علاقات التبعية وتأرجحها قبل هذه الحرب وفي إثرها

وسام سعادة
حجم الخط
0

حصل في السنوات الماضية أن تعاقبت المشهديات الإقليمية الإجمالية بحيث توحي مرة بأنّ علاقات التبعية الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية مع الغرب، وفي طليعته الولايات المتحدة الأمريكية، هي بمثابة الجوهر الثابت بالنسبة إلى الأنظمة السياسية في بلدان المنطقة العربية، وبحيث توحي في منعطفات أخرى بأن علاقات التبعية هذه باتت أقل من ذي قبل، أو ما عاد ينعكس عمقها بشكل مباشر وفوريّ على سلوكيات الأنظمة وأمزجتها، ليعود فيظهر من ثم أنّ هذه العلاقات وكأنها كانت تجدّد جلدها، وهي أكثر رسوخاً من ذي قبل.

كيف ذلك؟

أظهر امتعاض بعض الأنظمة العربية من إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما وقت إبرام الاتفاق مع إيران حول برنامجها النووي أنّ التحالف بين الأنظمة المحافظة العربية والإدارة الأمريكية قد تصدّع، وأن هذه الأنظمة غير مستعدة لأن تتبع اللحظة الأمريكية، بحيث أن مشكلتها مع إيران لن تخفت حين يتراجع منسوب التوتر بين إيران وأمريكا. بالتالي، لهذه الأنظمة مصالح وأهواء قد تصطدم بعلاقات التبعية، وتدفعها، بحجة «تواطؤ» الإدارة الأمريكية مع الممانعة، كما في حال أوباما، إلى مبادرتها هي إلى «ممانعة» من موقع آخر، ممانعة المستاء من عدم نهوض الامبريالية بوظائفها الكلاسيكية.
سعدت هذه الأنظمة المحافظة من ثم بوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، رغم إطلاقه العنان للإسلاموفوبيا، وتصريحات عديدة له أظهرت استخفافاً بقيمة حلفائه في المنطقة.
وبالمحصلة، استطاعت إدارة ترامب أن ترعى رزمة من عمليات التطبيع مع إسرائيل شملت البحرين والإمارات وعُمان والمغرب والسودان، هذا في وقت اصطدمت فيه خطة ترامب للسلام برفض قاطع لها سواء من طرف الفلسطينيين أو من طرف النظام الرسمي العربي مأخوذاً بالمجمل (ما تعبّر عنه الجامعة العربية).
حدثت موجة هذا التطبيع، التي بلغت أحياناً حال الجوى في العشق، في اللحظة السياسية نفسها التي كانت فيها إدارة ترامب تقرّ بالسيادة لإسرائيل على هضبة الجولان السورية المحتلة، أو تنقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
صحيح أنه يصعب اختزال نجاح عمليات التطبيع هذه، وانفصالها عن أي مسعى لتحقيق مكسب ولو متواضع للقضية الفلسطينية، إلى مجرد علاقة تبعية، إلا أنه يصعب في المقابل عدم رؤية مؤشر التبعية في مسلك هذه الأنظمة التي وجدت في التطبيع مع إسرائيل ما يحمي استمرارها ويسهّل أعمالها، وهو ما يعكس كذلك الأمر عدم خوف من ردة الفعل الشعبية، إما لأن تبلورها على نحو سياسي مضاد مستبعد، وإما لأنّ ردة الفعل الشعبية ضد التطبيع مع إسرائيل تلاشت، في البلدان التي تحكمها هذه الأنظمة على الأقل.
والحال أنه إذا كان التطبيع مع إسرائيل هو مؤشر تبعية، أكثر منه مؤشر استقلال وطني لهذه البلدان على أية حال، فهذا لا يلغي ما قالته وتقوله أنظمة أخرى عملياً، من أن النقص في استقلالها الوطني، ووهن شرعيتها الشعبية وهشاشة مؤسساتها، لا يجعلها قادرة على المخاطرة في التطبيع. عدم التطبيع من هذه الزاوية لا يقل عن التطبيع في شيء من جهة كشف الواقع التبعي لهذه الأنظمة.
ثم ذهب ترامب وجاء بايدن. استأنف الأخير التفاوض مع إيران، إنما بذهنية هي أقرب لترامب في هذا الملف منها إلى أوباما. لم يتراجع بايدن عن تمزيق ترامب للاتفاق النووي، ولا كان له رأي آخر في نقل السفارة إلى القدس، أو في العدول عن الإقرار بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل. كما آثر في البداية التغليظ على السعودية، منطلقاً من قضية اغتيال جمال الخاشقجي ومن تباين معها في حرب اليمن.
لكن ما حصل، بعد انطلاقة الحرب الروسية على أوكرانيا أن بايدن بات بحاجة إلى السعودية لزيادة إنتاج النفط، فقوبل حين عروجه إليها بالجفاء والممانعة، وظهر كذلك ليس فقط في السعودية، بل في موقف معظم الأنظمة العربية، بل جميعها، من المسألة الأوكرانية، أن هذه البلدان لا تشاطر الموقف الغربي من هذه الحرب، وأنها باتت «تخلّط» بين العلاقات مع أمريكا والغرب وبين العلاقات مع روسيا والصين.

العلاقات
المتعددة والمتضاربة

من هذه الزاوية، تكون «العلاقات المتعددة والمتضاربة» قد عظم أمرها، على حساب «علاقات التبعية». أيام الحرب الباردة كانت البلدان العربية منقسمة، رغم عضوية أنظمتها في حركة عدم الانحياز، بين تلك الصديقة للاتحاد السوفياتي وبين تلك الموالية لأمريكا والغرب. أما في زمن الحرب البوتينية على أوكرانيا فإن معظم البلدان العربية ان لم تكن كلها، اختارت الالتباس كنهج. بمعنى آخر، ولأن علاقات التبعية أكثر عمقاً من جعلها تختفي بمجرد التباس الموقف حيال الحرب الروسية، فقد ظهر أكثر من ذي قبل أن التبعية هذه باتت أعقد من أن تختصر في علاقات إملائية، أو أنّ العمق التبعي يمكن أن يتواءم مع «بازار» مفتوح على الشرق والغرب في الطابع العُلوي..
أيضاً جاءت المصالحة السعودية – الإيرانية، برعاية صينية، لتظهر جديداً على مستوى العلاقات الدولية، يتمثل بقدرة القوة الآسيوية الكبرى في تهدئة نزاع بين دولتين تتمتعان بمخزون نفطي ضخم، وبوزن ديني محوري في العالم الإسلامي، وقد تحولت عشرية التصادم بينهما إلى واحدة من أكثر الصفحات تلبداً في تاريخ الشحن المذهبي المؤدلج في المنطقة. أوحى ذلك أيضاً بأن الأوراق قد خلطت، بشكل ما عاد بالمستطاع معه رد الأمور إلى استمرار علاقات التبعية. وثمة من رأى بأن الامبريالية هي التي بدأت بتقليص نفوذها التدخلي المباشر فكان تراجع التبعية لها محاكياً لهذا التقلّص، وثمة من أعاد الأمور إلى متنها الاقتصادي، حيث وزن الاقتصاديات الآسيوية، وفي الطليعة منها الصين، يزداد أهمية مقارنة باقتصاديات المجموعة الغربية، والعالم العربي الواقع ما بين هذا النطاق وذاك بات بإمكانه أن يخرج من تبعيته للغرب، دون أن يقع في تبعية جديدة مستبعدة بالشرق الأسيوي.. أو بالشمال الروسي (هذا ان وضعنا القاعدة الروسية في سوريا ومناجم الفوسفات جانباً).
ثم جاءت الحرب الحالية في غزة وجنوب لبنان / الجليل فظهر معها أنّ التبعية للامبريالية هي المحدد الأساسي في طبيعة وسلوكيات الأنظمة العربية، وأن تحويل هذا الكلام إلى لازمة دعائية مضجرة من كثرة تردادها بلا طائل ولعقود طويلة، وعلى سبيل التراشق بها بين الأنظمة، أو بين الجماعات المرتبطة بها، لا يلغي واقعية الأمر، بنيويته، وطابعه المزمن.

المزيد من الاستقلال عن الاستعمار

لنعد إلى عام 1948. لم يكن الاستعمار الأوروبي قد انزاح بعض عن معظم البلدان العربية التي كانت في قبضته، وكانت بعض البلدان فقط قد نالت استقلالاً تقريبياً، أو يانعاً. بالنتيجة، اعتبرت الخسارة الكبيرة أمام إسرائيل يومها بمثابة التأكيد على أن المشكلة تكمن في استمرار تبعية هذه البلدان للاستعمار، وأن بلداناً لا تزال شبه مستعمرة أو نصف مستعمرة أنى لها أن تحارب وتتصدى للاستعمار الاستيطاني في فلسطين؟ حرّك ذلك موجة جديدة تطلب المزيد من الاستقلال عن الاستعمار، وتطلب في الوقت نفسه، بالنتيجة، ابدال الصيغ البرلمانية للأعيان والأفندية بصعود الضباط الشباب القادمين من البرجوازية الصغيرة، ومن أصول ريفية. هذا الإصرار على التحرر من الاستعمار ومن «الديمقراطية الأعيانية» معاً، لن يتمكن في نهاية المطاف من الحؤول دون إعادة إنتاج علاقات التبعية للغرب، للولايات المتحدة بشكل رئيسي، وفي أقل من عشرين عاما بعد انقلاب 23 يوليو كان النظام المنبثق منه ينقل بندقيته مجددا إلى المعسكر الغربي من الحرب الباردة.
المفارقة أن مصر الساداتية لم تصطدم فقط مع الأنظمة الأقرب في هذه الحرب إلى الاتحاد السوفياتي، بل مع السعودية أيضاً، التي قادت في لحظة كامب ديفيد عملية عزل مصر عن النظام الرسمي العربي، بحيث بات نظاماً إقليمياً «خارج نفسه». جاءت الثورة الإيرانية ونظام ولاية الفقيه الذي انبثق منها فاختلطت الأوراق مجدداً. صارت الحاجة إلى التصدي لإيران الثورة الإسلامية معياراً جديداً للاستقطاب. وقفت كل من السعودية ومصر إلى جانب العراق في الحرب، كما وقفت السعودية ونظام ضياء الحق في باكستان ضد السوفيات في أفغانستان. لاحقاً، وعندما احتل العراق الكويت، وهذه من التداعيات غير المباشرة لخروج العراق منتصراً عسكرياً ومنهكاً اقتصادياً من هذه الحرب، كانت الحاجة إلى تشكيل محور مصري – سعودي شكل عنصر الاستقرار الأساسي للنظام الإقليمي العربي حتى اندلاع انتفاضات 2011، وأعيد احياء هذا المحور بشكل أقل فعالية والتباساً بعد ذلك. أما التحالف الإسلامي – الغربي في الحرب ضد السوفيات بأفغانستان فتحول من ثم إلى حركة تمرد قادها تنظيم القاعدة ضد الغرب، الراعي السابق للجهاد ضد الشيوعية.

الحرب الحالية هي حرب اجتثاثية

والآن؟ إذا كانت حرب 48 أظهرت أن التبعية للغرب واقع شامل ترزح تحته البلدان العربية آنذاك بحيث لا أمل لها في الفلاح بوجه إسرائيل دون تفلتها من ربقة التبعية تلك، فقد جاءت الحرب الحالية لتظهر أمرين لا واحد: أن علاقات التبعية ظهرت بشكل أكثر من نافر في الأشهر الأخيرة، وأن «البديل الممانعاتي – الاسلامي» عن علاقات التبعية هذه قد ظهرت هشاشته أكثر من أي وقت سابق.
الرد على واقع التبعية النافر بعد نكبة 48 تمثل بتجذير معاداة الاستعمار والديمقراطية معاً، وتسليم الأمور للعسكر، بوصفهم مصعداً اجتماعياً حيوياً. الرد على واقع التبعية النافر في ظل الحرب الحالية له شأن آخر. يفترض. فالعسكريتاريا الثورية، فئة 24 يوليو، آلت بعد ذلك إلى تجارب «الجمهوريات العسكرية – العائلية» والمصعد الاجتماعي آل إلى تركز الموارد والثروات ضمن هذه التجارب على أوليغارشية تتوسل القطاعين العام والخاص معاً، وتستند إلى المصاهرة بين القادمين من العام إلى الخاص (العسكر) وبين القادمين من الخاص إلى تطويع العام لهم (المقاولون). هذه السمة الأوليغارشية باتت عامة، تخترق القسمة بين أنظمة ممانعة وأخرى «معتدلة»، وفي الوقت نفسه تجسد هذه القسمة كلياً عمق ومكنة علاقات التبعية الاقتصادية والعسكرية والأمنية للغرب. كل ما في الأمر أنها تترك لمقاطعة مقاهي ستاربكس ومطاعم ماكدونالد باباً للتخيل بأن هذه المجتمعات قادرة، على الصعيد الاستهلاكي، على الخروج من التبعية. أي أنها مجتمعات تبعية على مستوى الريع، وعلى مستوى الإنتاج، ويراد لها في الوقت نفسه أن تكون مستقلة استهلاكياً، على صعيد الوجبات السريعة! ومستقلة أيضاً من حيث اكثارها الدعاء من أجل فلسطين وغزة، والدعاء على إسرائيل وأمريكا.
مع ذلك، يصعب تخيّل أن الحرب الحالية وبالشكل الذي أظهرت فيه الطابع النافر لعلاقات التبعية على المجتمعات القائمة، بمثل ما أظهرت الطابع «الشعوذي» لخطابيات الممانعة، يمكن أن تمر من دون خضة جدية في المجتمعات المحيطة بمكان احتدام الصراع.
لكن شكل ذلك لا يمكن أن يكرر ما حصل بعد 48. صحيح أن الناس لم تعد تتعرف على نفسها في شعار «الديمقراطية» لكن ليس هناك هامش ديمقراطي يقارن بالأحزاب أيام الوفد والأحرار الدستوريين ليجري تصفيته. وحكم العسكر، لم يعد يرتبط بصورة ضابط شاب في الثلاثين من العمر يهندس انقلاباً، ويسخر له الإذاعة والتلفزة لإطلاق موجة من الشعبوية الرومانسية.
هذه الرومانسية بالتحديد كان يمكن لحرب 48 أن تولد الحاجة إليها أكثر، في حين أن الحرب الحالية هي حرب اجتثاثية لكل أنواع الرومانسية. هي حرب تحكم سلفاً على أي شعر بصددها بالرياء المطلق، حرب قد تدفع الناس إلى الحماسة الفجائية حيناً، والى العدمية حيناً آخر.
ولأنها كذلك فهي لن تكون في الوقت نفسه بلا أثر على المستقبل المجتمعي والسياسي لشعوب المنطقة، من دون أن يكون لها المفعول الثوري في الوقت نفسه، بل هي نذر باضطراب كبير.
اضطراب من دون وعود خلاصية جديدة تؤخذ على محمل الجد، ومن دون قدرة للخطاب الذي يقول بضرورة التكيف مع الأمر الواقع كائناً ما كان على أن يمارس أي نوع من الجاذبية هو أيضاً. أما علاقات التبعية فالأزمة الفعلية الآن أنها لن تكون في أزمة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية