فيلم «مجتمع الثلج»: سينما الكوارث وقرار النجاة

غالباً ما يُنظر إلى الأفلام التي تتصل بالطبيعة والكوارث وتجربة النجاة، بوصفها أفلاماً تنطوي على قدر من الإثارة، لكنها لا تعدم بعض الدلالات التي تتصل بالإنسان ضمن قراءة تطال ثلاثة مستويات: الأول: علاقة الإنسان مع الكارثة، وفهمه لها، والثاني يتصل بالإنسان من جهة علاقته بالآخرين، والثالث مع ذاته التي يمكن أن تتكشّف عند مواجهة تجربة أو اختبار ما؛ ولهذا فإن قيمة هذا النوع من الأفلام تتحدد عبر قدرة المخرج على استثمار هذه المرجعية، سواء أكان الفيلم مقتبساً من قصة حقيقية أم مجرد خيال محض.
في الفيلم الأورغواياني «مجتمع الثلج» 2023 الناطق بالإسبانية نقف على هذا النوع من الأفلام التي تكتسب قيمتها من خصوصية النوع، لكنها لا تتوقف عند ذلك، فبالإضافة إلى المقاربة التي يشكلها الإخراج في تكريس البعد الكارثي الذي جاء على قدر كبير من الأهمية من ناحية الجمع بين مكونين: تكوين الكارثة، ومصدرها الطبيعة، وتخليق نمط من المقاربة مغاير، وجديد، فإن هذا التكريس قد يحمل الكثير من التحديات، كما أنه يحتاج إلى العناية بالتفاصيل في غمرة انشغال المتلقي بالتركيز على البعد الكارثي أو الطبيعي، ولاسيما قدرة صانعي الفيلم على الإقناع على مستوى الحدث؛ ولهذا فإن البحث عن قصة داخل الفيلم يبدو إشكالياً لأن من الأهمية بمكان الخروج بجملة من الانطباعات التي تتولد عنها رؤى ثقافية تؤطر وعي المشاهد، لكنها لا تتوقف عند ذلك، بل إنها تحتمل قدرا كبيراً من إثارة الأسئلة، وفي بعض الأحيان تجنح بتطرف نحو محاكمة القرار الإنساني في لحظة مفصلية من وجوده، ونعني مواجهة الموت، أو قرار الرغبة بالبقاء على قيد الحياة بأي ثمن.
يعد فيلم «مجتمع الثلج» العمل السينمائي الأخير للمخرج جيه.أيه. بايونا، وفيه يقدم ملحمة بقاء تستند إلى تأليف بابلو فييرسي حول واقعة النجاة الأليمة من كارثة تحطم طائرة في الأنديز عام 1972، حيث ينقل المخرج بعمق مأساة الناجين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين لمدة 72 يوما في قلب أحد أكثر البيئات قسوة على وجه الأرض. لقد نال الفيلم استحسانا واسعا نتيجة الإبداعات الفنية والتقنية، واكتسح جوائز الجويا في دورتها الثامنة والثلاثين، حيث حصد 12 جائزة تكريما له، وقد شملت أفضل فيلم، وأفضل إخراج، وبذلك فقد أصبح واحدا من الأفلام الأكثر تتويجا في تاريخ هذه الجائزة. كما حظي بترشيحات في جوائز الغولدن جلوب تحت فئة أفضل فيلم غير ناطق بالإنكليزية، وفي جوائز الأوسكار لأفضل فيلم دولي ولأفضل مكياج، وتصفيف شعر.

ما فوق التجربة

لعل مقاربة «بايونا» الإخراجية تعدّ شهادة عميقة على تجسيد قيم الرغبة بالحياة، عبر ممثلين أو طاقم عمل يتألف في معظمه من ممثلين من الأوروغواي والأرجنتين. مع عناية فائقة بالتفاصيل، بما في ذلك المكياج، وتصفيف الشعر، فضلاً عن تقديم تصوير دقيق، ومقنع للأحداث، لكن الأهم ابتكار جملة نسقيّة أخلاقية، أو إشكالية تطال قرار أولوية الحياة في ظل ظروف شديدة العدائية.
من مبدأ اختبار المتطلبات الإنسانية: الطعام، والماء، والحرارة… يتأسس الفيلم على تقييم هذا المنظور، ولاسيما حين نفقد هذه الأشياء التي كنا نعتقد أنها في المتناول، لكن الطبيعة غالباً ما يكون له رأي آخر، فثمة قوى لا يمكن للإنسان قهرها، على الرغم من اعتقاده الجازم بأنه من يحكم هذه الأرض. هكذا تُؤطر القصة كي تختزل الكثير من خطابه، وأعني حين يدفعنا الجوع والبرد للتخلي عن إنسانيتنا، وقيمنا مضطرين، وربما -أيضاً- كل ما كنا نعتقد أنه يشكل معنى الإنسان، لكن من أجل هدف ٍآخر، ونعني النجاة أو الحياة التي نصبح مُدينيين بها لموت الآخرين.
نشير إلى أن هذه التجربة عاشها سبعة وعشرون ناجياً من أصل خمسة وأربعين راكباً بعد تحطم طائرة الرحلة 571 لسلاح الجو الأوروغوياني، حيث انطلقت الطائرة من الأورغواي إلى تشيلي، وتحمل على متنها لاعبين، وبعض المسافرين، ومع شيء من الحماس لهؤلاء الشبان تحملهم الطائرة نحو وجهتهم الأخيرة، وحين يقوم قائد الطائرة بمحاولة تجاوز سلسلة جبال الأنديز عبر ممر منخفض تصطدم الطائرة بجبل جليدي، ومن ثم تتحطم بين سلسلة الجبال، ولعل الجبل يستدعي للذاكرة حادثة التايتنيك – الفيلم الشهير للمخرج جيمس كاميرون- فالبعد الدلالي للجبل يبقى حاضراً بوصفه عقبة لقهر الإنسان، وتحطيم غروره، ففي مشهد مؤثّر، وشديد الإتقان تنتهي الطائرة إلى قسمين، مع عدد من الناجين معظمهم من الشباب أو الفريق الرياضي، وبعض المسافرين، في حين يموت الآخرون الذين كانوا سببا لنجاة من تبقى.

يتأسس السؤال الأكبر، أو الأسئلة المركزية في الفيلم من محاولة تفسير عن معنى التعرض للحادثة، فهناك من يحاول أن يفسرها في إطار علمي، وهناك من يحاول أن يفسرها من منظور ديني، أو قدري، وآخرون يرون أنها ليست سوى سوء حظ، أو أنهم أشخاص غير محظوظين. ولعل القيمة الحقيقية لمقصدية الفيلم تشتبك مع مقولة الإيمان، لكن نرى أن الإيمان بالرغبة في الحياة يبدو الأكثر تقدماً، وهي غريزة مدفوعة برؤية فلسفية شوبنهاورية، تتصل بإرادة الحياة، فلا جرم أن يعدد الفيلم أسماء القتلى، وأعمارهم، مع تعليق يتصل بعدد الأيام التي قضاها الناجون في الجبال الثلجية عبر راوٍ شكل إضافة موفقة لأجواء الفيلم، ومناخاته، بيد أن الزمن يظهر بوصفه إضافة أخرى في صيغة تعامل الإنسان مع الطبيعة، ولا سيما حين يبدأ الطعام الذي جُمع من الحقائب أو من الطائرة من النفاد.

اختبار الجوع

يمكن القول بأن فيلم «مجتمع الثلج» ليس مجرد رواية عن النجاة، بل تجربة سينمائية عميقة تكرم ذكرى ومعاناة الذين عاشوا تلك الفاجعة، والأهم عكس ما رشح من إعادة تعريف للنجاة ضمن مقولة الأخلاق، والطبيعة الإنسانية التي يمكن أن نتفاجأ من مسلكها نتيجة بعض الظروف. لقد حمل الفيلم جزءاً من مناخات ما يحصل في غزة، وأعني معضلة الجوع أو التجويع الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، لكن مصدرها ليس الطبيعة أو القدر، كما في الفيلم، إنما الإنسان، لقد أثار الفيلم الكثير من الأفكار والأحاسيس، كما أنه أضاف نزعة تنصرف نحو قراءة الجوع من ناحية الأثر المادي إلى البعد الفلسفي، وربما ضمن بعد أعمق، فالاختبار الحقيقي للجوع على الرغم من أننا غالباً لا ندركه، غير أنه موجود، فثمة الكثيرون في هذا العالم يعانون من الجوع بمعناه المطلق لا النسبي، لكن قيمة اختباره قد تتصل بشيء من سوء الحظ أو القدر.
لا شك في أن اختبار الجوع يبدو أمراً متوفراً ضمن المراجع العلمية، لكن اختبار شعوره على الحقيقة، يبدو تجربة تحتاج للكثير والتأويل، وهذا ما نراه في مشاهد الناجين عبر محاولتهم احتساب عدد الأيام التي يمكن أن يبقوا فيها بلا طعام، وكيف سوف يعانون، أو ما هي الأعراض التي ستنتابهم، ولاسيّما في ظل انخفاض حاد بدرجات الحرارة، التي تمارس هي الأخرى جزءاً من معادلة الطبيعة، وقسوتها على وجه الدقة. ولعل التشبيه الذي جاء على لسان إحدى الشخصيات بأنهم سيعانون مثل النباتات التي لا تحصل على الماء، إذ سيذوون، ويموتون ببطء. وهكذا حين تشتد الأزمة، فنلمس التّحول الفيزيائي في عيون الناجين، وأجسادهم، فلون البول قد تحول إلى أسود على الثلج الأبيض لتبرز رمزية حين يجتمع النقيضان، كما أن البياض الشّديد يحول دون قدرة طائرات البحث عن رؤية الطائرة المحطمة، بعد أن أدرك ذلك أحد الشبان عندما قام برحلة للبحث عن الجزء الثاني من الطائرة، فالصورة من بعيد تختلف، أو أنها تجعلنا نرى الحقيقة بصورة أخرى.

هذه المتتالية من الأحداث قد تقود للسؤال الأكثر إثارة للجدل، كيف يمكن تحصيل الطعام، وسط بيئة لا حياة فيها! تبرز التحولات في ذهن الإنسان، حين نرى شبه تماثل كلي أو توافق بين الشبان تجاه تناول جثث الموتى الذين وضعوا جانباً، وهنا ينطلق سجال عميق حول المبدأ أولاً، ومن ثم التداعيات القيمية والأخلاقية والقانونية، كما الإنسانية، ومع الانقسام تتخذ المعضلة بعداً للإرجاء، ومقاومة الجوع على أمل توفر النجاة، أو عملية الإنقاذ، لكن فقدان الأمل من وجود طعام يشكل لحظة تحول حاسمة حين يجدون (مذياعاً) صغيرا، يتمكنون من تشغليه، ليعلموا من نشرات الأخبار عن توقف عمليات البحث إلى أن تتحسن الأحوال الجوية، ويتراجع الثلج.
هكذا يبدو الزمن عاملاً مركباً لصنع التحول، ونعني فقدان الأمل، فتبرز معضلة الجوع أقرب إلى قدر ما، فعمليات الانتظار لن يكون لها من معنى، غير أن قرار أكل جثث الموتى يضاف إليه بعد قيمي، حين يعلن أحد الشّبان بأنه سيتبرع بجثته لزملائه إذا مات كي يبقوا على قيد الحياة، هكذا نقرأ شيئاً من التبرير، أو فتح كوة لتجاوز البعد القيمي من حيث مشروعية أكل جثث الموتى، فيعلن واحد تلو الآخر التصريح نفسه، ومن ثم يتجرأ أحدهم، ويذهب ليلحقه اثنان يدرسان الطب أو يتقنان التعامل مع الجثة، ومن ثم يبدؤون بتشريح الجثث والأكل، ومع اشتداد الجوع، يتسرب واحد تلو الآخر لتناول جثث الموتى (الأصدقاء) باستثناء شخص واحد يقاوم، ويرفض رفضا قاطعاً، وهنا نرى التفارق في قراءة سلوك الإنسان بين الاضطرار، أو بين التمسك بالمبدأ، لكن أيهما الصحيح؟ لعلها أسئلة تقفز إلى وعي المشاهد، ليحاول التماهي مع الحالة، ويفتش في داخله عن أي طرف سينتمي في الإجابة عن هذا السؤال، أو المفارقة الأخلاقية، فعملية التعامل مع الجثث يحظى بقيمة، فهناك من يقوم بتقطيع الجثث، ويجهز اللحم، دون أن يعلم الآخرون من الشخص أو الصديق الذين أكلوه، بمعنى أن نصنع شيئاً من التجاهل.
ينتهي الفيلم بإرادة الحياة حين يقرر شابان السير لمسافة طويلة للوصول إلى تشيلي، لينجحا بالوصول، لتتم علمية النجاة، في حين نرى المشهد الأخير حين يقوم أحد الشبان بدفن بقية جثة أحد الأصدقاء، أو الذي كان زاداً لهم في الرحلة نحو تشيلي، غير أن حركة الكاميرا على الوجوه تشي بالامتنان العميق، مع شيء من الفرح بالنجاة، والكثير من الحزن، فثمة تجسيد لتناقض شعوري أعتقد بأن المخرج قد وفق في تكريسه مشهدياً، وبإتقان، بالتوازي مع تقديم صور فوتوغرافية للناجين الحقيقيين من هذه التجربة.
ختاماً، لا شك بأن الفيلم يمتلك مواصفات العمل الناجح، وقادر على إلزام المشاهد بالمتابعة، على الرغم من طول مدة العرض، غير أن التعامل مع المحطات التي تتعلق بالحادثة كان موفقاً، عبر الانتقال من مزاج إلى مزاج، مع الإشارة إلى أن الفيلم على موقع Rotten Tomatoes، حصل على تقييم إيجابي 90 من أصل 151 نقدا، بمعدل تقييم 7.8/10، فضلاً عن الجوائز التي حصل عليها، ونسب المشاهدة المرتفعة على المنصات الرقمية.

كاتب أردني فلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية