في تحديث الدرس البلاغي: الأرض أرضي والسماء سمائي

كان جماع النظر بين قراء الشعر وعلماء البلاغة قديما، هو البيان، لكن الطريقين شتى، فإذا كان البيان إيضاح الغامض وإظهار الخفي والكشف عن المستور واستنباط المغمور، وما إلى ذلك من الأمور التي يؤدي عنها مصطلح البيان عند العرب؛ وإذا كان من المتأخرين عن عصر عبد القاهر الجرجاني (ت.471 هـ) من علماء البلاغة، من تصرف بأصنافه، وفي تقسيماته، فقعدها وعقدها، حتى انفرد بالشوارد، وانزوى في الجزئيات؛ وصار علم البيان، بسبب من ذلك، كمعمي الألغاز ومبهم الطلاسم؛ فإن من القراء من تخطى ظاهر هذه الصناعة إلى بلاغة الصورة؛ وإن كان بعضهم لم يتحرر من أسر الصورة البلاغية، وربما أحلها محل الصورة نفسها، وجنح إلى المبحث البلاغي الخالص. ومهما يكن، فنحن نتبين من هذه القراءات نسقا من المفاهيم والتصورات، كان القدامى يصدرون عنها، في فهم الصورة ووظيفتها.
نتبين من الصورة سواء كانت تشبيها أو استعارة أو كناية أن أساسها في نظرية البلاغة عند العرب هو ترابط حقيقتين متباعدتين بنسبة أو بأخرى، إما تماثلا (التشبيه) أو تطابقا (الاستعارة) أو إردافا (الكناية) بما يفضي إلى تنوع في البُنى القائمة على حضور عنصر مؤلف أو أكثر، أو غيابه. وهذا التنوع هو الذي يحد التحابك بين إجراءين: قبل لغوي أو من «خارج القول» ولغوي ويوضحه. وفي مستوى الإجراء الأول فإن التركيب المجازي ينطوي على وظيفة ذهنية أو عقلية، إذ يشحذ التفكير ويدله على العنصر الغائب. وقد يبلغ درجة من التعقيد فيفسح للمخيلة أكثر من إمكان من إمكانات الترابطات التبادلية بين الأشياء. ويمكن القول إن بنى الصورة عندهم لا تخرج عن مفهومين: مفهوم القياس الذي يتضمن تطابقا أو تراسلا بين مفردتين، ومفهوم التماثل الذي يدل على تجاوب أو تراسل بين علاقات. ومن ثمة فإن الصورة لا يمكن إلا أن تكون تعبيرا لغويا عن مقايسة أو عن مماثلة. وهذا ما يفسر حرصهم على ضرورة التناسب بين طرفي الصورة سواء كانت تشبيها أو استعارة حتى أن الفروق بين الطرفين، عند بعضهم، تكاد لا تبين أو هي ليست بذات بال. فالشيء كما يقول الآمدي صاحب «الموازنة» إنما يشبه الشيء إذا قاربه أو دنا من معناه، فإذا شابهه في أكثر أحواله فقد صح التشبيه ولاقَ، أي صار لائقا أو سائغا مقبولا. ويقول في الاستعارة: «وإنما استعارت العرب المعنى لما هو له إذا كان يقاربه أو يناسبه، أو يشبهه في بعض أحواله، أو كان سببا من أسبابه، فتكون اللفظة المستعارة حينئذ لائقة بالشيء الذي استعيرت له، وملائمة لمعناه».
الصورة إذن بسيطة أو مركبة تعرب عن تماثل أو محاكاة شيء بشيء كلما تحققت بواسطة أداة (الكاف- كأن- مثل- شبه) وهذه الأداة لا تدل على مجرد مشاركة أمر لأمر في معنى، بل على ادعاء مماثلة أحدهما للآخر في معنى ومساواته إياه. وتعرب الصورة عن مطابقة كلما كانت خلوا من الأداة. وكذلك الاستعارة، فهي قياسية أو تماثلية، ليست إلا عدولا مناسبا، عن الاستعمال اللغوي المنطقي أو المألوف، أساسه دعوى الاتحاد والامتزاج بين الطرفين. وهي دعوى لا تقوم عند القدامى إلا على علاقة تشابه وتدان. أما القياس فقاعدته موضوعان أو عنصران: موضوع معين (شاهد) وموضوع استدلالي (غائب) يدخل كل منهما في الآخر ويدوران على مبدأ بينهما هو التكافؤ؛ أو هو بعبارة مجازية، رأس الإبرة الذي يترجح عليه هذان الطرفان ويتجاذبان ويتغالبان في مراوحة بين الشاهد والغائب.
وفي حال التشبيه، فإن العلاقة هي علاقة تماثل بين موضوعين مؤتلفين. والتماثل إنما يتحقق بواسطة أداة هي جزء من الجهاز النحوي الموضوع في خدمة اللغة. وعليه فإن صورة التشبيه العادية تتضمن أربعة عناصر: الموضوع المعين الذي عليه مدار الكلام، والموضوع الاستدلالي الذي هو مثال العنصر المشترك أو أنموذجه المحتذَى، ونقطة التلاقي المستخلصة من الموضوعين الأول والثاني، والأداة التي هي بمثابة وصلة تشج بين العناصر الثلاثة.

الصورة إذن بسيطة أو مركبة تعرب عن تماثل أو محاكاة شيء بشيء كلما تحققت بواسطة أداة (الكاف- كأن- مثل- شبه) وهذه الأداة لا تدل على مجرد مشاركة أمر لأمر في معنى، بل على ادعاء مماثلة أحدهما للآخر في معنى ومساواته إياه.

أما في حال الصورة المجازية (الاستعارية) فإن الإجراء اللغوي يتمثل في تسمية شيء أو حقيقة باسم شيء آخر، أو حقيقة أخرى ليست منه في شيء؛ بل تتميز عنه تميزا كليا. وتكون العلاقة القياسية إما نقلا أو تطابقا. وفي حال النقل نقف على كلمة مجازية واحدة وحيدة تنبني بواسطتها استعارة تصريحية. ونقف في حال التطابق على كلمتين تربط بينهما علاقة حملية إسنادية أو معرفة ينتج عنها صنفان من المجاز أو الاستعارة هما: «التشبيه البليغ» و«الاستعارة المكنية».
الحق أن كثيرا مما طرح قديما في سياق الكلام على الشعر، يُطرح عندنا حديثا، وإن بمصطلحات غربية تختلف ترجمتها من بلد عربي إلى آخر. من ذلك التمييز بين صور متوقعة سائغة وأخرى مفاجئة مشكلة. وأما التمييز بين استعارة ترشيحية وأخرى مكنية، فلم نجد في مدونة القراءة التي نحن بها ما يسوغ الذهاب فيه بعيدا؛ إلا ما جاء خاطفا من إشارتهم إلى بناء الاستعارة على الاستعارة. وهي الصورة «المشكلة» أو ما أسميه الاستعارة المكنية المرشحة التي تقرن بما يلائم المشبه؛ أي تلك التي تنشأ في الحيز الفاصل «بين معلوم وغير معلوم، وبين معدوم وموجود، وبين منفي ومثبت، وبين معقول وغير معقول»؛ ولا أجد أبلغ من عبارة محيي الدين بن العربي هذه، في حد الصورة «المشكلة». مع العلم أنها وردت في سياق تعريفه لـ»البرزخ» في سورة الرحمن: «مرج البحرين يلتقيان بينهما برزح لا يبغيان». أما الفصل القاطع بينهما، على نحو ما نجد عند بعض المعاصرين من الذين قرنوا الترشيحية بما يلائم المستعار منه (المشبه به)؛ فما نخاله إلا من أثر الدرس البلاغي في صورته اللاحقة على عبد القاهر الجرجاني. من ذلك الأمثله التي أوردوها مسوغين بها الفصل بين مكني وتصريحي، فقول أبي تمام:
إيه فدتك مغارسي ومنابتي /// اطرح غناءك في بحور عنائي
إنما هو في تقديرهم استعارة طرفاها «مغارس» أي أبناء، و«منابت» أي آباء؛ والقرينة الصارفة عن المعنى الوضعي، أو عن دلالة المطابقة، إلى هذا المعنى المجازي هي كلمة «فدتك «التي هي جزء لا يتجزأ من القول المستعار.
فإذا انتقلنا إلى الصورة القائمة على التشبيه البليغ، استرعى انتباهنا اطرادها قديما وحديثا، حتى لتكاد تطاول الاستعارة نفسها. وإذا كان بعضها لم يثر أي إشكال لدى القدامى على غرابته أحيانا؛ لأن التناسب فيه بين طرفي الصورة تام أو هو سائغ مقبول، فإن بعضها الآخر كان مدار قراءات شتى تتضافر على اختلافها في إبراز أهم مكونات صناعة الصورة.
ويتهيأ لنا أن قدماءنا ومعاصرينا، إنما سوغوا تشابيه بدر شاكر السياب في «أنشودة المطر» أو»المومس العمياء» لا لتناسب التشبيه وحسب، وإنما للسياق الذي جاء فيه أيضا، وهو سياق ينطوي على وظيفة مرجعية، بحكم أنه يراوح بين مشترك لغوي وخاص أو مملوك لغوي مشهور. ومن شأن هذه الوظيفة أن تحد المعنى بكثير من اليسر، لأنها تتيح للقارئ أن يقارن قولا بقول ويقيس؛ أو استئناسا بسمة فيه، يمكن أن نسميها «التناص الداخلي» أو»التعلق النصي» أي العلاقة الواصلة بين نص لاحق نص سابق، وكأن «ب» مرتهن بـ»أ» أو هو متولد عنه.
وهذا مثال لها من شعر أبي تمام:
ولجف نوار الكلام وقلمــا/// يُلفى بهاء الغرس بعد المــاءِ
فالجو جوي إن أقمت بغبطة///والأرض أرضي والسماء سمائي
فقد خلصوا إلى أن المراد بالتشبيه أن حسن الشعر يزول، ورونقه يذهب لذهاب الممدوح، كما يذهب بهاء الغرس بعد الماء، لأن الممدوح يحيي الشعر بجوده. ولم يذهبوا في شرح التشبيه في» فالجو جوي…» بعيدا، فالمعنى أنه لما أقام الممدوح، صار الشاعر كأنه يملك السماء والأرض والجو.
وهذا وغيره يعزز من وجاهة القول بأنه لا وجود لشعر صاف، كما كان يزعم مالارميه، وهو ينشد لغة كلية جديدة مدارها على علاقة حميمة بين الصوت والمعنى، حيث الإيقاع يحرر الكلمة من سطوة الكلام العادي، ويكشف عن وهن اللغة أو قُصورها. وعلى الرغم من أن مالارميه كان يستأنس ببودلير، ومنه تعلم أن الشعر ليس إلهاما، كما يزعم الرومانسيون، وإنما هو حاصل مِراس ودربة، بل هو صنعة بالمعنى العميق للكلمة. والإلهام «ربة شعر مهذار» والشعر ليس لعبة مصادفات لغوية. إنما الشاعر مفكر له لغته الشعرية الخاصة، وقد تكون عادية في جانب منها، لكنها ليست لغة التواصل العادي، إذ هي تنشأ في تلك المسافة الخاوية التي تتركها خفقة جناح الطائر.

كاتب وشاعر تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية