في معرض الفنانة التونسية زينات التريكي في برج القلال الذاكرة المفقودة وتحدي الزهايمر

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: في معرضها الشخصي الثاني، تدخل الفنانة التشكيلية التونسية زينات التريكي عالم الذاكرة المفقودة لوالدتها التي ألم بها مرض الزهايمر، وتبدع لوحات طينية في تحد لهذا المرض من جهة، وفي حنين للوالدة المريضة رغبة في مشاركتها لألمها من جهة أخرى. فتحول هذا المرض لدى زينات التريكي من سبب للحزن والألم، إلى وسيلة للالهام والإبداع في محراب الفن التشكيلي، حيث قداسة الفن تلغي كل القيود الممكنة وتتجاوز حدود المألوف وتطرق أبوابا لم تفتح من قبل لتلج إلى عوالم جديدة تحقيقا للإبداع المنشود.
وبالتالي فقد حملت هذه المجموعة من الأعمال الفنية التشكيلية المعروضة من 20 إلى 31 كانون الثاني بفضاء برج القلال بمدينة صفاقس جنوب شرقي البلاد التونسية عنوان «الزهايمر: فن النسيان». وهو المعرض الثاني في مسيرة الفنانة التشكيلية زينات التريكي التي كانت لها أيضا معارض مشتركة مع فنانين تشكيليين آخرين ساهمت في ولوجها إلى عالم الإبداع والرسم الخزفي أو الرسم من خلال الطين ونحتت من خلال هذه المعارض إسمها مع كبار الفنانين.

فضاء مناسب

ويبدو الفضاء الثقافي برج القلال بقرمدة من ولاية صفاقس مناسبا لهذا المعرض التشكيلي القائم على موضوع الذاكرة باعتباره يختزن ذاكرة عائلة القلال الصفاقسية التي تبرعت به ليتم تحويله إلى مركز يشع ثقافة وإبداعا على مدينة صفاقس والجنوب الشرقي وكل ربوع الخضراء. لقد تم وضع هذا الفضاء الجميل على ذمة جمعية أحباء الفنون التشكيلية بالجهة للقيام بأنشطتها المختلفة ولاستغلاله أيضا من قبل كل الشرائح والأعمار في مختلف الأنشطة الثقافية وفي معارض الصناعات التقليدية والحرف والورش المتخصصة في الإعلامية وغيرها من الأنشطة.
ويتميز البرج بنمطه العمراني التقليدي الفريد وهندسته وزخرفه العتيقة والجميلة وهو من الأبراج القليلة التي بقيت في حالة حسنة بمدينة صفاقس عاصمة الجنوب التونسي وقطبه الاقتصادي الصناعي. ويختزل هذا البرج التحفة ذكريات جميلة عن مدينة صفاقس وجنانها حيث كانت تقام فيه السهرات الفنية والموسيقية والمآدب وتعرض فيه المسرحيات وغيرها من الأنشطة المختلفة في مدينة تتنفس ثقافة وأنجبت مثقفين وفنانين بالجملة.

مسيرة هامة

ولزينات التريكي مسيرة علمية أكاديمية هامة، فهي تقوم بتدريس الفن بالمعهد العالي للفنون والحرف بسيدي بوزيد بوسط البلاد التونسية كما أنها فنانة تشكيلية في مجال الخزف، وتتنقل الفنانة والأكاديمية يوميا بين مدينة سيدي بوزيد حيث تعمل وصفاقس مدينتها الأم حيث تقيم. وعادة ما يكون التنقل والترحال اليومي بين المدن مصدر إلهام للفنان مهما كان اختصاصه بالنظر إلى الصور والمناظر الطبيعية التي تتجلى على طول الطريق والتي تختزنها ذاكرة الإنسان العادي فما بالك بفنان تشكيلي لديه إحساس مرهف وقدرة على النفاذ إلى أدق التفاصيل.
وتظهر زينات التريكي من خلال ما تم عرضه من أعمال فنية ولوحات تشكيلية، سواء في هذا المعرض أو المعرض الذي سبقه أو من خلال ما تم عرضه بصورة مشتركة مع فنانين تشكيليين آخرين، تميزا واضحًا في التعامل مع المواد الأولية الموظفة في لوحاتها. حيث تقوم بترويضها بداية ثم تعيد تشكيلها من جديد من أجل الحصول في نهاية المطاف على لوحات تشكيلية جدارية مدهشة مرصوفة بشكل متقن ولافت لا يمكن فك شفرتها الإبداعية من قبل أي كان.

التحدي والمقاومة

وتهدي زينات التريكي المجموعة الجديدة من أعمالها الفنية المعروضة ببرج القلال لوالدتها التي تعاني من مرض الزهايمر وفقدان الذاكرة، حيث ربطت الفنانة هذه المجموعة من أعمالها الفنية بذاكرة والدتها المفقودة جراء هذا المرض الذي أصبح مرض العصر بامتياز. وبعمق الروح واليدين المبدعتين في تشكيل الخزف، تُجسِّد التريكي ذاكرة والدتها وتحاول تمثيل النسيان والفناء، والفقدان المزدوج، وغيرها من الثنائيات المتعلقة بوالدتها والذاكرة المفقودة جراء مرض الزهايمر.
تُظهر الفنانة من خلال إبداعاتها أن الفن هو تجربة إنسانية بالأساس وهو نابع من تجارب ذاتية ومن صراع داخلي يخوضه الإنسان مع نفسه ليتغلب على عديد العوائق الحياتية وليتحدى الصعاب ومنها المرض الذي يلم بالشخص نفسه أو بأقرب الناس إليه. ولكل شخص طريقته في تحدي الأمراض والعاهات سواء من خلال العلاج المستمر والحرص عليه أو اللامبالاة وعدم الاهتمام أو التعايش والتأقلم برباطة جأش وصبر واحتساب. لقد اختارت التريكي التحدي من خلال الفن، وهو تحد من نوع خاص وغير مألوف، وكأنها تقول لهذا المرض اللعين أنت لا تخيفنا وها نحن نتحداك ونحولك إلى أعمال فنية ونستفيد من وجودك غير عابئين بإزعاجك لنا ولا بمحاولاتك لمحو ذاكرتنا التي ستبقى خالدة خلود العمل الفني.

ذاكرة متناثرة

تبدو لوحات الفنانة التريكي في هذا المعرض محاصرة بهذا التناقض والصراع بين الذاكرة والنسيان، حيث تلتصق قطع متناثرة بأسطح متضاربة، كما لو كانت تواجه تمردًا على السائد، فتختلط البقع وتتأرجح الألوان والدرجات الداكنة لتعطي انطباعًا بالفوضى والتلاشي. كل شيء في هذه الاستعارة يقترح تآكلا ما يتحول تدريجيًا إلى ذاكرة غبارية وعبثية تؤدي إلى النسيان، فيبدو كل شيء من خلال هذه اللوحات مهددًا بالنسيان والتناثر والمحو والإندثار والزهايمر انطلاقا من الفجوة البيولوجية البارزة في الذاكرة.
لكن قد تتبادر إلى الذهن أيضا قراءة أخرى مختلفة لهذه اللوحات مشحونة بالأمل، إذ تبدو الرسومات الطينية أيضا كأنها جهد فكري كبير وجبار يخوضه العقل لإخراج بعض الأطياف التي غابت ملامحها في ذاكرة النسيان في هذه اللعبة من التذكر. تحاول هذه الأطياف البروز والصعود إلى السطح والتشكل التدريجي من جديد وذلك رغم صعوبة المهمة باعتبار الدمار الهائل الذي ألم بالذاكرة وأغرقها وجعلها نسيا منسيا، وهو ما يبعث الأمل في فرضية الشفاء من هذا الكابوس المؤرق المسمى الزهايمر.

حسن التوظيف

في حديثها عن هذا المعرض التشكيلي لـ«القدس العربي» تعتبر الإعلامية التونسية المتخصصة في الشأن الثقافي سامية حرار أن الفنانة التشكيلية زينات التريكي وظفت تجربتها الشخصية أحسن توظيف في هذا المعرض في تصوير معاناة الإنسان مع فقدان الذاكرة فأبدعت بشهادة من سنحت لهم الفرصة واطلعوا على هذه التجربة الفريدة من نوعها التي تحول فيها الخزف، بحسب حرار إلى شكل تعبيري عن معاناة الإنسان. وترى محدثتنا أيضا أن الفنانة زينات التريكي عبرت بوسائلها الخاصة وطريقتها عن حبها الكبير لوالدتها ومساندتها المطلقة لها في معاناتها في عمل بدأ الإعداد له منذ سنة 2022 وتواصل حتى بداية هذا العام.
وتضيف حرار قائلة: «لقد كان اختيار الفنانة للفضاء الثقافي برج القلال خيارا صائبا باعتبار جمالية المكان وأصالته باعتباره من المباني العتيقة المحافظة على الطابع المعماري المتميز لمدينة صفاقس التي اشتهر أهلها بذوقهم الفني الراقي وبمحافظتهم وتمسكهم بأصالتهم وعاداتهم وتقاليدهم. كما أن الفضاء الثقافي برج القلال مكان مليء بالذكريات القديمة سواء ذكريات عائلة القلال والمقربين منهم من باقي أفراد العائلة والأصدقاء أو ذكريات السهرات والحفلات الفنية التي احتضنها في الماضي وجعلت منه منذ القديم منارة فتية وثقافية بجهة صفاقس، وبالتالي فهو الفضاء المثالي لتنشيط الذاكرة وانتشالها من غياهب النسيان والزهايمر الذي ألم بها».

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية