الجامعة الإسلامية: هل طويت نهائياً صفتحها؟

حجم الخط
0

قام، في مجرى النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تهويم كثير بصدد ما اشتُهرت تسميته «البانيسلاميزم» أو «الجامعة الإسلامية». قبل التفكير في راهنيتها، وإذا كان الشعور بها لا يزال يعبّر عن ظاهرة فعلية بين مسلمي اليوم، حريّ العودة، في لحظة أولى للتقليب في دفاترها.
فالبانسيلاميزم في جزء منه من ابتداع مراسلات السفراء والقناصل والمخبرين الأوروبيين، وقد ضاعفوا من تقدير مشاعر التضامن العاطفي بين المسلمين عند كل ملمة أصابت قوماً منهم في زمن الهيمنة الاستعمارية.
في ذلك العصر، فرضت الهيمنة الأوروبية نفسها على معظم مسلمي العالم. فبات هؤلاء رعايا لإمبراطوريات ما وراء البحار الأوروبية الغربية، أو لإمبراطورية التمدّد القارّي الروسيّة. هذا في مقابل تقلّص دائرة العروش المستقلة، العثماني والقاجاري (فارس) والدوراني (أفغانستان) والبوسعيدي (عُمان) وتراجع استقلاليتها، بالتطويق واقتطاع الأقاليم، باتساع النفوذ والتغلغل الأوروبيين وتظهير المرامي الاستتباعية أكثر فأكثر.
في المخيال الجيو – ثقافي الأوروبي انبنت الفكرة عن «الجامعة الإسلامية» على المقايسة بينها وبين الوحدوية الجرمانية، البانجرمانيزم، والسلافية.
بعد نجاح المملكة البروسية ذات الضبط العسكري بتوحيد ألمانيا عام 1871، أخذ البانجرمانيزم يعبّر عن نفسه على نحو «تحسّري»: ذلك أن الوحدة الألمانية هذه، وبعد أن طال انتظارها، تحققت إنما في نطاق لا يشمل الجزء الآخر من «الأمة المرغوبة» جرمان الإمبراطورية النمساوية.
شكلت «الكوزموبوليتية» الملتبسة التي أوجدتها الإمبراطورية المذكورة، من حيث هي مزيج بين جرمان ومجريين وأقوام سلافية، عائقاً نفسياً محموماً بالنسبة إلى الوحدويين الجرمان. لا يمكن فهم بزوغ معاداة السامية إلا في هذا الإطار: احتقان البانجرمانيين من النموذج الهابسبورغي ورفضهم أن يحتسب يهود الإمبراطورية من بين ألمانها، رغم أن الألمانية لغة معظمهم بالولادة. اللاسامية في معناها الأول ارتبطت بمعاداة البانجرمان لليهود على أنهم بمثابة التكثيف لهذا التخليط المدمّر بين الأقوام والأجناس الذي يرعاه آل هابسبورغ بما يحول دون وحدة كل العرق الجرماني. ارتبطت في الوقت نفسه بمعاداة مجريي وسلاف الإمبراطورية نفسها لليهود لأنهم يمثلون «الثقافة المهيمنة» الألمانية.
ثيودور هرتسل كنموذج: في سيرته، التي كتبها شلومو افينيري، يظهر مؤسس «الصهيونية السياسية» على أن صدمته الأولى لم تكن أمام قضية درايفوس في فرنسا، وإنما حيال مشاعر معاداة اليهود لدى البانجرمان.
انتمى هرتسل في بودابست إلى الثقافة الألمانية بكل جوارحه، ونفر من تلك المجرية. صدمته بدأت من أن الثقافة التي فضّلها على سواها كانت السباقة إلى إشهار شعار «ارحلوا إلى فلسطين يا يهود». ردّه كان بتبني الشعار ذاته. وما كان يتخيل أن تكون لغة «دولة اليهود» العتيدة غير الألمانية.
بدورها «الجامعة السلافية» خرجت تنادي بتحرير السلاف من امبراطورية الهابسبورغ وجمع شملهم مع سلاف الإمبراطورية الروسية. لكن قياصرة آل رومانوف كانواج أكثر من حذرين حيال الجامعة السلافية. لهم مصلحة في تأجيج مشاعرها حين توافق مصالحهم، بإزاء آل هابسبورغ وبني عثمان، أو بإزاء تنامي الوعي القومي لكل أمة سلافية بإزاء الأخرى، وبالأخص عند البولونيين.
إنما، في الوقت نفسه كان حرص آل رومانوف على إلحاق الجامعة السلافية بالرابطة الإيمانية – الرمزية الأرثوذكسية، ما يعيد التذكير بأن الاختلاف المذهبي بين الأرثوذكس والكاثوليك يقسّم السلاف، بمثل ما قسّم الاختلاف المذهبي بين الكاثوليك والبروتستانت الجرمان. ارتبطت البانجرمانية كما البانسلافية بالأمل في تجاوز الاختلاف الديني بتزكية التسامح على أساس وحدة الدم والعرق!

هل تؤدي الحرب الحالية إلى موجة جديدة وفعلية من المشاعر التضامنية بين المسلمين، أو هي تظهر على العكس من ذلك كم أن زمن «العروة الوثقى» و«المنار» صار بعيداً عنا؟

لم ترح «الجامعة السلافية» قياصرة سانت بطرسبرغ في محطات كثيرة بدت فيها أقرب ما تكون إلى دعوة ديمقراطية لاجتماع الشعوب السلافية ضد آل رومانوف أنفسهم، إن لم يكن التذكير بالأصول غير السلافية، بل السويدية، للسلالة الروسية الحاكمة.
بالتوازي، طرحت «المسألة اليهودية» نفسها بشكل مغاير في النطاق السلافي: لم تكن المشكلة مع اليهود رفض اندماجهم وقد حصل (فيينا وبودابست) أو التشكيك بصدق الاندماج (قضية درايفوس) إنما كان المطلوب هو الحؤول الاستباقي دون هذا الاندماج، وإدارة المشاعر والإجراءات السلبية تجاههم وصولاً الى جردات التنكيل (البوغروم). فهذا العداء قُدّم على أنه المشترك الوحيد بين الشعوب السلافية، أرثوذكسية وكاثوليكية، التي يمكن لروسيا القيصرية رعايته وتوظيفه ضد الحركات الثورية، قومية جاءت أو أممية.
الخزان الأساسي للهجرة اليهودية سواء في اتجاه أمريكا أو في اتجاه فلسطين انطلق من هذه الخلفية الروسية.
وجد البانيسلاميزم نفسه في وضع أكثر التباساً. تميزت «الجامعة الإسلامية» في خطاب جمال الدين الأفغاني و«العروة الوثقى» عن الدعوة نفسها حين تبناها السلطان العثماني. فطن عبد الحميد الثاني إلى أن رقعة سلطنته إذ تنحسر، فإن رقعة خلافته تتسع، وتصير لأول مرة «قيمة – ملاذ» على مستوى العالم الإسلامي ككل، وينادى لها عند مسلمي المستعمرات الأوروبية بالدرجة الأولى. مضت إلى حالها أزمنة اجتماع «الخطبة والسكّة». لكن الخطبة تعولمت أكثر من أي وقت مضى. وما بقي تحت يد السلطان من ولايات فعليه الحفاظ عليها، وإدماجها في «الكل المتبقي» على نحو يشتاق إلى المركزية، تساعده على ذلك مشاريع شق سكك الحديد..
ساهمت المخاوف والانتظارات الأوروبية في ابتداع البانيسلاميزم، لكنها لم تختلقه من عدم. حسبته أكثر صلابة مما هو. أظهر البانيسلاميزم أنه الأقل صلابة، لكنه أيضاً لا يكاد يندثر خبره حتى يعود. كما الشبح.
لئن عوّل جمال الدين الأفغاني على وحدة المسلمين المشاعرية بالضد من الاستعمار، فإن معظم المسلمين في عصره كانوا أقل «ثورية»: كانت هذه المشاعر تتعايش عندهم مع السعي لتحسين الشروط في إطار الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية وليس الخروج منها، ومع عدم الرغبة في المشاكسة على التقاليد. انبعاث امبراطورية إسلامية جديدة وجامعة لم يكن في حسبان معظمهم. وجود سلطان خليفة كان يدخل الطمأنينة إلى نفوس الكثيرين منهم. ليس لأنه يعدّ لتحريرهم، بل لأن وجوده يسمح لهم بتسويغ ولائهم لإمبراطوريات محكومة من حواضر بعيدة، تختلف عنهم في الدين ويردّونها الى «الكفر» إنما لا مصلحة لهم في اعتبار أنفسهم جزءاً من «دار حرب.
انتهى عصر الجامعة الإسلامية «المتمردة» مع رحيل الأفغاني (أو قبل ذلك مع افتراق محمد عبده عنه) وتوارت الجامعة الإسلامية «السلطانية» مع الانقلاب على عبد الحميد. بعده، مضت «تركيا الفتاة» في محاولة المزاوجة بين البانيسلاميزم والبانتوركيزم، أي «الطورانية». مسوغها أنه لم تقم قائمة للمسلمين بعد القرن الخامس الهجري إلا بسيوف الترك، غزنويين وسلاجقة وتيموريين ومماليك وعثمانيين، ولا قائمة للإسلام بعد الآن إلا بنهوضهم على أساس «العرق الطليعي» في عالم باتت المزاحمة فيه شديدة، لا تَرحم، اصطفائية «داروينية» بين أعراق.
بخلاف البانجرمانيزم والبانسلافيزم، وحدها الطورانية وصلت إلى السلطة بالفعل. إنما بالتداخل بينها وبين الجامعة الإسلامية. بعد ذلك جرت محاولة إعادة إنتاج جامعة إسلامية تقطع مع هذا المسار. ارتبط ذلك بتحولات الشيخ محمد رشيد رضا ومجلة المنار. لكن «التضامن بين المسلمين» صار ملحقاً بإحياء الإسلام فيهم، استتابتهم إلى صحيحه. بحد ذاتها أوجدت هذه المعادلة تناقضاً مستداماً بين أفق الجامعة الإسلامية وبين الحركة الإسلامية (أو «الإسلام السياسي») بين وحدة المسلمين وبين «تقويم إسلامهم» بشكل توفيقي بين التقليد والسلفية (مجلة المنار ثم الإخوان).
ظهر من جهة، المحمول الانشطاري للحركة الإسلامية (وأقصاه عقيدة الولاء والبراء) ومن جهة ثانية، تحولت بمختلف أطيافها إلى الحركة الوحيدة القادرة على الانتشار في معظم أرجاء العالم الإسلامي والاستفادة من تعثر التيارات «الاقتباسية» من قومية وليبرالية ويسارية.
لا يلغي ما اقتبسته الحركة الإسلامية نفسها من هذه التيارات ومصطلحاتها، وأخطر من ذلك تجييرها النزعة التشاؤمية من مآل الغرب، عند رهط من مفكري الغرب، كدليل على الغرب نفسه.
لم تندثر مشاعر الجامعة الإسلامية بالكامل طيلة القرن الماضي ولو كانت الغلبة في معظمه للتحرر الوطني في طبعته القومية، المحمولة على شيء من العلمانية، أو الصنف المعسكر منها: «العلمسكرية».
بدءاً من الستينيات استفاقت «الجامعة الإسلامية» في نزعتها المحافظة، مع الملك فيصل، وبمنسوب عال من معاداة الشيوعية يتوسع في دائرة المتهمين بها على نحو غير مسبوق.
أواخر السبعينيات استُحدثت طبعة للجامعة الإسلامية مع الثورة الايرانية، فيها ما يُذكّر، مع فارق العصر وارتفاع درجة النظرة الجوهرانية إلى الغرب، بجمال الدين الأفغاني. ثم جرى الابتعاد عن أثره سريعاً لأن الحيوية التي أججتها الثورة على مستوى الإسلام السياسي لم تقلّص الاختلاف المذهبي بل عمّقته، ولم تتجاوز على القومية تماماً، إنما تداخلت معها.
من يومها، وفي كل مرة يعود شبح «الجامعة الاسلامية» إلى الظهور تباغته مجدداً الطاقة الانشطارية التي تحملها الحركات الإسلامية. السؤال الآن، ويحتاج إلى متابعة القول: هل تؤدي الحرب الحالية إلى موجة جديدة وفعلية من المشاعر التضامنية بين المسلمين، أو هي تظهر على العكس من ذلك كم أن زمن «العروة الوثقى» و«المنار» صار بعيداً عنا، على نحو لا تأويل فيه؟

كاتب من لبنان

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية