فلسفة الشعر

الشعر، هذا الفن الجميل الذي يعكس روح الإنسان ومشاعره بأبهى صورها، هو أكثر من مجرد كلمات مرتبة بشكل جميل، بل هو عبارة عن لغة تعبر عن الجمال والحب والألم والأمل، وكل ما يمر به الإنسان في حياته. في جوهره، يُعرف الشعر بأنه فن البوح والتعبير الإبداعي. والبوح كشف للسرّ، سر هذا الوجود الذي يظل معتما إلى حين أن تبسطه وتعريه لغة الشاعر (إذ يتحول إلى أليثيا بتعبير هايدغر) حيث يمنح الشاعر للقارئ، من خلال لغة الشعر وتقنياته المختلفة، عوالم مختلفة، يغوص فيها ويتأمل في تفاصيلها. إن جمال الشعر يكمن في قدرة الشاعر على إيصال مشاعره وأفكاره بطريقة ملهمة ومؤثرة، ما يجعل القارئ يشعر بالانسجام والتأمل.
يأخذ الشعر أشكالا متعددة، فهو يمكن أن يكون قصيدة، أو نثرا شعريا، أو حتى هايكو صغيرا، وفي كل من هذه الأشكال يتمتع الشاعر بحرية كبيرة في التعبير والابتكار.
بصفته فنا قديما، فإن الشعر، قد تعرض لعمليات وأد عديدة، عبر فترات طويلة، من خلال تنميطه وتحنيطه، بحصره في معايير محددة، بها يحدد أو يعرف، علما أن الشعر في أصله مرادف للحرية، فالإبداع دون حرية مقبرة. حصل هذا عند جميع الأمم والشعوب، وفي جل الثقافات البشرية.

٭ ٭ ٭

الشعرية العربية لم تكن لتنجو من هذا التعسف المعياري، أقصد شعرية المعيار الخانقة، لدرجة أنها أصيبت بكثير من الانحسار والاختناق في فترة من الفترات، التي سميت، لاحقا، بعصر الانحطاط. إن حصر الشعر العربي، سابقا، في مقترح شعري واحد، لا يكون إلا بعمود الشعر، انتهاكٌ صارخٌ لحرية هذا الكائن الزئبقي، الذي هو، في كل الأحوال، أوسع من القصيدة. القصيدة مجرد مقترح واحد من ضمن مقترحات عديدة يختزنها الشعر، منها ما تمت محاصرته مبكرا، ككتابات المتصوفة، تمثيلا لا حصرا، التي هي كتابات تقع بين النثر والنظم، كما لوح أبو حيان التوحيدي في إحدى إشراقاته. وعلى الرغم من كل التعسفات التي تعرّض لها الشعر العربي عبر العصور، فإنه ظل مرآة للإنسان العربي، تعكس مشاعره وأفكاره وتجاربه، إلى يومنا هذا، حتى إن حاولوا وأده. لأن الشعر الحقيقي أصيل بطبعه، وفيٌّ لعاداته التي تختلف من تجربة إلى أخرى. عادات تأتيك من خارج النمط الشعري المعياري المعطى سلفا، وترفض الانصياع لشعرية الطلل التي رعاها بوليس الدوكسا الجمالي قرونا طويلة، بله إنها تؤسس شعريتها الخاصة بالكتابة ولها، ضدا على الشفاهة، عبر الإصغاء العميق لنداء الوجود بتعبير هايدغر. ولما كانت الحالة هذه، فإن الشاعر الأصيل أصبح مغامرا ومخاطرا (نيتشه) لا يقبل بالتكرار والمعاودة، لأن من عاداته الأصيلة، المجاوزة والتخطي، حتى إن كان المُتجاوزُ هو نفسه، لذلك نراه يخوض مجرى نهر الكتابة، في كل مرة، عكسيا ولا يسبح فيه مرتين..
الكتابة الشعرية، بهذا المعنى، تغدو قفزا ووثبا في المجهول، أو في البين بين، فنّيا ورؤياويا. إنها كتابة باليدين، باصطلاح عبد السلام بنعبد العالي، أو كتابة بالمطرقة، على غرار التفلسف بالمطرقة عند نيتشه. في الماضي، رفض أبو نواس أن يستحم في ذات النهر الشعري الذي تهندم مسبقا، مرددا قولته الشهيرة «يعرف الشعر من دفع إلى مضايقه». لقد رفض الشعرية التي كانت قد اختزلت الشعر في الأبنية الموسيقية، دون باقي الأبنية، وفي بناء طللي تتدرج فيه الأغراض، منتصرا بذلك للمضائق، حيث يستقر الوجود.

٭ ٭ ٭

والحق أن الوجه الآخر للشعر، هو أنه شكّل، منذ القدم، وسيلة فعالة لتجسيد الفلسفة والحكمة، حيث يعبر عن مفاهيم فلسفية عميقة تجسد معاني الوجود والحياة، وتعمق الفهم البشري لكل ما يحيط به، ويقدمها بطرق شاعرية تثير العواطف وتفتح آفاق التفكير. تتنوع الغايات الفلسفية للشعر بتنوع السياقات والعصور. ومن بينها: التأمل والتفكير العميق في مختلف جوانب الحياة والوجود، من خلال استخدام اللغة الشعرية والرمزية، بما يجعل الشاعرَ يحرض القارئَ على التفكير في معاني الحياة والموت، والحب والفقدان، وغيرها من المواضيع الأساسية للوجود البشري، بل إن الشعر وسيلة للتعبير عن الجمال والإبداع، كمبحثين فلسفيين، حيث يستخدم الشاعر اللغة والصور الشعرية ليصور للقارئ عوالم جديدة مليئة بالجمال والإبداع.
والشعر بذلك، يعكس قدرة الإنسان على خلق الجمال وتجسيده بأبهى صوره، فضلا عن أنه يعمل على تعزيز الوجودية والروحانية لدى الإنسان، حيث يساعده على التواصل مع العوالم الداخلية والوجدانية لهذه الذات التائهة، وسط تفاصيل الحياة، من خلال قصائد الشاعر التي تقدم رؤى وتجارب تعزز الوجودية الإنسانية، وتعمق الروحانية والتواصل مع اللاوعي.
باختصار، يعتبر الشعر، ليس فقط، وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار، بل هو أيضا، وهذا هو الأهم، أداة فلسفية تهدف إلى تعزيز الوعي والتفكير العميق في مختلف جوانب الحياة والوجود، من أجل فهم أعمق للإنسانية والعالم من حولنا.

شاعر مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية