عودة الابن الضال في رواية «وجوه في الزحام»…

تعد تجربة الأديبة الكويتية فاطمة يوسف العلي تجربة رائدة في الكويت على المستوى النقدي والمستوى السردي، فقد كتبت روايتين «وجوه في الزحام»، ورواية «ثرثرة بلا ضفاف»، إضافة إلى كتابات متعددة في القصة القصيرة مثل: «وجهها وطن»، و«دماء على وجه القمر»، و»تاء مربوطة». أما في الصحافة فقد اطلق عليها الصحافية الصغيرة نظرا لانشغالها المبكر في الصحافة، ولها في الدراسات النقدية «الحراك الاجتماعي في الكويت»، و»المرأة ساردة في الرواية العربية».
اطلعت على نوفيلا قديمة للكاتبة العلي بعنوان «وجوه في الزحام» صدرت عام 1971. وهي رواية قصيرة في حجمها، بليغة في سردها، تدور حول حياة أسرة واحدة وتركز على هموم النساء، وتطلعات المرأة الجديدة في بداية النهضة الاجتماعية في الكويت، ولا تنسى تمثيل ارتباط الأسرة الرصين بالقضايا القومية العربية المستحقة، مثل ارتباطها بالقضية الفلسطينية التي تشغل حيزا من الاهتمام منذ بداية الرواية، إذ يقول الأب أبو خالد: «- هذه القضية القومية المصيرية لن يأتي حلها أبدا من موسكو أو من واشنطن أو من لندن، ولن يأتي حلها حتى من باريس، بل يأتي منا نحن، من إرادتنا نحن، من وحدة الصف، والكلمة، والرأي». ومن الواضح جدا هنا اعتناق الرؤية الماركسية عند الأب والحديث عن رغبته بوصفه مواطنا عربيا في صنع قدره ومصيره، مع إيمانه بقدرته على الفعل. وهذه الرؤية التي آمن بها العرب في منتصف القرن الماضي تكسرت على أرض واقع الخيبات العربية المريرة من نكبة ونكسة واتفاقية أوسلو.

هوية أنثوية جديدة

تسلط الرواية من جانب آخر الضوء على هوية المرأة، وإمكانية بنائها من منظور تقليدي يناقش أولويات المرأة الزواج أم التعليم؟ والزواج من المرأة الأجنبية أم المرأة العربية؟ وهذا اتضح من خلال شخصية أحلام التي كانت في بداية الرواية مجرد صورة نمطية تقليدية للمرأة العربية الخليجية، فيما بعد خمسينيات القرن الماضي تقدم رجلا وتؤخر أخرى نحو حقوقها المتوقفة، حسب كرم الرجل. وتظهر صورة الأب المانح الذي يهب المرأة حريتها بناء على قناعاته إذ يقول: «ولا تنس أنه لولا إيماني بالحرية قولا وعملا، ما أمكن لهما أن تنجحا أو أن تدخلا المدرسة أصلا».
وهنا تبرز قضية الحقوق المتوقفة على الممارسة والتطبيق حتى لو تم إقرار الحقوق قانونيا وسياسيا، فإن الأمر يتوقف على الممارسة السياسية. وهذا ما أثبتته تجربة أحلام في تشكيل هويتها معتمدة على التعليم في مقاومة التجربة العاطفية الفاشلة، وإثبات قدرتها على التجاوز وصنع صورة المرأة المتعلمة القوية القادرة على تجاوز الأزمات.

قضية المنفى والعلاقة الجدلية بين الشرق والغرب علاقة ملتبسة والهوية والانتماء أصبحت قضايا بينية، والعلاقة بين هذه المكونات المشكلة للهوية الإنسانية هي علاقة هجينة، علاقة لا يستطيع المنفي أن يقبض على صورة واحدة لانتماء وحيد لا تحتاج إلى غربلة دائمة لفك الالتباس والوقوع بين فضاءين.

عودة الابن الضال

تعالج الرواية بشكل محوري العلاقة الجدلية بين الشرق والغرب، من منظور حداثي لا ما بعد حداثي لفكرة الانتماء وعلاقة الأنا بالآخر. يتضح ذلك في الجانب الذي يخص المنفى، والانقسام الحاد في النظر إليه، فهو كما قُدم في الرواية، إما سلبي أو إيجابي، لقد وصل محمد بعد انغماسه في الحياة الصاخبة في لندن إلى خلاصة مفادها: «الآن خرج المارد من قمقمه، ليعلن عن شرقيته وتحفظه وتمسكه بتقاليده وحساسياته وعاداته وأفكاره، أصبح عاريا حين أذابت شمس الكويت الدافئة برودة لندن، وصقيع مدينة الضباب، لم يعد الضباب الكثيف يحجب عنه الحقيقة العارية مثله، أدرك أنه دفع الثمن باهظا من حياته ومستقبله، وأن عليه أن يصلح ما أفسده، ليته لم يغادر بلده، أحس بالانهزام والفشل، ما بني على باطل فهو باطل».
في كثير من الروايات العربية نجد تصوير المنفى يظهر بصورة نمطية ثابتة، وانقسام حاد بين الأنا والآخر: القيم المادية الغربية والقيم الروحية الشرقية، الاستقرار المادي، مقابل الشتات العاطفي والحنين إلى الشرق في نهاية الرحلة.‏ تناقش الرواية بشكل دقيق مدى قدرة الشباب العرب على المحافظة على عاداتهم وتقاليدهم وعدم الانصهار والذوبان في ثقافة الآخر. وهذه رؤية تمت معالجتها كثيرا في الروايات العربية في بداية نشأتها، مثل رواية «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم، ورواية «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، ولا يزال هذا الموضوع مطروحاً في روايات خليجية مثل ما طرحته رواية «الجسد الراحل» للأديبة الإماراتية أسماء الزرعوني.
وهذا الموضوع تحديدا يحتاج إلى مناقشة، وأقصد موضوع المنفى والنظر إلى الآخر الأجنبي وثقافته وعاداته وتقاليده، على أنها مانحة أو سالبة وعدم الاعتدال بينهما. قضية المنفى والعلاقة الجدلية بين الشرق والغرب علاقة ملتبسة والهوية والانتماء أصبحت قضايا بينية، والعلاقة بين هذه المكونات المشكلة للهوية الإنسانية هي علاقة هجينة، علاقة لا يستطيع المنفي أن يقبض على صورة واحدة لانتماء وحيد لا تحتاج إلى غربلة دائمة لفك الالتباس والوقوع بين فضاءين. فالبطل في رواية «وجوه في الزحام» ظهر كبطل منغمس في القيم المادية الغربية. بخلاف بطل «عصفور من الشرق» الباحث عن أنوار المعرفة في مدينة الأنوار، أو مصطفى سعيد بطل رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، نجد بطل رواية «وجوه في الزحام» منبهرا بمعطيات الثقافة الغربية الاستهلاكية، راميا خلفه أهدافه وخطيبته وكل ما يربطه بالشرق، فتخلى عن خطيبته ابنة عمه رمز الوطن والعادات والتقاليد والثقافة المحلية، منبهرا بأضواء بلد الضباب ونمط الحياة الجديدة، مهملا دروسه متماهيا مع ثقافة الغالب، عائدا إلى الوطن في نهاية المطاف مع زوجته الشقراء بعد أن اكتشف: «محمد احتضن وجهه براحتيه الراعشتين من فرط إحساسه بالفوارق المجتمعية التي حاول أن يلغيها بما لديه من مال، يا لغرابة هذا المجتمع، كأنه بيت موصود لا يقبل أي دخيل، حدج بنظراته إلى لا شيء، شرد مستوحشا عالمه، كيف أنفق كل ما أنفق، دون أن ينجح في أن ينتمي إلى هذا المجتمع، وأن يصبح عضوا من جسده؟». إلا أن زوجته لم تتقبل الحياة في الكويت وعادت إلى بلدها، ما جعل البطل يعيد التفكير في ما فاته، باحثا عن ابنة عمه التي عانت المرار حتى تنسى غدره بها وتكمل تعليمها وتحقق ذاتها من خلال الدراسة والتحصيل العلمي قائلة:
«لا.. لن أرسب.. سوف أنجح، والأيام بيننا، سيكون لقاء ذات يوم، أجعلك تندم فيه، يا من سحقت قلبي وأذللت كبريائي». وبالفعل عاد بعد فوات الأوان بعد أن ارتبطت برجل آخر. وهنا يتبين أن الشخصية استطاعت التعامل مع معاناتها وتخطي جراحها، وهذا السبيل الحقيقي أمام المرأة لبناء نفسها يبدأ مع التعليم والعمل أولا، ويكتمل بالزواج وتأسيس الأسرة. في نهاية الرواية تحول حبيب الأمس وابن العم العزيز صاحب ذكريات الماضي الثمينة مجرد عابر سبيل.

كاتبة من الكويت

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية