على هذا الممر المزدحم بالتاريخ جنوب شرقي المتوسط

لم تكن صدفة أن سمي هذا البحر بالمتوسط، حتى قبل أن تعرف صورة العالم الجغرافية الصحيحة. نهضت في حوض المتوسط حضارات كبرى عبر التاريخ، وطور الإنسان على سواحله قفزات تقنية رئيسية في مسيرته الملحمية. ولأنه احتل مركز جغرافية العالم وتقاطعت عنده خطوط القوة والتجارة والثقافة، أصبح البحر المتوسط ساحة صراع كبرى بين الإمبراطوريات والقوى الطموحة. يأخذ هذا الشاهد الكبير على التاريخ صوراً متعددة في ساحله: المضيق والأرخبيل والسهل الممتد أو المحاذي للمرتفعات الجبلية. في طرفه الجنوبي الشرقي، ينحني المتوسط في صورة قوس، يمتد من ميناء حيفا، في أقصى شمال الساحل الفلسطيني، إلى ميناء بورسعيد، في وسط الساحل المصري. ينفتح هذا القوس المتوسطي على سهل ضيق، زراعي، قليل الأمطار في قطاعه الشمالي، الذي يمثل السهل الفلسطيني الساحلي، من حيفا إلى غزة، وعلى سهل رملي أو مستنقعات ملحية في قطاعه الذي يمثل شمال شبه جزيرة سيناء.
عبر هذا الممر، حيث لم تساعد الظروف المناخية كثيراً على الاستقرار البشري الكثيف، من جنوب – غربي آسيا إلى مصر والشمال الإفريقي، تدفقت أفواج من الجند والتجار والعلماء والنساك، منذ بدأ التاريخ الإنساني. هذا هو الممر الاستراتيجي الأكثر ازدحاماً بالجيوش في تاريخ العالم كما نعرفه. على هذا الممر، مضت جيوش الفراعنة لحماية مقدرات مصر الاستراتيجية، وتقدمت جيوش الإمبراطورية الفارسية، تبحث عن المجد والقوة، وجاءت جيوش الإسكندر وروما من بعده مدفوعة بحلم السيطرة العالمية. من هذا الممر، انطلقت جيوش الإسلام مثل الرمح الخاطف، لتتحكم في جانب المتوسط الجنوبي كله، وتمضي إلى شبه الجزيرة الأيبرية وقلب فرنسا، خلال عقود قليلة؛ وعبر هذا الممر، تقدمت جيوش المماليك لتواجه جحافل المغول في أقصى الشمال الفلسطيني، وتنقذ الميراث الحضاري الإنساني من أكبر تهديد يواجهه؛ وهو الطريق ذاته الذي أخذته الجيوش العثمانية في العقد الثاني من القرن السادس عشر، لتحسم الصراع نهائياً، ولعدة قرون قادمة، على المشرق العربي الإسلامي؛ ومنه أيضاً تقدمت قوات الجنرال إللنبي في الحرب العالمية الأولى، لتضع نهاية لأربعة قرون كاملة من السلم العثماني في بلاد الشام، ولآخر أنظمة السيادة الإسلامية في المشرق.
تجلت أهمية هذا الممر ليس فقط في أنه الطريق البري الوحيد بين كتلتي القوة والثروة الرئيسيتين في غرب آسيا وشمال إفريقيا، ولا من أنه طريق السيطرة على معظم حوض المتوسط، ولكن أيضاً من أنه محل التقاطع بين شمال العالم القديم وجنوبه، بين أوروبا، التي تفتقد إلى قدر كبير من التنوع، وجنوب وجنوب ـ شرقي آسيا، حيث التنوع الزراعي الهائل. ومنذ حفرت قناة السويس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لتصل بين البحرين المتوسط والأحمر، في الحد الغربي للقوس المتوسطي الجنوبي ـ الشرقي، أصبح المرور من الشمال إلى الجنوب أسهل وأسرع، وتعززت الأهمية الاستراتيجية للممر الآسيوي الإفريقي. والحقيقة، أن بريطانيا، أبرز القوى الأوروبية الغربية في القرن التاسع عشر، والقوة البحرية الأكبر في العالم، أولت اهتماماً بالغاً بالقوس المتوسطي الجنوبي الشرقي حتى قبل حفر قناة السويس. عندما أعاد محمد علي بناء مصر كقوة عثمانية رئيسة، وتقدم ليسيطر على بلاد الشام، ويتحكم كلية في جنوب شرقي المتوسط، في ثلاثينات القرن التاسع عشر، قادت بريطانيا تحالفا أوروبياً بحرياً، أوقعت الهزيمة بقوات والي مصر، وأجبرته على توقيع معاهدة استسلام مهينة، وضعت نهاية مؤلمة لمشروعه الطموح.
وكان هذا التوسع المصري المفاجىء والكبير، في مواجهة توازن قوى عالمي جديد، هو الذي ولد في العقل الإمبريالي البريطاني فكرة الوجدود اليهودي في فلسطين، للمرة الأولى. منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقبل ولادة الحركة الصهيونية بأربعة عقود، أصبح هدف بناء حاجز استراتيجي موال لبريطانيا، يمنع أية محاولة مصرية أخرى من السيطرة على الممر الاستراتيجي الأهم في خارطة العالم، جزء من الرؤية الاستراتيجية البريطانية.
خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، وبينما كانت بريطانيا تخوض حرباً في ثلاث قارات، تطورت الفكرة التي تداولتها دوائر الإمبراطورية في العقود الماضية إلى ما سيعرف بالوطن القومي اليهودي. كانت قناة السويس قد افتتحت للملاحة في 1869، ونجحت بريطانيا بعد سنوات في أن تصبح شريكاً في الشركة التي تملك القناة، وتسيطر من ثم على مصر عسكرياً في 1882. ولكن أهمية الممر، والخطر الذي يمكن أن يهدده في المستقبل، لم يغيبا عن قادة الإمبراطورية؛ وباحتلال بريطانيا لفلسطين في 1917، بدأت الخطوات الفعلية لقيام الوطن القومي اليهودي، حتى قبل أن يتضح المعنى القانوني الدولي للوطن القومي. في 1948، ولدت دولة إسرائيل على القطاع الأكبر من فلسطين الانتدابية، وتغيرت طبيعة الوجود البشري وتوزان القوة في جنوب شرقي المتوسط وعلى المدخل الشمالي للممر الرملي الساحلي الاستراتيجي بصوة غير مسبوقة في التاريخ. للمرة الأولى، أقيم على مدخل هذا الممر كيان غريب بالفعل، غريب ثقافياً وسياسياً، لا ينتمي لشعوب الجوار وثقافتها، يتصل بالقوى الغربية الإمبريالية ويخدم استراتيجياتها. لم يحاول هذا الكيان، بأي صورة من الصور، بناء جسور مع جواره، بل خاض حرباً تلو الأخرى بهدف التوسع وتوكيد هيمنته الاستراتيجية. بكلمة أخرى، لم يعد هذا السهل الرملي الطويل جنوب شرقي المتوسط ممراً وحسب، بل وساحة صراع مستديم، حيث يحاول الفلسطينيون، والعرب من خلفهم، منذ زهاء القرن، حماية المقدرات العربية الإسلامية، الاستراتيجية والثقافية الدينية.
قبل أيام قليلة، أتيح لي، وللمرة الأولى في ثلاثين عاماً كاملة ومتصلة، أن أعبر هذا الممر المفعم بالتاريخ والدماء، من الغرب إلى الشرق، حيث قطعت بنا السيارة الجسر القريب من مدينة القنطرة على قناة السويس، إلى الطريق السريع المحاذي لساحل المتوسط شمال سيناء، وصولاً إلى مدينة غزة الباسلة. ثمة تواجد عسكري مصري ظاهر على طول الطريق، بعد أن بادر المصريون إلى تجاهل شروط كامب ديفيد، وعززوا وجودهم العسكري شرق القناة، منذ أحداث أغسطس/ آب الماضي ومقتل الجنود المصريين في هجوم إرهابي مؤلم، لم تعرف حقيقته حتى الآن. ولكن هذا الوجود ظاهر نسبياً، مقارنة بما كانت عليه الأمور في شبه جزيرة سيناء قبل الهجوم، وليس بما ينبغي أن يكون عليه الوضع.
السيادة المصرية على سيناء تظل ناقصة بصورة فادحة، ومقيدة بشروط كامب ديفيد؛ وهذا ما يجعل المناخ الأمني في شبه الجزيرة هشاً ومصدر قلق. لا تتعلق المشكلة هنا بالعلاقة غير الصحية بين الأهالي وأجهزة الأمن والدولة، بعصابات التهريب، الاختراقات الإسرائيلية الاستخباراتية، ومحاولة جماعات إرهابية زرع جذور لها في أوساط سكان شبه الجزيرة، وحسب، بل يكفي أن يندلع خلاف ما بين عائلتين لتقوم إحداهما بقطع الطريق.
تدرك الدولة المصرية منذ زمن أن شبه الجزيرة تفتقد الكثافة السكانية، وأن مصر تحتاج أصلاً تخفيف الضغط السكاني المتفاقم في وادي النيل. وتخطط دولة ما بعد الثورة المصرية لإطلاق مشاريع تنمية كبرى في سيناء، وعلى جانبي قناة السويس. ولكن أياً من هذه المشاريع لم يبدأ بعد. التوتر وفقدان اليقين السياسي في القاهرة، ترك أثراً سلبياً على أوضاع شبه جزيرة سيناء، بالرغم من أن أغلبية السكان يؤيدون الرئيس مرسي بلا تحفظ.
وهنا، في أقصى شمال شرقي سيناء، تلتقي حدود مصر وقطاع غزة، الجزء الوحيد المحرر من أرض فلسطين. تنعكس حرية القطاع وكرامته على العلاقات بين الفلسطينيين وسكان شمال سيناء، حيث تربط بين الأهالي على جانبي الحدود صلات ووشائج وثيقة، قديمة ومتجددة، تسبق حدود سايكس بيكو وبروز الدولة الحديثة وستستمر بعد زوالهما. ولكن العلاقات بين فلسطينيي القطاع الباسل وموظفي الدولة المصرية، الإداريين منهم ورجال الأمن، على الجانب الآخر من الحدود، مشوبة بالشك والمرارة. المنفذ الحدودي مع مصر هو نافذة قطاع غزة، بملايينه الاثنين من السكان، الوحيدة على العالم، تعليماً وصحة واقتصاداً وسياسة ومؤهلات صمود عسكري. ولكن معاملة الفلسطينيين في المنفذ الحدودي ليست إنسانية، ولا تليق بمصر الثورة؛ كما إن المنفذ لم يزل مغلقاً أمام البضائع، باستثناء تلك التي سمح بها البروتوكول المصري القطري الخاص بتسهيل دخول مواد وأدوات البناء التي تعهدت قطر بتوفيرها للقطاع. حتى الآن، ليس هناك من مؤشر على إطلاق مشاريع التبادل التجاري الحر بين القطاع ومصر التي وعدت بها حكومة هشام قنديل.
في قطاع غزة نفسه، ثمة مناخ نهضوي يتخلل البقعة الأكثر ازدحاماً بالسكان في العالم. وقد يكون قطاع غزة، أيضاً، المنطقة الأكثر شباباً في العالم. أينما توجهت، لا ترى سوى أطفال وشباب، في طريقهم إلى المدارس والجامعات أو انتهوا من يومهم الدراسي. لم يزل التعليم، كما كان دائماً، أداة الفلسطينيين الأمضى في الصمود. وهنا، ثمة مناخ آخر من الثقة بالنفس والاعتزاز بالقدرة على مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية والحفاظ على الحرية، التي اكتسبها القطاع بالتضحيات. تعليماً واستعداداً عسكرياً وعملاً وبناءاً، يجسد هذا القطاع الصغير، والمحاط بأصعب شروط البقاء، تصميم الفلسطينيين طوال قرن من الصراع على القيام بواجبهم في حراسة مقدرات العروبة والإسلام في جنوب شرقي المتوسط. ما يثير الإحباط أن القطاع لم يزل يعاني أجواء العصبية الحزبية، والانقسام السياسي، الذي يكاد أن يتحول إلى تقسيم للشعب نفسه.
يشهد المجال العربي منذ أكثر من عامين حركة ثورة وتغيير واسعة وعميقة، أطلقتها حالة من التدهور والخراب السياسي والاقتصادي وتغول فادح للطبقة الحاكمة. وتحدو العرب آمال كبيرة، بالرغم من آلام المرحلة الانتقالية والوحشية الدموية التي يواجه بها نظام الحكم السوري شعبه، أن تأخذ حركة الثورة الشعوب العربية إلى مستقبل أفضل، أكثر حرية وعدلاً. ولكن دروس التاريخ القريب، وصورة المجال العربي الجغرافية، تشير بوضوح إلى أن هذه الآمال يصعب أن تتحقق بدون أن يعيد العرب النظر في هذه الحدود العشوائية والتجزيئية التي تفصل بين بلادهم، وبدون أن يحسم الصراع على جنوب شرقي المتوسط.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية