الشعر والتلقي والزواج الكاثوليكي

في السابق كان الشعر حسب التحديد الأرسطي، يدخل ضمن أفعال القول، بوصفه فنا يعبّر عن أفكار ومشاعر الإنسان بأسلوبٍ مختصر وجميل، عبر الإنشاد الصوتي، أي أنه كان وسيلة للتعبير عن الأحاسيس والتجارب الإنسانية بأبهى صورها شفاهيا.
والحق أن الشعر، حسب هذا التحديد، وعلى امتداد قرون طويلة، ظل متلبسا اللبوس، بما هو لغة الروح والقلب، إذ يقدم الشعراء أفكارهم ومشاعرهم، من خلاله، بأسلوب مختصر وموسيقي، وهذا يسمح للقارئ بالانغماس في عوالم مختلفة، وفهم أعمق للإنسان. بمعنى أن العلاقة بين الشاعر والقارئ، كانت علاقة صوتية بالأساس. حتى الوعي الشعري العربي، لم يخرج عن هذا التحديد، حيث اعتبر النقاد واللغويون الأوائل الشعر، عبارة عن «كلام موزون ومقفى يدل على معنى». نجد هذا عند قدامة بن جعفر، وعند الطبري، وابن الرشيق، والباقلاني، وابن خلدون وغيرهم ممن ظل الوعي الشفاهي يسكنهم، أو يتحكم في ذائقتهم الشعرية، فترة طويلة. قد نستثني من هذه القاعدة، بعض النقاد حينما أضافوا محددات أخرى إلى الوزن والمعنى، يأتي على رأسهم، عبد القاهر الجرجاني، الذي انتصر للنظم والبناء، وحازم القرطاجني الذي وجد في التخييل أفقا جديدا للشعرية العربية؛ إلا أن مسار الشعرية العربية في عمومه، لم يكن ليحيد عن عقلية الإجماع الشعري، الذي اختزل الشعرية في المحدّد الصوتي (الوزن) الذي سيتحول مع مرور الوقت إلى «دوكسا جمالي» يصعب الخروج عنه أو التمرد عليه. لم يكن غريبا أن ينحصر الشعر في مجرد الوزن، عند العرب، وعند غيرهم من الأمم، لأن السياق الحياتي آنئذ، في العالم ككل، كان سياقا واحدا ووحيدا، سمته الأساس البطء والإيقاع المتثاقل، ما جعل فنون القول (الأدب) بطهرانيتها ونقائها الأجناسي، شفاهية بالأساس.
صحيح أن الشعر، في فترة من الفترات، حاول اختراق مجال الفكر والفلسفة، من خلال الخوض في أسئلة وجودية، بلغة مغايرة تماما عما درجت عليه العادة والمواضعات، عربيا وغربيا، ولم يعد من ثم، مجرد مجموعة من الكلمات المرتبة بشكل جميل، تعبر عن عواطف ووجدان فردي وجماعي، بل أصبح، أكثر من ذلك، وسيلة للكشف عن الوجود الإنساني، والعالم من حوله يظهر ويختفي، بشكل عميق. صحيح أيضا أن هذا النوع من الشعر كان وسيلة للوصول إلى الأبعاد العميقة والمخفية للوجود، التي لا يمكن الوصول إليه، من خلال اللغة العادية، ما استوجب لغة خاصة، وقارئا على درجة عالية من الوعي بهذه الخبرة الوجودية/ الأولية (هايدغر) وكذا خبرتها الجمالية، وهو ما لم يكن متاحا، على الأقل بالقدر الذي قد يغير مجرى الوعي الشعري، هنا وهناك، إلا أنه مع كل هذه المحاولات، التي حاولت أن تهجج فعل الكتابة، بِعَدِّهِ فعلا وجوديا، وتطوح به خارج الوعي الميتافيزيقي للشعرية العربية، كقياس صوتي/شفاهي فقط، تمت مواجهتها من طرف بوليس الأدب (ياكوبسن) وعسس «الدوكسا الجمالي» وأشكاله الفيودالية، عدوة الفكر والتحرر، ما جعلها خارج الوعي الشعري المركزي، الذي كان يتغذى، بشكل مقصود وممنهج، من سلطة الثقافة الرسمية بالأساس.

لم يعد الشعر، في عصر الرقمنة، مجرد كائن فني يثير العواطف والأفكار، ويجعل القارئ يتفكر في معانيه العميقة، كما لم يعد التلقي مجرد استقبال لنص شعري، سماعا أو قراءة فقط.

الآن وقد أحدثت التكنولوجيا الجديدة هزات إمبريقية، بل ثورة كوبرنيكية في علم الجمال، وتغير من ثم مفهوم الشعر، وانتقلت الثقافة من الشفاهة والكتابة (بعدها) إلى تقنية الوسيط الإلكتروني (علم الجمال السيبراني) بدأ الوعي الشعري (إبداعا وتلقيا) يأخذ مسارات أخرى، أكثر تعقيدا، مسارات أربكت العملية برمتها، وجعلت الشعر، هذا الكائن المارد، يبدو غريبا على جمهوره، وما غرابته في الحقيقة، في اعتقادي الخاص، إلا مسألة وقت ليس إلا.
لم يعد الشعر، في عصر الرقمنة، مجرد كائن فني يثير العواطف والأفكار، ويجعل القارئ يتفكر في معانيه العميقة، كما لم يعد التلقي مجرد استقبال لنص شعري، سماعا أو قراءة فقط؛ إذ كيف يمكن للشاعر، في ظل هذه التحولات الجذرية، التي طرأت على الممارسات الأدبية والثقافية، مثل فكرة التداخل بين النصوص، والوسائط الأخرى، كالصور والصوت واللايكات والتعليقات، في إطار ما بات يعرف بالنص المترابط أو المتشعب، حيث توسع مجال الكتابة ليشمل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات بكل تشعباتها، أن يتواصل مع القارئ، إذا لم يكن هذا الأخير، على درجة عالية من الوعي بالكتابة الرقمية، التي تجاوزت الحدود التقليدية للصفحة المطبوعة، ومنحت النصوص الشعرية فرصا جديدة للتعبير والابتكار. لقد أصبح تأثير التكنولوجيا على كتابة الشعر واقعا حقيقيا، إذ ثمة وعي شعري جديد بدأ يتشكل في الأفق، ويفرض نفسه شيئا فشيئا، وعي يقوم على التفاعل الفوري، بين الشاعر والمتلقي، من خلال ما توفره وسائل التواصل الاجتماعي، من منصات إلكترونية، قد تسهم في تفاعل أعمق بين الشاعر وجمهوره، ما إذا كانت هذه العملية التفاعلية، على درجة متقدمة من الإتقان.
إن النصوص الشعرية الآن، وبعد أن تخلى الكل تقريبا عن الكتابة والقراءة الورقيتين، أضحت نصوصا مختلفة، تقوم أساسا، على «تنوع الوسائط» وذلك باندماجها مع الصور والصوت والفيديوهات، مما أدى إلى خلق (وهذا واقع لا ينكره إلا جاحد متعصب للكتابة الورقية) تجربة شعرية متعددة، من حيث دوالها، وأبعادها، ونداءاتها، ورهاناتها. وليس من شك أن هذا الأمر، سوف يحدث تأثيرا حقيقيا على التفكير النقدي، بحيث يمكن للتعليقات والمناقشات الجادة والحصيفة، مع الشاعر، الآن وهنا، أن تسهم في تطوير الوعي النقدي الشعري، والتفاعل الثقافي، بما يضمن للزواج التاريخي بين الشعر والتلقي، أن يستمر كاثوليكيا.

شاعر وناقد مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية