عن التحالف بين الأمريكيين وطالبان

انتصارات حركة طالبان وسيطرتها السلسة على بلد شديد التعقيد مثل أفغانستان كانت مدهشة، ولعلنا نذكر أنه حتى الساعات الأخيرة قبيل سقوط كابول كانت الغالبية من المحللين والمراقبين يستبعدون وصول مقاتلي الحركة وسيطرتهم على العاصمة. الحجج في هذا تنوعت، ما بين توهم عدم قدرة الطالبانيين على ذلك، واعتبار أن ذلك غير ممكن منطقياً، لأن العاصمة هي الخط الأحمر الذي لن تسمح الولايات المتحدة بتجاوزه.
الذي حدث هو أن المقاتلين المتحمسين تجاوزوا كل الخطوط الحمر، ليتضح أن معاركهم لم تكن تستهدف فقط تقوية موقفهم التفاوضي، وإنما كانوا يسعون لما هو أكبر. بعد سيطرة طالبان الفعلية على البلاد أخذت تحليلات المراقبين منحى آخر، اعتبر أن هناك تنسيقاً بين الولايات المتحدة وطالبان، وأن الأخيرة ما كانت لتنتصر، من دون وجود رغبة أمريكية في تسليمها مقاليد الأمور.
مشكلة هذا التحليل هو أنه ينطلق من افتراض ويتعامل معه كحقيقة مطلقة، هذا الافتراض هو أن لا شيء يحدث في هذا العالم، من دون رغبة الأمريكيين الذين يملكون أسرار الحياة والموت والانتصار والهزيمة، فإذا تراجعت طالبان، أو أي قوة أخرى، فهذا بسبب الأمريكيين، وإذا انتصرت فهذا لا يعني إلا أن هناك صفقات غير منظورة، إضافة إلى كون أن هذه النظرة تتناقض مع جوهر إيماننا، لأنها تتعامل مع الأمريكيين، كونهم أرباب هذا الكون والمتصرفين في شؤونه، فإنها أيضاً نظرة تفتقر للموضوعية، حيث لا تجيب على كم واسع من الأسئلة التي أهمها: ما الذي تستفيده الولايات المتحدة من تسليم الحكم لطالبان؟ وإذا كانت الحركة وأيديولوجيتها مفيدة أمريكياً، فلماذا حاربتها القوى الكبرى لعقدين من الزمان، وتكبدت كل هذه الخسائر، ولماذا صرفت المليارات على دعم الجيش الأفغاني، الذي تهاوى وقت الحاجة إليه وكأنه من ورق؟ تتناقض هذه النظرة أيضاً مع حقائق التاريخ التي تحكي لنا عن هزيمة الأمريكيين في أكثر من مكان، رغم امتلاكهم للسلاح والعتاد والأموال والمخابرات، التي تعد جميعها الأكبر والأقوى والأكثر تعقيداً. ليس هناك أبلغ في دحض نظرية المؤامرة تلك من كلمات الرئيس الأمريكي الحزينة، التي رثى بها النظام الأفغاني، الذي كان مدعوماً من قبل الغرب طيلة العقدين الماضيين، ففي محاولة لتحليل ما حدث، اعتبر جو بايدن أن كل شيء إنما نتج عن سوء التقدير، وعن الثقة المفرطة في الجيش المصنوع بعناية، الذي تم صرف الملايين عليه ليكون قادراً على حماية الدولة الجديدة ومؤسساتها. ملخص الكلمة هي أن هذه الثقة لم تكن في محلها، لأن الكتائب العسكرية والأمنية “الوطنية” لم تقاتل بفعالية ضد حركة طالبان، ولم تتصد لها بشكل جاد، بل بادرت إلى التخلي عن سلاحها وأجهزتها اللوجستية، التي ما لبثت أن وقعت بيد طالبان، أما القيادة السياسية فلم تفكر في المقاومة، بقدر ما فكرت في إيجاد ملاذ يضمن لها السلامة.
بدءاً يمكن القول إن أي تحليل يبدأ بوصف طالبان بالمتشددة، أو الإرهابية لا يعول عليه، لأن هذين التوصيفين باتا أقرب للذاتية من أي تعريف موضوعي، وكما أنه لا توجد حدود لما يمكن الاتفاق على كونه تشدداً أو تطرفاً، فإنه يصعب الاتفاق على وصف جماعة ما ودمغها بالإرهاب، فما يعتبر إرهاباً لدى جهة، قد يعتبر كفاحاً أو نضالاً لدى الجهة المقابلة. يمكن قول الشيء ذاته عن مفهوم التطرف، فليس اختلاف نمط التدين بكافٍ لوصف شخص، أو مجموعة ما بأنها متشددة أو مغالية على المطلق. في موضوع الإرهاب، ربما تجدر الإشارة إلى كون أن الحركة لم تكن موجودة على قوائم الإرهاب الأمريكية، على الرغم من العداء المستمر.

كثير من المسؤولين الغربيين يرون في طالبان شريكاً يمكن الاعتماد عليه للتصدي لتنظيم “الدولة” الذي لا تقتصر خطورته على الداخل الأفغاني

اليوم، وفي ظل وجود مجموعات أكثر راديكالية وفوضوية مثل تنظيم “القاعدة” وتنظيم “الدولة الإسلامية”، يصبح وصف الحركة التي كان هدفها الرئيس والواضح هو طرد القوات الأجنبية من البلاد بالإرهابية موضع اختلاف، والأغلب أن تقود هذه الأحداث للتعاون الدولي معها في سبيل تأمين البلاد، وتجنيبها خطر الفوضويين الذين يستهدفون الجميع وفق أجندة عشوائية. ربما يصعب على البعض تقبل ذلك، ولكن الواقع هو أن كثيرا من المسؤولين الغربيين يرون في طالبان شريكاً يمكن الاعتماد عليه للتصدي لتنظيم “الدولة الإسلامية” الذي لا تقتصر خطورته على الداخل الأفغاني. بهذا الفهم يرى أولئك أن طالبان وإن ظلت عدواً فهي عدو عاقل.
برز خلال معركة الاستقلال تلك، الحديث عن طبيعة التدين الطالباني وهو تدين سني، لكنه مختلف عن تدين الحركات الإسلامية في المشرق العربي، التي اعتادت تقديم التنازلات المجانية والنأي بالنفس عن أي تحدٍ أو صدام مع السلطة المتغلبة، مهما كانت تلك السلطة ظالمة أو متجبرة أو موالية للأعداء. لطبيعة النشأة والثقافة ونوع التحديات دور هنا، وعلى ما يبدو فإن الأمر لا يقتصر على اختلاف المدرسة الفقهية فقط، وإنما على مجموعة من العوامل الثقافية والاجتماعية التي أدت إلى أن تكون طالبان قادرة على البقاء طيلة هذا الوقت، من دون أن تقدم، حتى الآن على الأقل، تنازلات تذكر. من بين عوامل الشخصية الطالبانية يبرز دور القبيلة، الباشتون، التي تتميز بالقوة وبالعناد وهو دور جدير بالدراسة في ظل عودة هذه القبيلة، ممثلة في طالبان، للحكم. الباشتون الذين قد لا يتجاوز عددهم العشرين مليوناً لا يوجدون في أفغانستان فقط، فهم موجودون في دول مجاورة كباكستان والهند وهو ما يفسر علاقات التواصل والتعاطف العابر للحدود. من الطرائف هنا ما يذهب إليه بعض الكتاب اليهود من أن أصل الباشتون، هو قبيلة إسرائيلية أصابتها لعنة الشتات في ما يعرف بالسبي البابلي ليستقر بها المقام في جبال أفغانستان. حينما يتعلق الأمر بالتاريخ فإنه يجب عدم الثقة كثيرا في السرديات الإسرائيلية، فحتى ما تستند إليه هذه النظرية من تشابه في العادات واللباس والكلمات مع التراث العبراني، لا يبدو ذلك دليلاً قاطعاً أو علمياً على صحة هذا المزاعم، التي توشك أن تقول إن مصدر هذه الروح المقاتلة الباشتونية إنما هو الدم اليهودي. تذكر هذه المزاعم بما كان يذهب إليه بعض الكتاب الأوروبيين في تحليلهم لعظمة الحضارة الأندلسية في عهود ازدهارها، حيث كانوا يذهبون لأن السر لا يكمن في القادمين العرب ولا في الإسلام، وإنما في الدماء المسيحية التي كانت تجري في عروق الكتاب والعلماء والأدباء الأندلسيين.
التغيير السياسي في أفغانستان يجبرنا على إعادة النظر في النظريات التي تتعامل مع انتصار الحداثة الغربية، كأمر مفروغ منه، لأن بإمكاننا أن نرى في فشل الولايات المتحدة وأبنائها الليبراليين انتصارا لروح القبيلة وللمجتمعات التقليدية، وهو ما ذهب إليه ديفيد هيرست، الذي تساءل في مقالٍ أخير عما إذا كان انتصار طالبان يمثل نهاية الإمبراطورية الغربية، التي طالما ظنت أنها قادرة على فرض قيمها وأيديولوجياتها الاجتماعية والثقافية بالاستناد فقط إلى تفوقها العسكري والمادي.
من ناحية أخرى تدفع أحداث مثل الهجوم الإرهابي على كابول إلى فهم أسباب ميل كثير من الأوروبيين والأمريكيين للتعاون أو التحالف مع “الإسلاميين المعتدلين” وهو التعريف الذي قد يشمل اليوم، للمفارقة، طالبان في مواجهة تنظيمات أكثر عنفاً وعداء للغرب كتنظيم الدولة المتمدد والعابر للحدود.

*كاتب سوداني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول تيسير خرما:

    أصبحنا وأصبح الملك لله وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله والمهم تحول أفغانستان-طالبان الثورة فوراً لدولة طبيعية وتجنب تقليد ثورة إيران التي خضعت 4 عقود لحرس ثوري خلق دولة فوق الدولة بدستور وقوانين شريرة وأجهزة أمن تضطهد شعوب إيران وتهدر مواردها بنشر ميليشيات مسلحة وخلايا إرهاب بدول عربية وإسلامية وبالعالم، فعلى أفغانستان-طالبان التزام بنهج أول دولة مدنية بالعالم أنشأها محمد (ص) بالمدينة تحترم حقوق إنسان ومكونات وأعراف وعهود ومكارم أخلاق وتلاحق من يدخل أفغانستان بفتن وحروب مع العالم.

  2. يقول محمد قذيفه:

    ولم لا نقول ان الشعب لافغاني هو من سهل مهمة طالبان

  3. يقول محمود أبو أويس:

    باختصار.. أمريكا اعتمدت على الأقليات العرقية في أفغانستان. واهملت حقيقة العصبية القبلية لدى البشتون. إن مصطلح بشتون مرادف لمصطلح أفغاني. فلا يوجد أفغانستان بدون بشتون. حتى تعتمد أمريكا على الطاجيك والازبك والهزارة عليها إن تتحمل نتائج سوء تقديرها للموقف.
    القبيلة هي التي انتصرت على المال والسلاح والعقيدة العسكرية إن كان هناك أصلا عقيدة عسكرية عند حكومة أفغانستان ال مهزومة.
    التاريخ يخبرنا ان هزيمة الدولة العثمانية أيضا كان على يد القبائل في شتى أنحاء الإمبراطورية العثمانية من البلقان إلى جزيرة العرب وبلاد الشام.
    القبيلة دائما منتصرة كما يشير إبن خلدون في المقدمة

إشترك في قائمتنا البريدية