عقدان من الفشل في مسيرة النظام السياسي العراقي

تمر بعد أيام الذكرى السنوية العشرون للغزو الأمريكي للعراق، في وقت يراجع العراقيون حصيلة هذا الحدث، الذي أدى إلى تدمير أسس الدولة وبنيتها التحتية، وأعاد بدوره حالة الانقسام الطائفي والقومي، الذي فرضته النكبات التي مرّت على بلاد الرافدين كأمة حية، تضعف حينا وتقوى حينا آخر، شأنها شأن باقي الأمم. وإذا كان الغزو الأمريكي للعراق قد نجح في إسقاط وتغيير النظام السياسي السابق وفشل في إسقاط العراق، بيد أن الطائفية السياسية التي جاءت بها كل هذه التحولات، سعت إلى إسقاط العراق كبلد بكامله، ومحو خصوصيته التاريخية التي عرفها وشهدها التاريخ كنموذج بلد للتآلف بين القوميات والأديان.
ومنذ البداية، نجحت الولايات المتحدة في صياغة مشروع طائفي ومذهبي، عزّزت عن طريقه مفهوم الانقسام والمحاصصة الطائفية، حيث أصبح الوجود الأمريكي حليفا رئيسيا تتسابق إليه الأحزاب المذهبية الشيعية والسنية، ويتقاتل من أجله أُمراء الطوائف ونخبة العراق الجديدة، في الوقت الذي عملت الإدارات الأمريكية المتعاقبة ما بوسعها لاستقطابهم لصالحها.

منذ البداية، نجحت الولايات المتحدة في صياغة مشروع طائفي ومذهبي، عزّزت عن طريقه مفهوم الانقسام والمحاصصة الطائفية في العراق

وهكذا أصبح قادة العراق الجدد حلفاء وثيقي الصلة بـ»المحرر» القادم من وراء البحار. وفي الوقت الذي احتدم فيه الصراع الداخلي للفوز بكرسي السلطة في العراق، تسارعت المؤسسات العسكرية والسياسية الفاعلة في الإدارة الأمريكية لوضع لمساتها الأخيرة، لإنجاز وتنفيذ فصول سيناريو احتلال العراق. وقد لا أبالغ حين أقول بأن هذا التشرذم الذي ما زالت تشهده الساحة السياسية العراقية، وتقلبات ساستها وتشبثهم بالسلطة، الذي ازدادت وطأته وتشنجاته منذ بدء عملية الانتخابات النيابية، ساهم في تكريس الفتنة والانقسام للمكون الاجتماعي والسياسي العراقي، وكما هو الحال في صراع التيار الصدري والإطار التنسيقي وأزمة محمد الحلبوسي مع شيوخ البادية الغربية. وهكذا بعد مرور عقدين على سقوط النظام العراقي السابق، ونتيجة لهذه الطريقة الخاطئة والمتعمدة في إعادة بناء الدولة، لا يزال الاختلاف في الرؤى في علاقة العراقيين مع محيطهم الإقليمي، يهدّد استقرار ما تبقى من العراق، حيث فشلت الأحزاب الدينية في تطوير نظام حكم شامل للجميع، وتعزّزت الانقسامات الطائفية الداخلية نتيجة للإصرار المتعمد على إيجاد نخبة طائفية تتحكم في القاعدة الطائفية الشعبية، بدلا من التركيز على أهمية وحدة القاعدة الجماهيرية الواسعة العابرة للطوائف، وأضحت مؤسسات الدولة، مراكز لصراع الأحزاب التي تتنافس على السلطة والثروات. وبازدياد الاهتمام الأمريكي والأممي بهذه القوى، ازدادت محاولات الأحزاب السياسية العراقية لإرضاء اليد الأمريكية المتنفذة لتتويجهم كزعماء لحكم العراق. وهكذا نجحت الولايات المتحدة في لعبتها من خلال تلاقيها مع المشروع المذهبي الإيراني، الذي ساهم في تصعيد الأزمة السياسية العراقية عن طريق السماح للدين السياسي المذهبي من السيطرة على الساحة السياسية، وبالتالي الاستحواذ على السلطة بقوة المال والسلاح، إلى حد أن معظم المؤسسات والفرق العسكرية صارت حكراً على قيادات طائفية وإثنية، في بلد تُشكل فيه مقومات الأمن والمذهب مفتاح السيطرة والنفوذ والتلاعب بملفات الفساد. وعلى الرغم من وجود الدستور الذي يُنظم عمل الكثير من مؤسسات الدولة، لم يتردد صقور الأحزاب الحاكمة من السيطرة على البنك المركزي، وهو أحد الهيئات المستقلة المرتبطة بمجلس النواب، التي حصنها القانون من أي تدخلات حكومية، فقد تم الاستحواذ على غطاء العملة العراقية المتمثلة باحتياطي البنك المركزي، والتحكم بمصير المليارات من الدولارات وإنفاقها من دون حساب لتمويل النشاطات الخاصة، ونقلها إلى إيران وبعض دول المنطقة، في ظل تداعيات الصراع الأمريكي ـ الإيراني على الساحة العراقية والمنطقة، وتحت غطاء التوافق الأمريكي ـ الإيراني في القبول بنظام سياسي عراقي جديد، يحظى مسؤولوه وأحزابه بالرعاية والدعم الغربي، ويعتمد في استمراره والدفاع عن أسسه وأيديولوجيته الطائفية، على المليشيات الولائية المسلحة المدعومة من خلف الحدود، على الرغم من معرفة النخبة الحاكمة بأهمية الدور الأمريكي في استمرار شرعية النظام دوليا من جهة، ودور المجاميع المسلحة في إسناد النظام في الداخل. وهذا ما يفسر خفايا هذه العلاقة التي يمكن وصفها بإنها علاقة مصالح وشكل من أشكال التشبث بالسلطة واللعب على الحبلين.
إن استمرارية المراوغة واللعب على الحبلين المذهبي الإيراني والغربي الأمريكي، أو ما يسميه مسؤولو النظام في بغداد بـ(الحيادية)، سيصطدم عاجلا أم آجلا بحقيقة الأمر الواقع، في حال تطلبت المصالح الأمريكية تغيير بوصلتها، توافقا مع الواقع المقبل لجيران العراق. وبعد أن تنتهي الحاجة من النظام الطائفي لملء الفراغ الذي خلفه إسقاط الدولة العراقية، الذي كان الخيار المهم لإدامة الوجود الأمريكي واستمراره من خلال كونها الحارس الأمين للنظام العراقي الذي أوجدته هي نفسها. وهنا تكمن قدرة العامل الأمريكي وأهميته كطرف مُنظم، فعال ورئيسي في قلب المشهد السياسي العراقي، ما يـُسهل عليه ممارسة الضغوط السياسية على الأحزاب الحاكمة، ومن ثم رسم خريطة طريقها وتحديد مسارها وفقا للسياقات والظروف المحلية والإقليمية التي قد تجدها السفيرة الأمريكية في بغـداد ملائمة لإرضاء البعض، أو تنبيه البعض الآخر، خصوصا أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، وكما كان الحال في الإدارات الأمريكية السابقة، ما زالت تحتفظ بأوراقها الضاغطة على النظام السياسي العراقي، من خلال عدم السماح بتجاوز النظام السياسي العراقي، الخطوط الحمر المرسومة له. وهذا ما قد يدفع بالتالي الجانب الأمريكي إلى إعادة رؤيته للأمور، ورسم مستمر لشكل المشهد السياسي العراقي، عن طريق ترتيب خريطة طريق سياسية عراقية جديدة تخدم استراتيجية الإدارة الأمريكية وأجندتها التي جاءت من أجلها للعراق والمنطقة. وهذا ما يراه العراقيون جليا في أنشطة السفيرة الأمريكية وممثلة الأمم المتحدة وسعيهما المشترك إلى احتواء القوى الفاعلة السياسية والمسلحة في المشهد العراقي انسجاما مع التطورات الداخلية والإقليمية المقبلة.
كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    كان معظم العراقيين فرح بزوال حكم الدكتاتور صدام , ليتنفسوا الحرية والعدالة ببلدهم !
    لكن معظم هؤلاء , أصبح يتحسر الآن على أيام صدام !!
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول مهدي المولى:

    لا شك إن الغزو الامريكي حرر العراق والعراقيين من عبودية فرضها الطاغية صدام خلال احتلاله للعراق ومنذ ذلك الوقت والعراقيون يعيشون في نيران العبودية حتى يوم 9-4- 2003 يوم قبر الطاغية صدام يوم الحرية يوم أصبح العراقيون جميعا أحرارا حيث اصبح هناك دستور وأصبح الحق لكل عراقي أن يختار من يمثله وله الحق في المعارضة وطرح وجهة نظره لكن المشكلة نحن العراقيون غير مهيئين لهذه الحرية هذه من جهة فشعب عاش في ظل عبودية قاسية في ظل الحاكم الواحد والرأي الواحد والفكر الواحد آلاف السنين وفجأة ينتقل الى التعددية الفكرية والسياسية لا شك تنخلق سلبيات ومفاسد وصراعات كبيرة وكثيرة وربما تؤدي الى إفشال التجربة الديمقراطية وحتى العودة الى الدكتاتورية رغم ما حدث للعراق والعراقيين من تدمير وذبح وصراعات في ظل الحرية إلا إنها أفضل بكثير من استمرار العبودية ونظام صدام وحزبه الصهيوني لأننا في ظل الحرية بدأت عقولنا تتحرك ونتعلم وسنعرف الصحيح من الخطا أما في ظل العبودية فعقولنا محتلة ولا نتعلم إلا الخضوع والرذيلة

  3. يقول شامل محمد:

    مشكلة البعض تكمن في خلط الدولة العراقية بالنظام السابق وكأن العراق هو الطاغية وكما نراه في التعليق الأخير. الكاتب كان واضحا في قرائته للمشهد العراقي عندما قال “الطريقة الخطأ في إعادة بناء الدولة” الوضع العراقي الأن بفساده وتخلفه الذي اراده الأمريكان نفسهم هو الدليل لما كتبه.وما للكلمات الرنانة الصادرة من التشنج العصبي الطائفي تستطيع ان تحجب الحقيقة عن المؤامرة الكبيرة التي وقع بها العراق . لا تخلطو بجهل فالعراق أكبر من الطاغية والعراق يبقى في قلوب وضمائر العراقيين الاصلاء.

  4. يقول عمر علي:

    لقد توقعت قبل عام ١٩٦٨ بان حزب البعث بقيادة صدام حسين سيسطر على الحكم وستمر فترات عصيبة على العراق. وغادرت ولم أزر الوطن لمدة ١٢ سنة. وبعدها حصل الغزو الامريكي للعراق وكنت من اول المعارضين ليس حبًا بالنظام السابق ولكني توقعت البطش والفساد وكذلك اضطهاد العرب السنة وغيرها من ألماسي التي حلت بالعراق. واصدرت كتابًا بالانجليزية Crisis in the Arabian Gulf: An Independent Iraqi View.
    ندعو الله ان يحفظ العراق والعالم وا ن تنتهي الطائفية والعنصرية في العراق ويوقف اضطهاد المظلومين في العراق.

إشترك في قائمتنا البريدية