الكتابة المستحيلة في ظل الآخر

اليوم، لا ينظر المؤلف إلى نفسه بأنه ناقل رسالةٍ إنسانية أو رؤية جمالية معينة، بل هو شخص منشغل بهذه العملية المركبة والمعقدة، التي تحظى بحيز من تفكيره وقلقه ومشاعره وانفعالاته المتعددة. ومن خلال تيارات الروايات الذاتية، أصبح المؤلف قادراً على أن يسرد ذاته، وينقل هذه التفاصيل المؤرقة إليه، وإلى غيره من المبدعين، التي تكشف ما وراء عملية الكتابة نفسها. من جانب آخر، لا تقف نظرة قارئ الأدب عند كونه مادة استهلاكية جاهزة، بل ينظر إلى القارئ بوصفه فاعلاً ومشاركاً في هذه العملية، ويسعى إلى فهم كل تفاصيل هذه العملية المركبة.
بعد أن سيطرت المناهج الخارجية التاريخية والنفسية الفرويدية، وأشبعت ذات المؤلف بحثاً وتحليلاً بطرائق تلوي فيها هذه القراءات أعناق النصوص، وتربطها بسيرة المؤلف قسرياً، غدا دخول الذات غير مرغوب فيه مع ظهور طروحات البنيوية و«موت المؤلف» لكن، بعد أن دخلت الطروحات المابعد حداثية، وعاد مجدداً الالتفات إلى المؤلف في طروحات متعددة مثل مقالة ميشيل فوكو (ما المؤلف؟) جرى الالتفات إلى المؤلف مجدداً بطريقة تغاير القراءات السطحية والأيديولوجية المبتسرة لذات المؤلف.
يبين فوكو أن اسم المؤلف ذو أهمية في قدرتنا على قراءة السياق الثقافي لخطاب المؤلف داخل مجتمع وثقافة معينين، موضحاً وظيفة المؤلف في ما يلي: «وظيفة المؤلف، إذن، هي رسم صيغة الوجود، والتداول، والقيام بوظائف خطابات معيَنة في مجتمع ما» (فوكو، ما المؤلف؟ ). ويوضح فوكو أنه في كثير من الأحيان إذا لم يعرف القارئ اسم المؤلف، يفقد العمل قيمته بالنسبة إليه، لأن هناك خبرات إنسانية ومعرفية تضيء تفاصيل النص الأدبي والتجربة الإنسانية في العمل. كما أن المؤلف نفسه بدأ يُشرك قراءه في الدخول في تفاصيل هذه العملية الإبداعية. من هنا، غدا الحديث عن الذات تياراً يتمدد مع الاهتمام بالذات والذاتية.

الميتافيكشن

تظهر مصلحات الميتافيكشن، والميتا شعر، والميتا نقد، مع روايات التخييل الذاتي، وتضيف هذه المقاربات فهماً مغايراً لطبيعة الكتابة نفسها وللذات الكاتبة في بحثها المضني عن عصا سحرية للإبداع. تعرف ليندا هيتشيون رواية الميتافيكشن بأنها «رواية عن الرواية، أي الرواية التي تتضمن تعليقاً على السرد وهويته اللغوية» (رنا فيرمان). في حين يذهب ستانلي فوجل إلى أن المفهوم يذهب إلى ما وراء العملية الإبداعية وكتابة النص الروائي، فبالنسبة إليه، «كتاب ما وراء الرواية يتفحصون جميع أوجه الهياكل الأدبية، اللغة والأعراف الخاصة بالحبكة والشخصية، وعلاقة الفنان بفنه وقارئه» (فاضل ثامر). ويبين فاضل ثامر أن جوهر الميتا سرد هو «وعي ذاتي مقصود بالكتابة القصصية أو الروائية، يتمثل أحياناً في الاشتغال على إنجاز عمل كتابي أو البحث عن مخطوطة أو مذكرات مفقودة، وغالباً ما يكشف فيها الراوي أو البطل عن انشغالات فنية بشروط الكتابة مثل انهماك الراوي بتلمس طبيعة الكتابة الروائية». هذا الوعي الذاتي المقصود هو، كما تبين باتريشيا ووه في كتابها المعنون بـ(الميتافيكشن) وعيٌ بالكتابة، وبإشكاليات الشرعية الفنية، وطرح ومناقشة هذه الإشكاليات من خلال تنظير الرواية لنفسها.
تعرض هذه المقالة لروايتين اتضح فيهما هذا النمط من الكتابة، الذي أرى أنه ابتعد عن التخييل الذاتي ونمط الرواية النرجسية إلى أبعاد مغايرة، حاولت الروايات مناقشة قضايا إبداعية شائكة، مثل علاقة الذات الكاتبة بالأسلاف، مثلما يتضح في رواية «ضمير المتكلم» لفيصل الأحمر، ما يجعل العملية الإبداعية كتابة مستحيلة، في حين نجد هذه الكتابة المستحيلة تتبدى في رواية «الجنيات» لتميم هنيدي، بعد أن تُسلب الرواية من البطل، ويتمتع بالشهرة الأدبية مَن لا يستحقها.

«ضمير المتكلم» للكاتب الجزائري فيصل الأحمر

بالإمكان عد فكرة رواية «ضمير المتكلم» للكاتب الجزائري فيصل الأحمر، فكرةً جديدةً وأصيلةً تبحث في سرديات الماضي بعين نقدية ما بعد حداثية، من خلال ترسيخ فكرة حضور الذات، وتفردها، والقدرة على التعبير عنها بوساطة ضمير المتكلم. ما يستحضر في الذهن كل السرديات التي سردتها الجماعات، وغيبت فيها الأصوات الفردية والذات المتكلمة عبر ضمير الغائب وتقنية السارد العليم. تحاول الرواية من خلال ضمير المتكلم أن تنتصر للأدب والإنسانية، وأن تقف ضد كل النماذج التقليدية السائدة التي تسببت في تراجع الأمة العربية. كما تناقش الرواية، في جانب آخر، هذه الموضوعات بتقاطع كبير مع السياسة والفكر والدين والفن. من خلال الشخصيات التي تقع على هامش المجتمع الجزائري، التي تسرد تفاصيل حياتها من خلال ضمير المتكلم، تظهر غربة أبناء الوطن عن وطنهم، وترصد خيبتهم المشتركة على المستوى الجمعي. تنخرط الشخصيات في لملمة شتات الحكايات والوجع الجزائري الذي يتقاطع على نحو كبير مع العالم العربي، بدءاً من الاستعمار حتى العشرية الحمراء وما بعدها، إضافةً إلى أن الرواية تحليلية وصفية دقيقة، فهي أيضاً رواية نقدية راديكالية، تنتقد العديد من الأبعاد المكونة لإشكاليات الواقع الجزائري، أرى أن الإضافة الحقيقية في الرواية تظهر في أنها تعطي أولوية كبيرة لضمير المتكلم، الذي يجعل كل إنسان مالكاً زمامَ حكايته وتفاصيلها، فلا يتركها تُروى نيابةً عنه، وهذا خلاف ما كان معمولاً به في سرديات الماضي، والتبعية المطلقة للراوي العليم، والكتابات التاريخية الرسمية التي تغيب الأفراد والجماعات المهمشة في أن تكون مالكة مصائرها الفردية، وتكتب حكاياتها الشخصية.
يخطط البطل لتأليف رواية، ويذكر أنه يريد أن يقدم حكايته وزملاء الثانوية، فيستعيد حكاياتهم، ومن ثم يتردد في ذلك، لأنه يرى أن الحياة لا تستحق الكتابة عنها بجدية، فيقول: «الحياة ابنة كلبة، لا تستحق رواية منسجمة منظمة. تكفيها أي حكاية فيها قليل من الجدية».
تتوزع الرواية على مجموعة من الحكايات، على عدد من الليالي مقدمة بأصوات أبطالها، ما يحقق سرداً متعدد الأصوات، حافلاً بالرؤية البولفونية. مثلما تقدم، تعطي العملية السردية أولوية للرؤية البولفونية من خلال الشخصيات المتعددة، مثل كاتب السيناريو والشرطي والمنتج، كل هذه الشخصيات استخدمت ضمير المتكلم لتحقيق الاعتراف بها أو كشف عجز الذات أمام إبداع الآخر. تتوقف الرواية كثيراً عند نجيب محفوظ وتأثيره الطاغي فيه، حيث يبين قلق التأثر، وأنه مرتبط ارتباطاً كبيراً بشخصيته: «قلت لك آخر مرة إن نجيب محفوظ قد التقطني في الثمانينيات، ورمى بي في قلب التسعينيات» موضحاً عدم قدرته على تجاوز أثر نجيب محفوظ، وأنه لا يستطيع الكتابة، وإيجاد هوية أدبية خاصة به بسبب سيطرة صورة نجيب محفوظ على عالمه الخاص. هذا ما يؤكده في صفحات متقدمة من الرواية، قائلاً: «خرج نجيب محفوظ من حياتي مصادفةً، لكن شبحه ظل مهيمناً عليّ. كثيراً ما أحلم بأنني أكتب شيئاً، فيأتيني في المنام ويهددني».
كأن الكاتب يمر، هنا، بحبسة/بجفاف قلم الكتابة، فلا يستطيع أن يتقدم إلى الأمام بسبب الخوف من قوة الأسلاف الأدبيين، وما يعانيه الكاتب اليوم من عدم القدرة على خلق هوية إنسانية جديدة. وهذا يرتبط بما طرحه هارولد بلوم في كتابه الشهير «قلق التأثر» بتأكيده عدم قدرة الكتاب على تخطي أسلافهم. كما تناقش الرواية أحد الضمائر المهمة في كتابة الرواية، وهو ضمير المتكلم، وما له من علاقة مهمة في تقديم شهادة الأبطال على أزمنتهم. وتعرض الروايةُ، بطابعها السياسي التاريخي الأدبي، أهمية الأدب والفكر والتاريخ في تشكيل وعي الإنسان، ويتحول الصمت المرير والمهين والمشين إلى ضمير المتكلم، ليدين كل الجرائم التي عاشتها الإنسانية بجعل الشخصيات ترى حيواتها من خلال ضمير المتكلِم. على نحوٍ عام، تهتم الرواية بمركزية التعبير، وقدرة اللغة على تفكيك المضامين الاجتماعية التي همشت الفرد، وأقصته لغوياً. وقد أجادت في تعيين كثيرٍ من الحالات الفكرية والنفسية والاجتماعية برشاقة واقتدار، وحرفية عالية.

رواية «الجنيات» للكاتب السوري تميم هنيدي

تكشف رواية «الجنيات» لتميم هنيدي، فكرة الفساد في الحقل الثقافي، والشلليات الثقافية، وتفضح الدورَ السلبي الذي تلعبه في الترويج لبعض الأسماء الثقافية، وتلميعها، على الرغم من عجزها عن المقدرة الإبداعية المميزة. يتبدى ذلك من خلال شخصيات مثل خليل النايف، الذي يشتري الروايات من البطل المثقف القارئ خالد الحمدان، الذي لا يجد عملاً يعمله، فيضطر إلى أن يعمل بائعاً في مكتبة. وبسبب حاجة البطل الماسة إلى المال فإنه يكتب له الروايات، يرافقه إحساس كبير بالمرارة والخيبة والاستغلال الكبير الواقع عليه، وعدم قدرته على التوقف عن أن يكون قلماً مُستغَلاً من هذه الشخصية المتنفذة في المجتمع. في سردٍ زمني متتابع، وسارد خارجي كلي المعرفة، تنطلق أحداث الرواية الشائقة. وبتسليط الضوء على مكان واحد، يتعمق السرد في حياة أهل المدينة التي تكتسب رمزية اسمها، كونها تعالج فكرة ملكية الموهبة الإبداعية وعدم ملكيتها، نسبة إلى جنيات الإبداع في الإرث الأدبي العربي القديم. طريقة عرض الأحداث طريقة متصاعدة جداً، تصل إلى القمة، حيث الحل في النهاية يكون بعودة الابن الغائب. تتميز لغة النص باقتدارها في الوصف والتعيين والإيحاء بدلاً من التصوير المباشر، والعبارات التأملية، والرموز التي تبتعد عن التصريح برغبات الشخصيات، بل يفهمها القارئ من خلال الرموز.
تقف الرواية عند إحساس الكاتب بهامشية إبداعه في البداية، وسلبه منه في النهاية. بين هاتين الحالتين، يعرض خالد الحمدان لرؤيته للأدب وتقييمه لما يكتب: «كان كلما قرأ رواية جميلة يزداد قبح روايته، حتى قل شغفه بها، إلى أن تلاشى، فلا يتذكرها إلا عندما يسأله أحد الفضوليين عنها» (الرواية) وكأن ما يقوله البطل هراء، مثلما يوضح بطل رواية ألبيرت أنجيلو: «ما أحاول الكتابة عنه في حقيقة الأمر هو عدم كتابة كل هذا الهراء».
(الرواية) يعرض الكاتب في الرواية لأحوال سكان قرية الجنيات؛ المرارة، والفقد، وحالات الهجرة الجماعية للشبان السوريين الذين تطردهم الظروف خارج المكان. كما يظهر في الرواية كثير من المواقف السلطوية الفاسدة لخليل النايف، إضافةً إلى استمتاعه بنجاحه، كما لو أنه هو المبدع الحقيقي، إضافةً إلى تأملات البطل خالد الحمدان في كثير من المقولات الإبداعية والثقافية، ودور المكتبة التي تتحول إلى ملاذٍ ونورٍ للمثقفين.
يعد هذا النص واحداً من النصوص السردية المهمة في تعرية الفساد الثقافي، وأثر سيطرة الشلليات الثقافية في الأوساط الثقافية، وقدرتها على سرقة الإبداع والأصوات الإبداعية الجادة، وحرمانها من فرصتها الحقيقية التي تستحقها. يتضح الميتاسرد هنا من خلال رؤية الكاتب لإبداعه، كما يعرض أيضاً لحالة لا يجري الحديث عنها بتوسع في الثقافة العربية، وهي الاستيلاء والسطو على إبداع الآخرين، وأحياناً تسليم بعض المبدعين كتاباتهم لآخرين طواعيةً، بحثاً عن المال وحده، بسبب ظروفهم القاهرة، فتصبح كتاباتهم منيعة من الوصول إلى أسماء كتابها الأصليين، ويغدو انتشارها موتاً حقيقياً لأسمائهم الأدبية. كما تعري الرواية الفسادَ الثقافي والإداري، وتناقش دور الشلليات الثقافية في تشويه الذوق العام. ويحارب هذا الخطاب الروائي المقاوم كل هذه الممارسات المشينة. لا تقف الرواية عند حدود الإشكاليات الثقافية، بل تنطلق من الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي بوصف هذه العوامل والأبعاد بأن لها دوراً مفصلياً في الخضوع لاستغلال الشبان في جانب، وهجرة أبناء الوطن في جانب آخر.

كاتبة كويتية

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية