«عيون المشنوقين» مختارات القاص العراقي محمد خضير:  سعي جمالي وراء فنيات القصّ وتقنياته الشائقة

صابر رشدي
حجم الخط
0

يحدث أحياناً، أن تستيقظ آلهة الحظ، ويكون مزاجها رائقاً، ولديها استعداد للعمل بنشاط، وحنو، تجاه بعض البشر من طائفة الأدباء، فتوحي إلى بعض الكبار بالإشارة إلى كاتب معين، موهوب بعمق، لانتشاله من دائرة الصمت والظلام، والدفع به إلى عالم الشهرة والأنوار الساطعة، عن طريق كتابة كتاب عنه، أو مقدمة لكتاب له، أو الثناء عليه في حوار.
تكون هذه الإيماءات بمثابة ولادة جديدة، وسبباً قوياً لشهرة مدوية. اعتراف، وصك شرعية، يتقدم به المبدع إلى المستقبل، بثبات، وخطى واثقة، ككاتب مرموق يشار إليه بالبنان، وتحظى أعماله بالاهتمام والمتابعة النقدية والاستحسان، ويُستقبل استقبال الفاتحين في كل مكان، حسب منزلته الفعلية التي تمت الإشارة إليها من قبل. مثل هذه المِنح توفر عشرات السنين من عمر الكاتب، يقضيها كادحاً من أجل أن يجد له مكاناً تحت الشمس، يجلس فيه رفقة كبار هذا الفردوس الأرضي.
لقد أوعزت هذه الآلهة إلى طه حسين، صاحب التأثير البالغ في الثقافة العربية الحديثة، بأن يشير إلى مسرحية «أهل الكهف» رائعة توفيق الحكيم، ليقدمها إلى القارئ العربي، مثنياً عليها، بأنها تنتمي إلى المسرح العالمي، وبأنها فتحت الباب إلى أدب مسرحي عظيم، موفراً عليه عقودًا من الدعاية لأعماله (باعتراف الحكيم نفسه). فعلها عميد الأدب العربي أيضاً، مع يوسف إدريس، اختصر عليه سنوات كثيرة، عندما كتب له مقدمة مجموعته القصصية «جمهورية فرحات» لينطلق بعدها نجماً للقصة القصيرة، ونموذجها الأشهر في الأدب العربي. على الجانب الآخر، كان هناك الناقد العظيم رجاء النقاش، الذي التقط بمهارة مبدعينِ عربيينِ، هما الكاتب السوداني الطيب صالح، والشاعر الفلسطيني محمود درويش. كتب للأول مقدمة روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» ليصبح بعدها الطيب صالح المبدع الكبير الذي نعرفه، الذي خلدته آداب العالم عبر ترجمة الرواية إلى لغات عدة، كاتباً يستحق هذه التلويحة الكبرى. أما درويش فكان نصيبه كتاباً نقدياً: «محمود درويش شاعر الأرض المحتلة» وهو ما زال في بدايات الطريق.
فقيمة رجاء النقاش، ووزنه الأدبي فتحا أبواب الشهرة الواسعة أمام موهبة درويش، ليصير بعدها أحد نجوم القصيدة العربية في العصر الحديث… أيضاً، فعلها يوسف إدريس، مع اثنين آخرين من العباقرة يستحقان الإشارة، والتبني، والتنبؤ، وجذب الأنظار إليهما، إنهما كاتبا القصة القصيرة الكبيران يحيى الطاهر عبد الله، ومحمد المخزنجي.
هذه التلميحات، والتنبيهات، والرهانات، لها فعل السحر في تحويل المسارات، وتغيير الأقدار، فالصمت حيال العباقرة جريمة، تآمر خفي، وإثم ثقافي. رُب كلمة كانت مفتاحاً ذهبياً لولوج أحدهم عالم الاستثنائيين، بعدما أعطته الثقة اللازمة، والدفعة المعنوية الهائلة لمواصلة الطريق الصاعد إلى المجد. إنها رهانات الكبار، صاغة الذهب، ومروجيه.

صناع الثقافة العربية

في الستينيات، يسوق القدر واحداً من صناع الثقافة العربية في زمنه، وهو المرحوم سهيل إدريس، الكاتب والمترجم الكبير، صاحب ورئيس تحرير مجلة «الآداب» اللبنانية، درة الصحافة الأدبية حينها، يتلقى قصة قصيرة من كاتب عراقي غير معروف، يستشعر من خلالها بذور موهبة فارقة، وكتابة مختلفة، يعطيها حقها، ينوه عنها، يقول للقارئ: انتبه إلى هذا النص، انتبه إلى هذا الاسم. كانت القصة هي «الأرجوحة»، وكان الكاتب هو العراقي محمد خضير. جاءت ضربة البداية ناجعة تماماً، تلاها ثناء الكاتب الفلسطيني الكبير غسان كنفاني على قصة أخرى، لتؤكد أن الرجل يمضي على درب الكبار، وهي قصة «تقاسيم على وتر الربابة». وكان ذلك إثر هزيمة يونيو 1967، التي اشتبك خضير مع تداعياتها المريرة في قصته الأولى.
في عام 1972 يكرس خضير اسمه بمجموعته القصصية الأولى «المملكة السوداء». ينافس شعراء العراق الكبار، المتوجين عربياً، على عرش شهرة فارهة، أمثال سعدي يوسف، عبد الوهاب البياتي، بلند الحيدري، رغم أنه ليس أحد طالبيها، ويصبح كاتباً معروفاً. لكن ليس رهين نرجسية مفرطة، كإدريس ودرويش مثلاً، مفضلاً نموذج نجيب محفوظ الإنساني: التواضع الجم، والثقة المطلقة في موهبته، والزهد والتواضع في كل شيء عدا الكتابة الجيدة. تتوالى بعدها أعماله، تؤكد تواجده المستحق، حتى جاء صدور عمله المدهش «بصرياثا» سنة 1993، الذي كان بداية تعرف كاتب هذه السطور على عوالم ذلك الكاتب الباهي، الذي خط لنفسه مساراً إبداعياً غير تقليدي.
بصرياثا هي مدينة البصرة العريقة، سكنى محمد خضير، موطنه الذي لا يغادره إلا نادراً. لقد فعل في هذا النص تحديداً، كل ما أتيح له من تكنيكات الكتابة، متعدياً الأنواع الأدبية، جعل منه فتحاً أدبياً يمتح فيه من: السيرة، التاريخ، الجغرافيا، الأنثروبولجيا، الرحالة، القصة، الرواية الحديثة، الشعر. لم يترك حيلة فنية تحت الشمس إلا واستخدمها في هذا الكتاب الفريد، مستلهماً الخيال، ومتكئاً على الواقع، راحلاً، مرتحلاً، عبر دروب البصرة العظيمة، ليضع لها في النهاية سفراً عابراً للأزمنة، تُستعاد قراءته على مر السنين.
تتويجاً لهذه الرحلة العامرة بالإبداع الراقي. أصدرت دار المدى مختارات قصصية، مجموعة من النصوص، منتقاة من كتبه ومجموعاته القصصية السابقة، بعد أن رفض خضير فكرة إصدار الأعمال الكاملة، فلم يحِن وقتها بعد، حسب الكاتب فخري كريم في مقدمته المُحبة، المُقدرة للكاتب الكبير.
أول ما جذبني إلى هذه الإضمامة، خلوها من قصتيه الشهيرتين «الأرجوحة و«تقاسيم على وتر الربابة». حسناً فعل. حتى لا تتوقف مسيرته القصصية عندهما، لأن لديه كثيرًا من النصوص التي صمدت أمام أدوات النقد، والمطالعات المتعددة واستحسان القارئين.

المشغل السردي لمحمد خضير

سأتحدث هنا عن قصة من بين النصوص الرائعة التي تحويها المختارات وهي «آخر العباسيين»، من «كتاب العقود»، والتي تمثل المشغل السردي لمحمد خضير. حيث تجتمع فيها سمات عوالمه، وابتكاراته، والزوايا التي يتكئ عليها عند التقاط أحد المشاهد المؤثرة. ثمة حكاية عراقية بامتياز، مكانها مدينة البصرة، حيث تتوزع على هذه الرقعة الجغرافية أسماء ومناطق مثل: الكواوزة، الصالحية، شط العرب، عبيد المختارة. إنها سيرة إنسان فقير، يعمل حوذياً لدي شيخ سليل لعائلة من ملاك الأراضي، يقوم بتوصيله إلى المسجد ليؤمَّ المصلين. في عدة سطور يتم الكشف عن حالة من حالات البؤس، العذاب، العبودية، والذل البشري مجسداً. سأترك العم خضير يسرد:
«خلال انتظاره لشيخه، سرحت خواطر الحوذي إلى دار عمته في بستان من أملاك الأسرة العباسية في مقاطعة (الصالحية) على الضفة الشرقية من شط العرب، وشاهد أباه الفلاح مشدوداً إلى جذع نخلة الدار يُجلَد أمام عينيه وعيني عمته جزاء تقصيره في تسديد ديون المُغارسة لسيّده الملاّك، وكي يسدد الدَّيْنَ بعد وفاة الأب، انضم الابن إلى إسطبل الأسرة حتى امتد به العمر وبشيخه وبالخيول التي دأبت على الوقوف ليلة كل جمعة في ركن الشارع المحاذي لسور الجامع القديم».
محمد خضير كاتب يفتح نافذته على الواقع، وعلى حياة الناس في العالم المحيط به، لا يقف بعيداً يراقب ما يجري بحياد، بل يجعلك تشعر بأنه يقدم نسخة مطابقة للحياة، لكنها تخضع لمقاييس الفن لا الحياة، من خلال الحرص على حشد التفاصيل الدقيقة، والوقائع، وما يدور داخل الشخصية، والسعي الجمالي وراء فنيات القص وتقنياته الشائقة. إنه يتوغل داخل النفس البشرية، يستنطق بطله، يكشف لنا عذاباته، آماله الموءودة، رغبته الثأرية التي يخشى أن يفكر فيها كفاعل، أو يعلنها على الملأ، بل كأمنية تحدث بيد غيره، بعيداً عن ذاته المنكفئة على الآمها. شخصيات تشيخوفية، تنضح بالانسحاق وانعدام الحيلة:
«استبطأ الحوذي خروج شيخه من المصلَّى، ورابه سكون الليل وصفاؤه، فزاغ بصره وهُيئ إليه أنه يرى جذعاً بشرياً متحركاً ينفصل عن جذع النخلة المائل في الفناء المظلم ويقود شطحاته إلى نهاية محتملة لعلاقة طويلة مصفوعة بالذل والمديونية مثل علاقته. خيل إلى الحوذي أن يد النهاية أقرب مما يتصور إلى جسد شيخه الجاثي على ركبتيه أمام المصلين، وأن الجذع المتحرك يسير في اتجاه المصلى الواطئ، المعقود من الجص والحجارة، مارّاً بأسطوانة المئذنة المرشوقة مثل عمود مائل من السماء، يهبط الدرجات ويقف تحت مصباح المصلى، ثم يقترب بحذر من الشيخ الجاثي، وقد انفضَّ المصلون من ورائه، همس فوق رأسه: «طالت صلاتك يا شيخي، لم أعهدك تطيل السجود غير هذه الليلة».
ثم يخاطب الجذع البشري الشيخ من وراء لثامه، فلا تند عنه إلا تمتمات يتجاهلها الجذع المقترب بحذر، ويزيح عباءته ملوحاً بخنجر يستله من وسطه: «شيخي، يوم لك ويوم عليك، خذ هذه الطعنة»….
ليس لدى الفقراء سوى الأحلام، ليس لدى المعدمين سوى الأمنيات المكتومة في الصدور. فقد أفاق الحوذي على أقدام شيخه ترتقي سلم العربة وترتمي في الخباء المسدل وراء ظهره، شهر الحوذي سوطه وحث الحصانين الساكنين بلسعات لامست الهواء، فجريا على مهل وتثاقُل. ولمَّا قطعت العربة مرحلة من الطريق، ذكر الحوذي شيخه بتفسير حلمه عن النخل المقطوع، فردد الشيخ كلمات الليالي السابقات: «اكتمه في صدرك وسر».
في معظم أعماله، يحاول محمد خضير الابتعاد عن الخطاب الأيديولوجي، منحازاً إلى الشخصية في تجريدها الفطري، مؤنسناً حكاياته، تاركاً للأحداث وحدها شق مسارات انفعالية داخل وجدان القارئ، عبر التوترات المنبعثة من داخل النص، والتماهي مع ما يجري فوق السطور، وإدراكه إدراكاً بصرياً، أنه يكتب عن الناس للناس، يكتب عن دهاليز ودروب البصرة لأهل البصرة. بأسلوب شعري أخاذ، نادراً ما تجد لديه سكونية تبطل عنصر الزمان. لا تشغله التصنيفات الطبقية: الطائفية، الإثنية، القبلية، أو أي عنصر من عناصر التركيبة العراقية المعقدة. فهو كاتب غير حزبي، لا تقيده الأفكار سابقة التجهيز، يسعى دائماً وراء الإبداع الصافي، النقي. إنه سليل طائفة من المبدعين الكبار، الذين أخلصوا لأوطانهم، ومدنهم، وتركوا إرثاً أدبياً راقياً، دليلاً على هذا الحب، وعلى أنهم عبروا هذه الدروب، مكتشفين سحر الأدب، وعراقة أوطانهم، وبعض أسرار الحياة.
محمد خضير: «عيون المشنوقين»
مختارات قصصية
دار المدى، بغداد 2023
158 صفحة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية