غزو العراق وغزو غزة

أعادت مشاهد الحرب المؤلمة على مدينة غزة، ذكريات الفترة المؤلمة التي تعرض لها العراقيون، نتيجة لغزو بلدهم في 2003، وأحيت الذاكرة المشتركة مشاعر الحزن والألم المرتبط بالتحدي والصمود للتعديات الخطيرة، التي يحيكها الغرب الاستعماري المتطرف، الذي يتخذ من صراع الأديان والحضارات، استراتيجية لإذلال واستعباد الشعوب العربية، وإضعافها وسحقها، للوصول إلى مسح تاريخها من الذاكرة الإنسانية، التي تشهد على أصالتها ودورها في مسيرة التطور الحضاري، التي وثقها تاريخ الأديان برسله وأنبيائه وكتبه.
وكأشقائه في العالم الإسلامي والعربي، حافظ العراق على دوره في دعم القضية الفلسطينية، في الاستقلال وإقامة الدولة، كونها القضية المتأصلة بعمق في الهوية العربية الإسلامية للعراقيين من دون استثناء، حيث قامت المساجد ودور العبادة في تنظيم الصلوات المشتركة، بالإضافة إلى تقديم المعونة في جميع أنحاء البلاد والدعم الكامل لأشقائهم في غزة، على الرغم من التحفظ على الهجمات التي نفذتها المجاميع المسلحة على القوات الأمريكية في العراق، والتي يراها العديد من العراقيين، وسيلة تدخل ضمن استراتيجيته إيران وأذرعها في العراق، ومحاولة لتبني القضية الفلسطينية، على الرغم من السلبيات والمآسي التي تعرض لها فلسطينيو العراق، وهذا ما يعود بالذاكرة إلى الإشكالية والاضطهاد الذي أوقع الأخوة الفلسطينيين في فخ التغيير السياسي، الذي حصل في العراق، نتيجة للعلاقة الخاصة التي تربط القوى الفلسطينية مع النظام السابق، الذي حاربته وأسقطته الولايات المتحدة وإيران، فقد أحيت صور تدمير مدينة غزة ومشاهد القتلى الفلسطينيين الذين غطتهم الأنقاض، مسلسل الذكريات المؤلمة التي عاني منها العراقيون، وطفت على السطح مشاعر الغضب تجاه قوى اليمين الغربي والإسرائيلي المتطرف، والدور المعادي الذي يلعبانه في إعادة رسم علاقة الغرب الحضاري المسالم مع بلدان الشرق، حيث تكمن هذه العلاقة التاريخية بين الشرق والغرب في عمق أصالتها وقدم جذورها، التي يقر بها التاريخ الإنساني، على الرغم من محاولة البعض من المفكرين والمؤرخين، تقليل أهمية الدور الأساسي لحضارات الشرق الإسلامية في بغداد والأندلس، ناهيك عن المعطيات والأسس الإنسانية لحضارة بلاد الرافدين ومصر، ومحاولة حصر الأهمية بالحضارة اليونانية، أو حضارات البلدان الإسلامية غير العربية. وهذا ما يمكننا لمسه بوضوح من خلال العلاقة والآلية الغربية المتطرفة، التي تم إقرارها وتنفيذها في عملية غزو وتدمير العراق، وما يقومون به من ضحك على الذقون في أزمة الغرب وعلاقته بإيران، التي قُدم لها العراق المغلوب على أمره، على طبق من ذهب وبشهادة الزعماء الإيرانيين أنفسهم.

كما ساهمت عملية غزو العراق في زيادة التعصب والتخندق في صراع الأديان وصدام الحضارات بين الشرق والغرب، ستساهم الحرب على غزة على اتساع الهوة بين بلاد الشمال والجنوب

لا شك في أن المشاعر المعادية للشعوب الإسلامية والعربية الناتجة من سياسة اليمين الغربي المتطرف، الذي يحاول إعادة سيناريو رسم المنطقة، من خلال نشر أساطير وتنبؤات دينية متطرفة، أكل الزمان عليها وشرب، سواء كان عن طريق إذلال الفلسطينيين والعراقيين ومسح تاريخهم وهويتهم، أو من خلال رفض الغرب اليميني المتطرف لحل الدولتين بين اليهود والعرب، وترجيح كفة إسرائيل على حساب حقوق الشعب الفلسطيني للعيش بسلام جنب إلى جنب، أو عن طريق فرض الصراع السني ـ الشيعي، وترجيح كفة بلاد فارس على العراقيين، وجعل منطقة الشرق الأوسط بؤرة لأشكال عدة من الفوضى، واستمرار لمسلسل التدخل في الشرق منذ سايكس ـ بيكو.. واستمرار العمل في الكيل بمكيالين في علاقاته مع البلدان العربية، وعدم احترام إرادة الشعوب من دون انحياز.
ولم يسلم التيار القومي والوطني البعيد كل البعد عن التيار السياسي من هذا التدخل، حيث تعمد الغرب المتطرف، وأد النهضة العربية الوطنية، التي لا تجد في صورة الغرب ونهضته التقنية والاجتماعية ودور عامل المواطنة في بناء المجتمع سوى المثال والرمز، الذي وجب ان يحتذى به، بعيدا عن عامل التعصب والتخندق في صراع الأديان، وصدام الحضارات الذي يسعى اليمين المتطرف إلى تطبيقه وتكريس الثقافة التسلطية المؤمنة بمركزية الغرب وهامشية الشرق، من خلال تقسيم العالم إلى بلدان متقدمة وبلدان عالم ثالث، لتبقى العلاقة وفق معيار وقوانين السادة والعبيد. في المقابل أخطأ العالم الإسلامي بدوره وفشل في مواجهة الأصولية الإسلامية المبنية على التطرف والإرهاب وإلغاء الآخر، والتي جعلت من نفسها الناطق الممثل الحقيقي والوحيد للدين الإسلامي، ما ساعد الغرب اليميني المتطرف من تجييره في المجتمع الغربي لصالحه، واعتباره بالتالي خطرا على الثقافة المسيحية لا بد من مواجهته، الأمر الذي جعل الحاجة للذهاب إلى حوار الحضارات، أقل مصداقية وواقعية من الحاجة إلى صدام الحضارات، الذي أصبح أكثر حضوراً، إذا لم نقل أنه ألغى الحوار.
وعلى الرغم من كل هذا، تبقى ملامح الغرب الحضاري بوجهته الإنسانية وبعلاقته التاريخية مع العالم العربي ثابتة، وهي الصورة الأخرى والموقف الآخر الذي لم يتغير، وهو التوجه الذي نراه بوضوح، في مناقشات الطبقة السياسية الفرنسية والدول الأوروبية الأخرى، التي ترى في ما حدث من غزو العراق وغزو غزة، الدليل الواضح لصراع التيار الديني الغربي المتطرف، في مسلسل حرب الحضارات، الذي بدوره سيحول غضب الشعوب المضطهدة إلى دعوة لزيادة التطرف والكراهية، وكما ساهمت عملية غزو العراق في زيادة التعصب والتخندق في صراع الأديان وصدام الحضارات بين الشرق والغرب، ستساهم الحرب على غزة على اتساع الهوة بين بلاد الشمال والجنوب، وهذا ما سيجعل من تداعيات الحرب على غزة أشبه بتداعيات الحرب على العراق.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية