في خلفيات أزمتنا السياسية: ثقافة الاستبداد والتدين الحزبي!

حجم الخط
1

التطرف والعمليات الانتحارية يدلان على العدمية السياسية وهما نتاج لقرون من التخلف، ولكن تم انضاج هذه الثقافة الانتحارية في ظل الدولة الوطنية التي تأسست مطالع القرن الماضي، وهي دولة الاستبداد والحرمان التي تم استبدالها لاحقاً بدولة الحزب الواحد ولكن بنفس الثقافة.
وفي خلفيات ذلك نشأت ظواهر سياسية روّجت للاستبداد وسوقته كثقافة عامة داخل الدولة وخارجها ما خلق ردات فعل أكثر سلبية كانت ثقافة الإنتحار ذروتها. هنا ملاحظات عن إحدى تلك الظواهر وهي التدين الحزبي: معنى التدين الحزبي هو تحويل أيديولوجيا الحزب إلى دين بحيث تُصبح مفاهيمه وشعاراته وأوامر قيادته من المقدسات، بينما تكون معارضته أو الاختلاف معه أو نقد قيادته عملاً مدنساً أو مشبوهاً! وهذا يدل على انغلاق ثقافة الحزب الإيدولوجي على نفسها وعطب العقل عند حامليها.
لا علاقة للأديان السماوية بنزعة التدين الحزبي المقصودة هنا رغم إن الأحزاب الدينية، إلى جانب الأحزاب القومية واليسارية، هي أساس الأحزاب الإيديولوجية. ولا تقتصر ثقافة المقدس والمدنس على الأحزاب الدينية فقط، بل إن عملية التثقيف في الأحزاب اليسارية والقومية تُكّرس نزعة التديّن الحزبي أيضاً، أي تقسيم العالم إلى مقدس ومدنس استناداً إلى قرب الآخرين أو بعدهم عن الحزب ومواقفه!
فأيديولوجيا الحزب وقيادته وتعاليمه محصنة أمام النقد ولا يجوز المس بها أو الاعتراض عليها وإلا سَتُتّهم بالتحريفية أو الجهل أو العمالة! وهذه النزعة المتخشّبة dogmatic ذاتها هي القاسم المشترك بين الأحزاب الأيديولوجية عموماً، إنها ثقافة الخوف من النقد، ثقافة الريبة والتطيّر السياسي التي هيّأت المناخ لتسويق نظرية (المستبد العادل) كتعويض عن فقدان الشرعية الدستورية، فمارس الرئيس القائد عدالته إلى أن أوصل الأوضاع إلى ما وصلت إليه سوريا والعراق وليبيا .. الخ!
إن التدين الحزبي الدوغمائي هو مقتل السياسة لأنه ينقلها من واقعيتها التي تحتمل الخطأ والصواب، إلى المقدس والمُدنس حيث يتلاشى الاجتهاد أو النقد. لقد حوّلت الأحزاب الدينية الإسلامَ من دين تظلله رحمة رب العالمين ويدعو صراحة للحوار (وجادلهم بالتي هي أحسن) إلى أيديولوجيا أحادية الجانب تُنتج القمع والتزمت! بينما حوّلت الأحزاب القومية واليسارية أيديولوجياتها إلى دين وأوامر مقدسة!!
ومن حيث الأهداف السياسية فإن هذه الإتجاهات الحزبية الثلاثة القومية والدينية واليسارية هي وجوه متعددة لعملة واحدة، إذ تنظر جميعها للدولة بصفتها غنيمة، إذ تصبح أجهزة الدولة وسائل للهيمنة على المجتمع وليس حمايته. هذا المناخ هو الذي أنتج ثقافة الاستبداد، فالاستبداد هو القاسم المشترك الثاني بينها. هذه هي الأحزاب التي تتحكم بمعادلات الصراع في غالبية بلداننا منذ أكثر من ستين سنة.
إنها احزاب الاستبداد التي أغلقت الطريق على بوادر التطور الاجتماعي، إذ عوّقت تطور الطبقة الوسطى الصناعية والزراعية وأحلت محلها أجهزة الأمن وبيروقراطية الدولة فمات أو تعثر سوق العمل وتخلّفت الخدمات العامة! فاختنقت بلداننا بالأزمات التي أدت بالتراكم إلى ثورات الربيع العربي 2011 التي لم تنته فصولاً.
وإذا كان النظام الديمقراطي يفتح الأبواب لمساهمة الأجيال المتتالية في التطور الاقتصادي والحضاري، فإن حساسية الأحزاب الأيديولوجية من الديمقراطية ومبدأ التداول السلمي للسلطة، يعود إلى كون ثقافتها تنطوي على الكثير من الخيال والادعاءات التي يُراد إحلالها محل الواقع، فلطالما باعت هذه الأحزاب مزيداً من الوعود الكاذبة للمواطنين المكبلين بالحرمان والأزمات. وإذا حدث وأن حقّقت بعض المكتسبات المهمة اقتصادياً أو عمرانياً أو خدمياً، فسرعان ما يتم تعويقها إما بسبب استشراء الفساد أو انعدام تكافؤ الفرص، أو إن كلَّ شيء سرعان ما ينقلب خراباً بسبب الحروب والمغامرات العسكرية!
إن تغييب النقد والشفافية في الوصول إلى المعلومات هو القاسم المشترك الثالث بين أنظمة الاستبداد، أنظمة الحزب الواحد، فخلال حكم البعث من 1968 إلى 2003 لم يكن يُعلن عن قيمة واردات النفط أو الموازنات السنوية، فقد كانت تُعتبر من أسرار الدولة وكأن الدولة والمجتمع على طرفي نقيض! أما بعد استلام الأحزاب الدينية للسلطة فقد حلتَّ ديمقراطية نهب المال العام والشهادات المزوّرة محل الشفافية والتنمية!
ومع انعدم الأمن والاستقرار أصبحت داعش والميليشيات المسلحة تصول وتجول في طول البلاد وعرضها كتعبير عن رجاحة عقل رئيس الوزراء وحزبه المقدام! ما يدل واقعياً إن الحزب الديني هو وجه آخر للحزب القومي. لقد سقطت الديكتاتوريات وأنظمة الاستبداد لكن ثقافة التدين الحزبي لم تسقط بعد، ولن تسقط بسهولة لأنه مرتبط بميراث متراكمة منذ قرون. وعندما تريد من المجتمع أن يتخلى عن عادات ثقافة معينة يجب أن تهيأ له ظروف ومعادلات عيش جديدة تُمكّنه من إنتاج ثقافة حقوقية مختلفة أكثر جدوى وفائدة. إن نقيض التدين الحزبي هو التحزب الحر، وهذا ما تحتاجه الشعوب التي تبنت الخيار الديمقراطي. إن الإبتعاد عن أوهام التدين الحزبي يحدث بالتدريج كلما وجدت الشعوب مصلحتها في التبادل السلمي للسلطة وتفعيل الرقابات الرسمية والإعلامية. وعاجلاً أو آجلاً ستكتشف شعوبنا حاجتها لأحزاب سياسية مدنية تعقد مؤتمراتها في الهواء الطلق وتُعيد انتخاب قياداتها ديمقراطياً، فالحزب الذي تتخشب قياداته على كراسيها إلى الأبد لن يصبح ديمقراطياً في حالة فوزه في الانتخابات العامة، بل هو ينقل استبداده إلى أروقة الدولة واضعاً المشروع الديمقراطي على الرف. لكن في ظل معطيات الربيع العربي لم يعد هذا الأمر ممكناً لأنَّ عجلة التاريخ لا تسير إلى الوراء خصوصاً بعد دفع الأثمان الباهظة.
والأكثر من هذا فإن الجمهور سيدرك بالتدريج أنه لن يحتاج بالضرورة إلى التحزب، فبوسعه أن يكون مؤيداً لهذا الإتجاه أو ذاك وفقاً للتجربة وصدقية البرامج المطروحة، فيصبح بوسع المواطن التونسي الذي انتخب حزباً تقليداً هذه المرة، أن ينتخب حزباً ديمقراطياً أو ليبرالياً في الانتخابات القادمة إذا لم يستطع الحزب التقليدي تحقيق تقدماً على صعيد الخدمات وسوق العمل والأمن الاجتماعي، فهذه العوامل هي أساس تقدم المجتمعات، وليس أوهام الأيديولوجيا والشعارات الكاذبة.
إن تحريك سوق العمل وتكريس مؤسسات الدولة لتقديم الخدمات ودعم مشاريع الاستثمار، ستؤدي حتماً إلى رفع زخم ونوعية التعليم المهني لرفد المصانع والمزارع بالكفاءات المحلية المطلوبة، وهذا الحراك هو الذي يرجّح ثقافة الإنتاج والإبداع والأمل لتحل محل ثقافة التطرف والانتحار. وعندما تتجدد الطبقة الوسطى الصناعية والزراعية تجد نفسها بحاجة أكبر لسلطة القانون لضمان مصالحها ومستقبلها، وفي هذه الأجواء المتحركة لا يعود ثمة مكان لتلك الرومانتيكية الرعوية التي تجعلنا مُدلّهين بهذا القائد أو ذاك، بل إن أصباغ الإيديولوجيا تبدأ بالتساقط عن لافتات الأحزاب التقليدية، لتحل محلها المعرفة العملية ومراكز البحوث والاحصاءات التي يحتاجها المسؤول في الدولة ومدير العمل لمتابعة الحاجات المتزايدة للمجتمع.
ومع إحساس المواطنين بفوائد سلطة القانون والتبادل السلمي للسلطة تبدأ الثقافة القبلية والطائفية بالتفكك لتتشكل محلها ثقافة المواطنة وتكافؤ الفرص، فتصبح الدولة هويّة لجميع المواطنين ويصبح المواطن مُنقذاً لنفسه عبر تطوير وعيه وكفاءاته وليس بانتظار المُنقذ الحزبي وخطاباته الباذخة بالكذب والأوهام !!

٭ كاتب عراقي يقيم في لندن

كريم عبد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    رائع عنوانك ورائع اسلوبك يا كريم عبد ولو أنني اختلف معك تماما.
    أنا أظن نحن بحاجة إلى نقد مفهوم الدولة الديمقراطية
    التي تعتمد ثقافة ال أنا أو الفرد/الرمز/النخب الحاكمة كأساس، فكل الاشكالية في الانانية
    نحن بحاجة إلى نظام اساسه ثقافة ال نحن/الاسرة/الاخلاق
    التي تفرض عليك الخروج من ضيق ال أنا الى سعة ال نحن
    ما رأيكم دام فضلكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية