غزة في لوحات الرسام العراقي المغترب علي رشيد: إعلان التمرد والعصيان على سلطة الواقع والزمن

 مروان ياسين الدليمي
حجم الخط
0

قد تتصاعد في لحظة من الزمن وتيرة الأحداث السياسية إلى الحد الذي تنهار فيه شروط الحياة الطبيعية ويسود الرعب – مثلما يحصل اليوم في غزة من حرب إبادة بحق الفلسطينيين – عندها تمتد مآلات هذا الصراع إلى حقول الإنتاج في ميادين الثقافة والفن، ما يعرض الإنسانية إلى ارتجاجات عنيفة تطال فلسفتها وقيمها المفتوحة على تنظيم علاقات البشر مع بعضهم البعض، وإذا ما خيم مثل هذا المناخ الوحشي، سيفرض لا محالة على المبدع صياغة أسئلة محددة، لطالما أعاد طرحها على نفسه في مثل هذه الظروف، والتي تبحث عادة في جوهر علاقة الفن بالسياسة، وحدود التعبير عنها في النتاج الإبداعي. ولاشك في أن العودة إليها تحمل إشارة لا لبس فيها تؤكد على أن الفن نشاط إنساني مرتبط بحركة الواقع، ومن غير الممكن أن يتبرأ الفنان من أي صلة يلتقي فيها مع السياسة، بل سيعمد إلى تقنين هذه العلاقة عبر آليات خاصة بكل حقل إبداعي، سعيا لتثبيت موقفه مما يجري، باعتباره كيانا اجتماعيا متفاعلا مع الأحداث العامة.
قراءتنا هنا ستقتصر على ما أنجزه الرسام علي رشيد من لوحات في الفترة الأخيرة تناول فيها الحرب على غزة، من بعد أن قطع رحلة فنية زاخرة بالتفكير والتجريب، تحت يافطة مشروع أطلق عليه عنوان «تدوين الذاكرة» استغرقت أكثر من أربعين عاما، حيث كانت تجربته قد بدأت بالظهور والتشكل منذ ثمانينات القرن الماضي، ولتشهد في محطاتها تحولات مختلفة. ولكي نستدل على أوجه علاقة الفن التشكيلي مع السياسة لا بأس من العودة إلى الخلف، فقد تم التعبير عنها بوضوح منذ نهاية القرن التاسع عشر، وخلال المئة عام الماضية كان القرن العشرين قد شهد أحداثا سياسية عاصفة أفضت إلى تغيرات كبيرة في منظومة الحياة وإدارتها وإيقاعها، انعكست بالتالي على الفن في تجارب فردية أو عبر تيارات ومدارس فنية، كما هو الحال مع «الدادائية» على سبيل المثال التي ظهرت في بداية القرن العشرين، إلى جانب شيوع مظاهر التجريد في اتجاهات الحداثة وما بعد الحداثة في محاولة من قبل الفنان تحجيم شبح السياسة عن النتاج الفني بقصد الدفع بدلالات خطابه إلى آفاق لا نهائية من تشظي التأويل .

التحرر من الأنماط

الفنان التشكيلي العراقي علي رشيد (يحمل جنسية هولندية) على الرغم من أنه كان منشغلا طيلة أربعة عقود من الرسم في البحث عن مشروعه الفني الخاص، من خلال اكتشاف طرق وأساليب جديدة في التعبير يتحرر فيها من الأنماط السائدة في المشهد التشكيلي، إلا أن تفاعله مع الأحداث السياسية وخاصة المتعلقة بالمنطقة العربية وفي مقدمتها الصراع العربي الإسرائيلي انعكس في تفاصيل تجربته الجمالية، وما يعنينا في هذا المقال ما أنجزه في الفترة الأخيرة من لوحات حول غزة حاول فيها الاقتراب مما يواجهه الإنسان الفلسطيني من حرب إبادة من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلية تستهدف اقتلاعه من جذوره.
ورشيد في أعماله هذه حريص على أن لا تسقط اللوحة في المباشرة، لأنه لا يستهدف إثارة مشاعر المتلقي العربي، بقدر ما يسعى للوصول إلى أن يخلق تجربة بصرية تدفع المتلقي الغربي إلى التساؤل، باعتبارها ممارسة جمالية تعتمد في إنتاج خطابها على فعل الرؤية، لذا يحاول أن يفتح من خلالها مساحة للأصوات المقموعة حتى يتردد صداها خارج حدود المنطقة العربية.

انعكاس
الزمن المعاش

ومشروعه الفني بكل الموضوعات التي حاورها وشاكسها بأسئلته، ليس إلا محاولات حثيثة منه للبحث عن ذاته القلقة، بكل الخسارات التي مر بها في الماضي قبل أن يغادر وطنه الأم ويقيم في أوروبا. والحروب التي عاشها أيام كان جنديا قادته إلى أن يحاور ذاته في لوحاته، لكنه في حواره مع موضوعة غزة يبقى منفتحا على عالم يحشر مبادئ الحرية وحقوق الإنسان في صواريخ عابرة للقارات. وفي هذا الشأن كتب رشيد في صفحته بموقع فيسبوك: «فكرت ما الذي يمكنني رسمه إزاء هذا الجحيم الذي تسيد، وهذه العتمة التي حجبت زرقة السماء، وخضرة الأشجار، وباقة الورد في ثوب طفلة نحتها غبار الموت تحت الأنقاض؟ كيف لي الرسم لمواجهة هذه الحضارة التي تعوي فوق جثث الأبرياء، وهي تمد مخالبها في أجسادهم المنخورة بالشظايا؟ أليس الرسم انعكاسا للزمن المعاش، هل يمكن لأحد أن يرسم زهرة، أو يكتب نصا عن الحب وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة تحت الأنقاض، وفي رئتيه حفنة من رماد الحضارة التي باركت موته؟ كيف يمكنني الرسم وبجواري عيون طفلة مفتوحة على سعتها تنظر إلى الجدار الكاتم على أنفاسها مذهولة مما يحدث؟ عالم بشع كهذا لا يليق به سوى فن أكثر بشاعة».

طغيان الأثر الجمالي

إن دوافع الفن متنوعة وفي مجملها تخضع لذات الفنان وتجاربه الخاصة، وحتى لو لامس نتاجه موضوعة سياسية، ليس شرطا أن يكون الفن مرتهنا بدافع سياسي كما هو الحال في لوحات رشيد عن غزة، فالفن بهذا السياق من الفهم يبقىَ تجربة جمالية، ومستويات دلالاتها تتحرك على إيقاع حساسية وعي الفنان، وفي هذا المسار نجده يتوخى في خطابه الاقتراب من القضايا الوجودية التي تنتزع من الإنسان هويته، وتجعل وجوده محكوما بالنفي والموت، كما هي إشكالية الإنسان الفلسطيني على أرضه.
إن السِفر الطويل للفنان علي رشيد حمل تواقيع ثرية في ما طرحه من تجارب في لوحاته، وكل ما ذهب إليه في نصوصه البصرية من عناصر فنية مستلهمة من خطوط الطفولة، بما في ذلك اللوحات التي تناول فيها مأساة الفلسطيني كان حريصا فيها على أن يكون الأثر الجمالي طاغيا في نصه البصري.

لا سلطة على المتلقي

يلاحظ على أسلوبه الخالي من تزاحم الأشكال والعناصر، ابتعاده عن فكرة توجيه ذهن المتلقي حتى مع استخدامه الصور الفوتوغرافية بأسلوب الكولاج عند إنشاء اللوحة تاركا له مساحة رحبة من التأمل والتفكير في عالمه المتحقق بفضاءات التجريد والتعبيرية. وعلى الرغم من أن موضوعة غزة تحمل قدرا عاليا من الشحن العاطفي المأساوي، إلا أن خبرته الطويلة في مخاطبة الثقافة الغربية، دفعته إلى النأي بالمتلقي بعيدا عن التأثيرات الآنية التي قد يحدثها الموضوع بخلفيته السياسية وذاكرته المأساوية التي كرستها عقود طويلة من الاحتلال، إذ ليس في قصدياته أن يعيد إنشاد التراتيل المأساوية للقضية الفلسطينية ليستدر من خلالها عواطف المتلقي الغربي الذي يتوجه إليه بخطابه، كما أن الاختزال في الخطوط والألوان في معظم لوحاته، يأتي باعتباره تقنية تشكيلية، يسعى فيها إلى انزياح مسألة تلقي العمل الفني، من منطقة الاندهاش والانبهار إلى ناحية التمعن في إشكالية الإنسان الفلسطيني المحاصر من كل الجهات، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.
ومن أبرز مرتكزات تجربته، تلك المهارة التقنية التي تتجلى في انحيازه الواضح نحو تكثيف اللون على مساحات بيضاء، وما يقترن بلوحته من رؤية معاصرة في تنظيم العلاقات اللونية التي تسودها ألوان حيادية ممثلة بالأبيض والأسود إلى جانب صراحة اللون الأحمر. ولوحاته عن غزة، تعبير عن مدى تواصل الفنان مع الزمن والحياة والإنسان، بالشكل الذي يدفع من يتأملها إلى تجاوز ما هو مألوف ومرئي في الواقع لأجل أن تنفتح دلالاتها على فضاء من التساؤلات لا تنفك تنبش في ما هو مسكوت عنه. إن رشيد وهو يقترب في لوحاته من الموضوعات السياسية، يدرك مسبقا أن في ذلك مخاطرة كبيرة، لأن عملية التلقي ستخضع للتحجيم انطلاقا من المخزون المتراكم في اللاوعي الجمعي، لكن فاعلية وعيه النقدي تجعله قادرا على المراوغة والعصيان على سلطة الماضي.

سيرة علي رشيد تشير إلى أنه شاعر وتشكيلي عراقي ولد في كربلاء عام 1957. مقيم في هولندا منذ عام 1994. درس الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد، وأكاديمية الفنون الملكية في لاهاي. حصل على شهادة الماجستير من المدرسة العليا للفنون في تلبرخ هولندا، وجامعة ليستر بريطانيا، وغرناطة بأسبانيا. درس مادة الفن في أكثر من بلد عربي، كما حاضر في جامعة أوروبا الإسلامية/هولندا، أكاديمية الفنون الجميلة تلبرخ/هولندا. يعمل في النص والتشكيل على مشروعه الذي مارسه منذ بداية الثمانينيات والذي أسماه «تدوين الذاكرة». أقام العديد من المعارض الفردية، وشارك أيضا في معارض جماعية. أسس وحرر مجلة «إلى» التي تعنى بالفن المعاصر والكتابة الجديدة. كذلك أسس في إيطاليا وهولندا وإسبانيا ملتقى القافلة للفن «كرفان» بهدف خلق حوار إنساني وبصري بين الثقافات. أشرف على ملتقيات فنية في دول عربية مثل ملتقى مسقط، وملتقى الحمامات في تونس في دوراته الخمس وما زال. صدرت له مجاميع شعرية منها «ذاكرة الصهيل» و«خرائط مدبوغة بالذعر» عن دار نينوى /دمشق 2002-2003 ومجموعة «غرقى يحرثون البياض» عن دار خطوط/عمان 2021. أصدر كتاب تخطيطات بعنوان «أضحية رمزية لمعارك الله» 2005 لمجموعة تخطيطات عقد الثمانينات من القرن الماضي وكانت أشبه بالتدوين اليومي للحرب، وهو كتاب يدوي بنسخ محدودة. حصل على الجائزة الأولى في ملتقى «باول ريكارد» فرنسا، والجائزة الأولى لمهرجان «دنيا فيستفال»هولندا، والجائزة الثانية لـ«متحف رايزفيك» هولندا وله مشاركة في معارض عديدة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية