عما يسمى السرقات الأدبية والفنية

حجم الخط
0

على اليمين صورة للسماء التقطها أحد الأصدقاء وأرسلها لي باعتباري هاويا لتصوير الغيوم ومعروفا بين الأصدقاء بهذا الغرام. وقد علمت منذ فترة وجيزة أن هذا الأمر متلازمة تم تفريدها تحت اسم nephophilia وتطلق على أمثالي من المصابين بعشق الغيوم.
أبهرتني الصورة الملتقطة من كاميرا جوال حديث، وشعرت بأن فيها شيئاً خارقاً، كما تخيلت أن فناناً تشكيلياً رسمها بضربات بسيطة من فرشاة رسم عريضة. ثم بعد أن هدأت الدهشة قليلاً وأعدت التأمل مجدداً شعرت بأني رأيت هذه الصورة من قبل. بدأت أقلب على النت صوراً لا على التعيين فوقعت على لوحة «الصرخة» للفنان النرويجي إدوارد مونش. فأدركت لما شعرت بأني رأيت هذه الصورة. فالسماء متشابهة في الصورتين.. الخطوط الطولانية البسيطة العريضة نفسها، مع مشتق لوني قريب، كل ذلك موجود في صورة السماء الملتقطة بواسطة الكاميرا وفي لوحة «الصرخة».
سألت نفسي عن موقف نقاد الفن، وما الذي كانوا سيقولونه لو أن صديقي، الذي التقط صورة السماء، رسم مشهد السماء الذي شاهده بدل أن يصوره، أو رسم صورة ما التقطه بكاميرته. أجبت سريعاً سيقولون إن صديقي يقلد لوحة إدوارد مونش، أو إذا تلطفوا أكثر سيقولون أنه متأثر بذلك الفنان، وربما جاء متعصب واتهمه بالسرقة الفنية.
كتب الروائي السوري فادي عزام نصاً عن دمشق وبغداد يحتوي الشتيمة الشهيرة التي أدخلها مظفر النواب إلى الشعر «أولاد القحـ …» ، فنُسب نصه على الفور إلى مظفر النواب، وبات مطالباً بإثبات أن النص له. في حين اتهمه آخرون بالتأثر بمظفر النواب، لأنه استعمل البذاءة نفسها. مع أن تلك الشتيمة البذيئة لم يخترعها مظفر، بل هي منتشرة في الأزقة والأحياء الشعبية، إذن لا بد أنهم سرقوها هم أيضاً من مظفر النواب! بالمناسبة هكذا تعمل شركات الدواء والزراعة الأمريكية، تبعث جواسيسها إلى أرياف آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية ليلتقطوا العلاجات الشعبية وأصناف الأرز والقمح المنتشرة ، وتعدل عليها قليلاً وتنزلها للأسواق باسم جديد وتعلن أنها اكتشفتها، ومن حقها حمايتها، فيصبح الفلاح الهندي مطالباً بدفع المال حتى يسمح له بزراعة أرز «بسمتي» لأنه من اختراع شركة أمريكية، رغم أن الفلاح يزرعه منذ مدة طويلة، لكن تلك الشركة وضعت براءة اختراع عليه.
المعاني والأفكار مشرعة في العراء يراها ويتداولها كل الناس، ثم يلتقطها فنان ما ويدخلها إلى ملكته الإبداعية فيحولها إلى عمل فني يُنسب له. لكن هذا لا يعني أنه اخترع المعنى، فالحب معنى موجود منذ الأزل وقد تناوله شعراء وكتاب وفنانون ورسامون كل من زاويته وبطريقته الخاصة، وأضفى عليه ذائقته الفنية، وسيبقون يفعلون ذلك إلى الأبد، لذلك من النادر أن ترى معنى أو فكرة لم يتطرق إليها أحد فنياً.
قبل أكثر من ألف وخمسمئة عام، اشتكى عنترة بن شداد من تداول المعاني بين الشعراء، فقال «هل غادر الشعراء من متردم …» أي أنهم لم يتركوا شيئاً لم يكتبوا عنه. ورغم مرارة شكوى عنترة، استمر يقرض الشعر هو ومن جاء بعده، وها قد مرّ أكثر من ألف وخمسمئة عام وما زال قرض الشعر مستمراً، مع أن الشعراء «لم يتركوا من متردم».


منذ زمن قريب أرسلت للشاعر والناقد الأدبي سعد الدين كليب أبياتاً للدكتور عزت الطباع (أول من أنشأ الخدمات الطبية العسكرية في كل من الجيشين العراقي والسوري) في رثاء الشهيد أحمد مريود، الذي استشهد في معركة كبيرة ضد الفرنسيين في جباتا الخشب في الجولان عام 1926 أثناء معارك الثورة السورية الكبرى. وكان الشهيد قبل ذلك محكوماً بالإعدام من الفرنسيين لمشاركته في موقعة ميسلون، ثم تخطيطه لاغتيال غوروفي الحادثة الشهيرة، يقول الشاعر:
أهذا مكانك رمل مهيل وقد كنت من قبل ملء المكان
يمر عليك الزمان وتُنسى وقد كنت ملء فؤاد الزمان
فأف لدنيا تساوى لديها صريع العلا وصريع الغواني
وأف لقوم سواء لديهم حميد الفعال وزور اللسان
علق سعد الدين.. «إنها الشكوى القديمة المتجددة» رددت بالقول:
هل غادر الشعراء من متردم…؟ فأجاب سعد الدين، كأنهم لم..!
المعاني محدودة ويمكن تلخيصها بعدة سطور «الحب. الفقد. الرحيل، إلخ». هي وعاء يغرف منه جميع المبدعين ويضيفون إليها من ذائقتهم فتخرج كل مرة بطعم ولون ورائحة مختلفة، لكن تخيلوا أن تدعي امرأة تميزت بتصنيع نوع من الحلوى المكونة من الطحين والسكر. أن الطحين والسكر باتا ملكها!
في تاريخ الطب القريب اكتشف العالمان الفرنسي لوك مونتانييه، والأمريكي روبرت غالو، في وقت واحد تقريباً فيروس الإيدز، مع أنهما عملا ونشرا أبحاثهما بشكل منفصل، ولم تُحسم أسبقية أحدهما على الآخر فوقعت الولايات المتحدة وفرنسا بروتوكولاً دبلوماسياً عام 1987، يعتبران فيه كلا من غالو ومونتانيه مكتشفان للإيدز بالتساوي، لأجل تقاسم العائدات المادية لاختبار تشخيص المرض، لكن جائزة نوبل وبشكل مفاجئ رجحت كفة مونتانييه الفرنسي عام 2008 فاعتبرته مكتشف الفيروس ومنحته جائزتها للطب في ذلك العام. خلال فترة النزاع، التي استمرت سنوات، لم يتهم أحدهما الآخر بسرقة أبحاثه، رغم أن كليهما كانا يطلعان على ما ينشره الآخر في الدوريات الطبية.
أنا ممن لا يؤمنون بحكاية السرقات الأدبية، إلا في حالات محددة جنائية. بل أميل إلى الاعتقاد بأن من يتهم الآخرين بسرقة أعماله الفنية هو فنان مفلس، أو يبحث عن إثارة ضجة لأجل الشهرة. وأقول، عندما ترفع رأسك وترى زرقة السماء الصافية صيفاً، أو ألوان وتشكيلات الغيوم المتنوعة خريفاً تذكّر أن هناك عيونا أخرى ترى المشهد نفسه، وكما التقطته وخزنته في ذاكرتك كذلك فعل آخرون.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية