فلسطين: من أجل الاحتفاظ بالحياة على قيد الحياة

«إنما يكتب التاريخ المنتصرون» عبارة تجري على ألسنة كثيرين منّا بسهولة ويسر، وكأنّها حقيقة مطلقة. وهي تنسب إلى الصحافي والكاتب الفرنسي اليميني روبرت برازياك الذي أعدم رميا بالرصاص (1909 ـ 1945)، في فيلم «الإخوة الأعداء»؛ مع أنّ التاريخ نفسه يكذّبها. ودون توسّع في اختبار هذا الادّعاء، ننبّه إلى الفضاء المرجعيّ «اليميني» الذي تتنزّل فيه هذه المقولة. وهو فضاء متعدّد المستويات وغير ثابت بالضّرورة، نظرا إلى كوننا نستطيع ضمنه أن نستند إلى بعض تمفصلات التاريخ قديما وحديثا؛ للوقوف على بطلانها. والمؤرّخ ليس قاضيا ينشد الحقيقة في ذاتها، والبرهان بالخُلف يبيّن لنا أنّ «الحقيقة» لا تقوم في المعارف السّائدة خارج إطار الفلسفة من حيث هي بعبارة أرسطو: «العلم الوحيد من بين جميع العلوم الذي يمثّل مبحثا حرّا لأنّه الوحيد الذي يكون غاية ذاته». ومعنى ذلك أنّ التاريخ مدعو إلى أن ينخرط في صراع ضدّ هذه المعارف التي لا تتوفّر على الحقيقة في ذاتها، وإنّما على أحكام أخرى تزعم أنّها الحقائق بعينها؛ وهي ليست أكثر في عرف المنتصر من صياغة ذاكرة جماعيّة وتثبيتها، وهو يدفع سرديّة بأخرى أو ينسخ هذه بتلك بترا أو شطبا أو محوا؛ حتى من المناهج المدرسيّة والعملات والمعالم الأثريّة، في ما يسمّى بـ«قوانين الاستذكار» من أجل تكريس تفسير مخصوص للماضي تقول به السلطة، حتى يصلب أسُّ بنائه ويشتدّ.
على أنّ حركة المقاومة الفلسطينيّة ما انفكّت تنبّهنا إلى أنّ الزمنيّة الخطّية لا تناسب زمنيّة المقاومة، بل إنّ هذه الزمنيّة لا تتوزّع إلى ماض وحاضر ومستقبل، وإنّما هي على ما نرى، وما نرجّح، حاضر أبدي، ولا يحتاج مؤرّخونا، بموجبها إلى أن يعيدوا إحياء «الموتى» من شهداء، فهم حاضرون في الذاكرة وفي الوجدان الإنساني الذي لم تخمد جذوته رغم سطوة الإعلام الغربي. وليس المقصود بهذا «العولمة» النمطيّة المعادية لكلّ ما هو إنساني، أو هي إقامة مقنّعة في أرض الآخر، وإنّما «الكونيّة» التي تجعلنا نحن البشر شعوبا مؤتلفة، ولا جامع بينها سوى إنسانيتها؛ على النحو الذي نراه اليوم في المظاهرات التي تنتصر لفلسطين في هذا «الغرب» الذي يجعل عتاته والمتنفّذون فيه مالا وسلاحا وإعلاما، من دولة الاحتلال «قاعدة عسكريّة» في قلب العالم العربي وليس واحة للديمقراطيّة كما يزعم. وتاريخ الاحتلال كان ولا يزال منذ النكبة، محفوفا بمماحكات وسجالات دينيّة لاهوتيّة وسياسيّة إيديولوجيّة، لا سند لها من الواقع، بل هو نوع من أساطير السلالة وزائف الآثار؛ من دون أن يفلح أصحابها في ترميمها وإصلاح ما فسد منها وتفرّق. فلا غرابة أن لا تتورّع همجيّة الاحتلال في غزّة عن تدمير كل التراث الفلسطيني حتى المخطوطات والمنسوجات والأخشاب والبردي والفخّار والزجاج والنقوش والمعادن. فنقف من ذلك كله على طرق ومناهج في رواية التاريخ، ليس بميسورها رغم بطش الآلة العسكريّة والإعلاميّة الإسرائيليّة والغربيّة، أن ترأب صدعا في نصّ الأحداث، أو أن تنسف الحقيقة كما يرويها ويعيشها الفلسطينيّون في جزئياتها وتفاصيلها شهادات ووثائق وآثارا؛ ويثبتونها في مشاهد لن تمحى.
بل إنّ المؤرّخ حتى وهو يحتكم إلى قناعته الوجدانيّة، كلمّا أعوزته البراهين؛ هو الذي يحاور هذا الحاضر باستمرار؛ ضمن الوعي بأنّ المقاومة منشدّة إلى نفسها مثلما هي منشدّة إلى سابقها، بل لاحقها وهو لا شكّ زوال الاحتلال الغاصب الغاشم. المؤرّخ اليوم وهو طرف في هذا الصراع الدامي لا يحاور الماضي، أو يعيد بناءه، وكأنّه قناع ستيفن في رواية جويس «عوليس» حيث التاريخ أقرب إلى شبهات مرهقة تثقل كتفيه: «التاريخ كابوس لا أزال أبذل ضائعا، لكي أستيقظ منه»، أو ما يقوله بنيدتو كروتشه وكأنّنا نرى كرة ترتدّ: «كلّ تاريخ إنْ هو إلاّ تاريخ معاصر [مزامن]». ومثل هذه الشواهد وغيرها ممّا لا يتّسع له هذا المقال، قد لا تصلح لفهم «طوفان فلسطين» حيث يمثل الراهن/ التاريخ بكل تعقيداته وتفاصيله ومن دون مساحيق؛ ويغدو كما الفلسفة منهجًا للفكر وصياغة العقل، من أجل تنسيب الحكم على الأشياء. التاريخ الذي يصنعه الفلسطينيّون والفلسطينيّات أطفالا وشبابا ورجالا ونساء وشيوخا وعجائز؛ ويدوّنونه صوتا وجرْسا وصورة وحرفا ودما. على ضرورة التنسيب، فـ»الحقيقة» لا تنتمي إلى الماضي كما نتوهّم، وإنّما إلى «الحال» أي الحاضر؛ ونحن نسترسل مع الفلسطينيّين وهم يبنون راهن فلسطين سواء في جوانبه العامّة أو في جوانب منه مخصوصة مكانا وزمانا؛ فثمّة دائما «منظور» أو وجهة نظر؛ ومن حقّهم أن يتخيّروها؛ وهم الأدرى بها.
قد نهمل في التاريخ رواية مجهولة ونسترسل إلى أخرى منسوبة موثّقة، وقد ننحّي الضعيفة ونبقي الأقوى فنفترض عليها شتى الافتراضات، ونثق بعض الثقة من أن أمورها تسير على أصول من المنطق والتعليل؛ ولكنّنا حتى في هذه الحال لن نظفر إلّا بـ«حقيقة» قلقة. لكن باستطاعتنا، في هذا التاريخ الفلسطيني الحيّ، أن نعيد الترتيب الأصلي وأن نفرز المنحولات، وأن نستردّ الصورة النابضة بأكثر ملامحها وتفاصيلها. فقد ولّى زمان ما يسمّى «الخبرة الاستعماريّة» التي أحدثت منذ منتصف القرن التاسع عشر تغييرا جذريّا وتحوّلا نوعيّا في ثقافتنا وتاريخنا. وهي خبرة أفضت إلى «شعور بالدونيّة» إزاء التفوّق الغربي القائم على القوّة عسكريّا وتقنيّا وسياسيّا، وإلى تصدّع في البنية الإيديولوجيّة التقليديّة؛ وإن لم تتشظَّ تماما أو تنحلّ. وقد آن لنا عربا وأفارقة وأحرارا من كلّ أصقاع المعمورة أن نتخلّص بفضل هذا «الطوفان الفلسطيني» من الخلط التّزمينيّ ومن «التّقليد» السّلفيّ بالزّمن، وهو أحد أعراض كتابة التاريخ في دولة الاحتلال؛ فلهم «خلطهم» وأساطيرهم، ولنا تاريخنا. ذلك أنّ ما يفعله المتعصّبون منهم، ليس أكثر من تحويل التاريخ إلى ذاكرة تستحضر يوتوبيا مفقودة، واليوتوبيا «اللامكان» مفقودة أبدا؛ إذ هي تتعلّق بمكان خياليّ.
ولنا اليوم في ثقافة وسائل التواصل الاجتماعي وما تنسجه من وشائج بين المرئي والمسموع، خير سند لما نحن فيه من أمر هذا التاريخ الحيّ؛ ونحن نجلس إلى حواسبنا وهواتفنا التي تروّض عقولنا، وتوفّر علينا أدوات تأنيسها. ووجود وسائل الاتّصال الاجتماعي يغيّر من نمط المعطيات التي نأخذ بها، في مسألة من المسائل مثلما يغيّر من نسق المناهج التي نعتمدها في معالجة هذه المعطيات، إذ يركّز إمكانات التنظيم السمعيّة والبصريّة وقدراتها، ويزوّدنا بأصول ترتيب أكثر نجاعة وجدوى من حيث التحديد والتقسيم وشدّ الروابط وعقد العلائق، وردّ الأشياء على اختلافها إلى طبقات وأنواع وطوائف وأجناس. وغالبا ما يؤدّي ذلك إلى تثبيت قول (ملفوظ) بقرينة دالة (فيديو مثلا) أو بسياق مخصوص، في نظام من المعارضات، ثابت لا يتغيّر؛ إذ يتسنّى بهذا الصنيع، أن نختزل دلالة الشيء أو حقيقته نسبة إلى مُلاحظه.
وثمّة قاعدة معروفة في السينما، تنصّ على أنّ العلاقة بين الكلمة والصورة، علاقة تكامل؛ فلا الكلمة تكرّر الصورة، ولا الصورة تكرّر الكلمة. وهذا ما يفلح فيه الفلسطيني، بكلّ حرفيّة وموضوعيّة وشجاعة؛ أكثر من السياسيّين الذين يتعاملون مع السياسة على أنها «فعل كاذب» أو حِنـْث في الصنيع وفي القول. ولكن كيف لكلّ هذا الجمهور الخليط في دولة الاحتلال حيث يحظر على الإعلام نقل الجرائم المروّعة التي ترتكب في غزّة وفي الضفّة، أن يصدّق ما يسرده عتاة اليمين الإسرائيلي؟ اللهمّ إلاّ أن يكون الأمر صورة من «بوذيّة زن» حيث يُنظر إلى المعلّم على أنّه تجسيد حيّ لبوذا، فيضع نفسه بين يديه، كما يضع المريض حياته بين يديْ جرّاح ماهر.
كلّ ما يمكن تقريره في فلسطين اليوم أنّ الواقع التاريخي موضوعي وموجود بصانعيه الذين هم صنيعة تاريخ أيضا، الأمر الذي يضفي على التاريخ معنى ما، بل يجعله يلتوي، ولا يجري في خطّ مستقيم؛ والزمن ليس خطّيّا وإنّما هو ثقافيّ أو لولبي. ويبقى التساؤل ما إذا كان التاريخ علمًا؛ لأنّ ما يميّز العلم إنّما هو الحياد التام والموضوعيّة. والمؤرّخ ملزم بالأمانة وليس بالموضوعيّة، إذ ليس بميسوره أن يتحلّل من عصره ومن فكره.
والسؤال ما إذا كان للتاريخ بمعنى الواقع التاريخي أو معرفة الماضي معنى، وما إذا كان بالإمكان فهمه أو وعيه أو تفسيره؛ أو الاستئناس به في بناء عقلانيّة الخطاب التاريخي، أو النأي به عن كونه أشبه بقصّة لها بداية ووسط ونهاية «أخلاقيّة»؟ وكأنْ لا معنى للتاريخ سوى ظهور الأخلاق أو الإعلاء من شأنها، وتحقيق «الطبيعة/ الطبائع الإنسانيّة». وليكنْ فها هي فلسطين تعيد التاريخ إلى الحياة، حتى وهو يُهدم ويبنى ثانية في عود أبديّ لا ينقطع، وليس مجرّد سرد لوقائع وأحداث استئناسا بوثائق وشهادات وآثار.
*كاتب من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية