التي تأست عام 2001، وتعد مزيجاً من القومية الروسية والعقيدة الارثوذكسية؛ وتعادي الحداثة، وتعارض الليبرالية؛ وكل ذلك ألقى بظلال ارتيابية على علاقات تركيا الأطلسية والغربية بصورة عامة، ومع الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التخصيص.
كما أن انخراط تركيا في مسار أستانا منذ عام 2017 إلى جانب كل من روسيا وإيران، انعكس سلباً على علاقاتها العربية، ومع السوريين المناهضين لسلطة آل الأسد تحديداً. والأمر ذاته بالنسبة لحصيلة موقف حزب العدالة غير الواضح من الحرب الإسرائيلية على غزة، الأمر الذي ألزمها باعتماد سياسة دفاعية في مواجهة الأحزاب والقوى والشخصيات التي تتشارك مع حزب العدالة في الخلفية الأيديولوجية الدينية.
تركيا دولة إقليمية هامة أساسية في المنطقة. لها وزنها المستمد من جغرافيتها الواسعة، وحجمها السكاني الكبير، إلى موقعها الجيو سياسي المتميز بفعل توسطها بين دول آسيوية وأوروبية أو قربها منها، وكل ذلك يمنحها دوراً استراتيجياً ضمن الحلف الأطلسي.
وحتى يصبح الوضع الاقتصادي الاجتماعي والسياسي التركي الداخلي، والدور السياسي الإقليمي والدولي في مستوى هذه الامكانيات، لا بد أن تتصالح تركيا مع ذاتها، وتعيد ترتيب بيتها الداخلي، ليتحول التباين السياسي والمجتمعي إلى عامل تفوّق، يفتح الآفاق أمامها لتبني جسور التواصل مع جوارها الإقليمي والمحيط الدولي العام.
*كاتب وأكاديمي سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية