عن عيادات أطباء الأسنان والسياسة في ألمانيا

لا يكف رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي في ألمانيا، فريدريش ميرتس، عن الخروج على الرأي العام بتصريحات عنصرية تقلل من شأن اللاجئين وطالبي اللجوء وتمتهن حقوقهم وتتهمهم بكونهم يتحايلون للحصول على خدمات الرعاية الاجتماعية والصحية التي تضمنها الحكومة الفيدرالية وحكومات الولايات والوحدات المحلية.
جاء تصريح ميرتس الأخير قبل أيام قليلة، حيث اتهم في لقاء تلفزيوني اللاجئين، بمن فيهم من رفضت طلبات حصولهم على حق اللجوء ولم يغادروا الأراضي الألمانية، باستغلال ما تضمنه البلاد لهم من رعاية صحية لعلاج أسنانهم وإصلاحها والتكدس في عيادات أطباء الأسنان على «مقاعد العلاج» على حساب حق المواطنات والمواطنين في الكشف الدوري الذي يدفعون مقابله في اشتراكات التأمين الصحي الشهرية أو السنوية.
بحسابات السياسة والانتخابات، كان هدف «زعيم المعارضة» من تصريحه غير المتطابق مع واقع الأمر في ألمانيا، حيث لا يحصل لا اللاجئون ولا طالبو اللجوء على رعاية صحية لأسنانهم إلا في حالات «الخطر على الحياة» وعلى نحو استثنائي، هو الاقتراب من دوائر اليمين الشعبوي والمتطرف التي باتت ترفض صراحة وجود اللاجئين وتطالب بإبعادهم وصارت أصواتها الانتخابية تذهب إلى الأحزاب في أقصى اليمين مثل حزب البديل لألمانيا.
من وراء تصريحه الأخير وتصريحاته العنصرية المتكررة، يريد ميرتس، وهو خليفة المستشارة السابقة أنغيلا ميركل التي فتحت أبواب بلادها أمام اللاجئين السوريين وغيرهم في 2015، أن يحصل على أصوات ناخبي اليمين الشعبوي والمتطرف لحزبه المسيحي الديمقراطي بشتى الوسائل الممكنة لأن في ذلك سبيله الوحيد للحصول على أغلبيات في الانتخابات البرلمانية إن على المستوى الفيدرالي أو على مستوى الولايات وانتزاع الحكم من تحالف الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الخضر.
بحسابات السياسة والانتخابات، أراد الرجل بتصريحه الأخير توظيف حالة القلق العام في ألمانيا من الزيادة المستمرة في أعداد اللاجئين وطالبي اللجوء القادمين من خارج أوروبا، تحديدا من الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وعديد الدول الإفريقية الأخرى، ومن داخل أوروبا، تحديدا من أوكرانيا. فكما تدلل استطلاعات الرأي العام الراهنة في ألمانيا، يشعر عموم المواطنات والمواطنين أن قدرة بلادهم على مواصلة استيعاب الأعداد الكبيرة من اللاجئين باتت محدودة للغاية، والمدارس والمستشفيات وأماكن السكن لم يعد في استطاعتها توفير المطلوب للإيواء والموازنة العامة تئن من وقع المخصصات المالية المرتفعة التي توجه لرعاية اللاجئين.

أعمت حسابات السياسة والانتخابات فريدريش ميرتس عن حقيقة أن الفضاء العام في ألمانيا لم يتحول بعد إلى الوضعية الأمريكية أو وضعية بعض الدول الأوروبية التي يمكن بها الجهر بمقولات عنصرية وإدارة حملات سياسية وانتخابية بخطاب كراهية ضد الآخر

تظهر استطلاعات الرأي العام أيضا أن الألمان يشعرون بكون حكومتهم هي الوحيدة داخل الاتحاد الأوروبي التي لا تستطيع أن تملي إرادتها فيما خص قضايا اللجوء والهجرة بينما الحكومات الأخرى من الفرنسية والإيطالية إلى البولندية والتشيكية تعلن صراحة رفضها لإيواء اللاجئين وتعوق حلا أوروبيا عاما، بل وتترك اللاجئين يغادرون أراضيها في اتجاه ألمانيا دون معوقات على الرغم من أن القوانين المعمول بها في أوروبا تلزم اللاجئين وطالبي اللجوء بالبقاء في الدولة الأوروبية الأولى التي وطأتها أقدامهم (الوضعية الراهنة للحدود البولندية-الألمانية).
أراد ميرتس بتصريح «أطباء الأسنان» إذا، أن يركب موجة القلق العام من مسألة اللجوء ويضع حزبه في صدارة موظفي الموجة هذه لحصد مكاسب سياسية وانتخابية. ولا يختلف التصريح الأخير عن تصريحات سابقة له، تارة اتهم بها اللاجئين الأوكرانيين بأنهم يمارسون «سياحة اللجوء للخدمات الاجتماعية» وتارة اعتبر بها العاصمة الفيدرالية برلين بلاجئيها ومهاجريها وأجانبها غير منتمية لألمانيا وهويتها الحقيقية وثقافتها الأصيلة.
غير أن حسابات السياسة والانتخابات أعمت رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي عن حقيقة أن حزبه به العديد من القيادات والأعضاء المؤمنين إلى اليوم بكون الإرث المسيحي للحزب يحتم عليه الامتناع عن التورط في مقولات عنصرية وخطابات كراهية ضد من يفرون من مصائر القتل والدماء والفقر ويلزمه بالبحث عن حلول سياسية تحمي حق اللجوء الذي تضمنه قوانين ألمانية راقية في إنسانيتها ومسؤوليتها الاجتماعية وتحمي أيضا حقوق المواطنات والمواطنين الألمان في عدم الافتئات على خدماتهم وحق البلاد في عدم تحمل العبء بمفردها بينما يتخاذل بقية الأوروبيين.
لذلك، خرجت من بين أوساط الحزب المسيحي الديمقراطي عديد الأصوات المنتقدة بشدة لتصريحات ميرتس والمتنصلة منها، والمطالبة في ذات الوقت بالتعامل السياسي المسؤول مع مسألة اللاجئين بوضع حدود قصوى للأعداد الممكن استيعابها ألمانيا والضغط في اتجاه ترتيبات أوروبية جماعية. نأت تلك الأصوات المسيحية الديمقراطية بنفسها عن تأييد رئيس حزبها الذي لم يناصره سوى سياسيي اليمين الشعبوي والمتطرف، وهؤلاء لا يملون من نشر الأكاذيب ومن الترويج لمقولات عنصرية أضحى لها، مع بالغ الأسف، شيئا من القبول الشعبي.
أخيرا، أعمت حسابات السياسة والانتخابات فريدريش ميرتس عن حقيقة أن الفضاء العام في ألمانيا لم يتحول بعد إلى الوضعية الأمريكية أو وضعية بعض الدول الأوروبية التي يمكن بها الجهر بمقولات عنصرية وإدارة حملات سياسية وانتخابية بخطاب كراهية ضد الآخر كما هو الحال مع دونالد ترامب في الولايات المتحدة وماري لوبان في فرنسا وجورجيا ميلوني في إيطاليا. فألمانيا لها حالتها الخاصة، النابعة من تاريخها الصعب في القرن العشرين ومن ظروف وحدتها في تسعينياته ومن الأوزان السياسية فيها وبها صعود مستمر لليسار التقدمي. ويستحيل، على الأقل بحسابات اليوم وعلى الرغم من صعود اليمين المتطرف، أن تصير المقولات العنصرية وخطابات الكراهية الفاضحة من الأدوات المقبولة في السياسة.

كاتب من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية