فانتازيا التكرار

حجم الخط
6

في مطلع الثمانينيات، فقط، اكتشفتُ مدرسة من المؤرّخين الهنود تدعى ‘دراسات التابع’، يرتكز عملها بأسره على المصادر غير المكتوبة. إنها مدرسة في الدراسة التاريخية تقول بأن تاريخ الهند حتى ذلك العهد هو التاريخ الذي كتبته النخبة القومية تحت تأثير البريطانيين. أما ما أثار اهتمامهم فهو تاريخ الهند كما يُرى من خلال صراع فقراء المدن وجماهير الأرياف التي لا تمتلك أيّ نصوص.
وحتى أوان ذلك الاكتشاف لم أكن قد أدركت وجود تواريخ أخرى، شعبية وغير مكتوبة، يمكن ابتكار منهج كامل خاص بها، مثلما يفعل المؤرخون الهنود. ولكنني لم أكتشف الجهد ذاته في العالم العربي. لست معنياً بالفولكلور والطقوس الشعبية، إذ أنني ابن مدينة أساساً. ولكنني معني بوجود أدب آخر عابر لما هو مدوّن، وهو ما لم تركّز عليه كمجموعة أية مدرسة من مدارس المؤرخين العرب. ولابدّ من القيام بالعمل في إطار مجموعة.
لقد ظلت الهند مستعمرة بريطانية طيلة 400 سنة، وكان التعليم هناك خاضعاً للهيمنة البريطانية. ومع ذلك فان عدداً لا بأس به من المثقفين الهنود تمكنوا، اثر الاستقلال في عام 1937، من استثمار ما تعلّموه على يد البريطانيين، وتفرّعوا عنه لدراسة ماركس وغرامشي وبارت وسواهم، واستخدموا هذا المزيج الجديد من المقاربات لتكوين مقاربة أصيلة تماماً، وقاموا بتطبيقها على تاريخهم الخاص.
ويساورني الانطباع بأننا في العالم العربي نقوم بالنسخ المباشر. ما إن يقرأ الواحد كتاباً من تأليف فوكو أو غرامشي حتى يرغب في التحوّل الى ‘غرامشوي’ أو ‘فوكوّي’. لا توجد محاولة لتحويل تلك الأفكار الى شيء ذي صلة بالعالم العربي. نحن ما نزال تحت تأثير الغرب، من موقع اعتبرته على الدوام دونيّاً وتَتَلمُذياً. تأمّل العدد الكبير من الأفراد في شمال أفريقيا، في المستعمرات الفرنسية السابقة، ممن يكتبون وكأنهم تلامذة فوكو أو دريدا أو تودوروف. انها نوع من التي أجدها مضحكة في معظم الحالات. والقسط الأعظم منها راجع في نظري، وهذا مجرد انطباع، الى فهم ناقص لحقيقة الغرب.
إنهم يركزون على جانب واحد فقط. على سبيل المثال، يبدأ أحدهم بدراسة فرنسا دون أن يفقه شيئاً عن العالم الأنغلو سكسوني. أنت لا تستطيع دراسة الغرب هكذا، وأعتقد أنك لا تستطيع القيام بذلك دون معرفة الكثير عن الولايات المتحدة أساساً، لأنها صاحبة التأثير الأعظم ليس على العالم الغربي فحسب، بل على العالم الحاضر بأسره. لا توجد كليّة واحدة في أية جامعة عربية تتخصص في الدراسات الأمريكية. أمر مدهش! توجد جامعتان أمريكيتان كبيرتان، وربما أساسيتان، في العالم العربي: واحدة في لبنان والأخرى في القاهرة. ولكن لم يسبق لهاتين الجامعتين أن درّستا أمريكا. هذه ليست إشارة ضدهما بل ضدنا نحن، لأننا لم نطلب أن تضمّ جامعاتنا كلّيات تتخصص بالدراسات الأمريكية وتدرّس أمريكا على نحو جدّي وعلمي، بالإضافة الى تدريس ما تبقّى من عالم الغرب. لدينا واحد من اثنين: إمّا شعارات عريضة حول الغرب (استعمار، امبريالية… )، أو مدارس صغيرة من المقلّدين (الهيغليين، الماركسيين، الدريدائيين …) الذين لا يتقنون اللغة نفسها. على سبيل المثال، غرامشي مترجَم الى العربية عن الإنكليزية وليس الإيطالية، ولوكاش مترجم عن الفرنسية وليس الألمانية، وماركس عن الإنكليزية. هذه مسألة إشكالية للغاية.
ولهذا أعتقد أننا لم ننل قسطنا بعد من سيرورة التنوير والتحرر، بالمعنى الفكري. وأعتقد أن اللوم يقع على المثقفين، إذ ليس بوسعنا أن ننحي باللائمة على الإمبريالية أو الصهيونية فقط.
ـ مقتطف من حوار مطوّل جرى في باريس، تموز (يوليو) 1994، ونُشر بالإنكليزية في فصلية ‘جسور’، وبالفرنسية في حولية معهد العالم العربي.

  1. يقول لاحياة:

    لا حياة لمن تنادي …

  2. يقول ديمة - سورية:

    من باب التنويه، أننا درسنا في كلية الآداب قسم اللغة الانجليزية بدمشق مادة الأدب الأمريكي!! وتعرفنا على بعض من آثاره.

  3. يقول الدليل:

    في كل حملات الاستكشاف التي يقودها اغراب في العالم القديم هناك من السكان الاصليين من يتبرع للعب دور الدليل تقريا و تزلفا للغرباء و يروج لنفسه على انه مختلف عن السكان الاصليين و اقرب للقادمين في الحملة. أي غربة يشعر بها هذا الدليل عندما يرحل الاغراب و كيف ينظر في عيون اهله من حوله؟ سؤال اوجهه للمرحوم سعيد و المرحوم اركون و من ركب
    ركبهم

  4. يقول غريب:

    أعتقد أن الموضوع مثير للاهتمام جدا. شكرا للكاتب والمترجم.

  5. يقول غاندي حنا ناصر - كوريا الجنوبيه:

    إدورد سعيد كان أُمَه

  6. يقول عالخط:

    رحم الله المبدع ادوارد سعيد

إشترك في قائمتنا البريدية