عداء الغرب للعرب من الحروب الصليبية إلى طوفان الأقصى

حجم الخط
0

يعود انحياز الغرب إلى إسرائيل إلى سلسلة من العوامل: إنشاء الغرب (بريطانيا) لدولة إسرائيل كشوكة في حنجرة العالم العربي لأن عداء الغرب للعرب المسلمين ذو تاريخ طويل من الحروب الصليبية والاستعمار المعاصر إلى التحالف مع إسرائيل في الهجوم على مصر في حرب السويس ومشاركة البيت الأبيض اليوم في حرب الإبادة في غزة. ونظرا لأن إسرائيل تمثل الغرب بالوكالة فعدوانيتها في غزة تعبير عن كراهية الغرب للعرب المسلمين. ومن ثم، فمشاهدة العالم لتلك الصور الحية نشرت الوعي بالطبيعة العدوانية لدولة إسرائيل الممثلة للغرب الأمر الذي جعل الكثير من سكان العالم يغيّرون رأيهم تدريجيا في الدولة العبرية والغرب ويقومون بمظاهرات عديدة وكبيرة في عواصم ومدن وقرى العالم.
يحتاج الحديث عن علاقة العرب والمسلمين بالغرب المسيحي إلى الإشارة إلى الخلفية التاريخية التي ربطت بينهما. فمن جهة غزا العرب والمسلمون ما يسمى اليوم إسبانيا والبرتغال حيث أقاموا حكمهم وهيمنتهم لقرون عديدة. وحاولوا التوسع أكثر في أوروبا خاصة على أيدي المسلمين الأتراك. ولاشك أن المخيال الغربي (تصوره وحالته الذهنية والنفسية) أصبح منذ ذلك التاريخ متوجسا وخائفا وعدائيا للعرب والمسلمين، إذ هم القوة التي هددتهم في عقر دارهم. ينبغي أن يساعد هذا العامل تفسير العداء الخاص الذي يكنه الغرب إزاء العرب والمسلمين بالمقارنة مثلا مع موقفه نحو الهنود والصينيين. من جهة ثانية هُزم العرب والمسلمون في الأندلس وطردوا منها فسجلوا في مؤلفاتهم هيامهم بالأندلس ولوعتهم عليها وغضبهم على ما تعرضوا له على أيدي المنتصرين الأسبان المسيحيين ، فولدت تلك الأحداث المؤلمة عندهم مخيالا حاقدا على الأسبان وعلى الغرب بصفة عامة.

المجتمعات الغربية الحديثة هي واقعيا وموضوعيا أقل استعدادا ومقدرة لغويا وثقافيا ودينيا على الدخول في حوار ثقافي واسع ومثمر مع المجتمعات العربية والإسلامية

إن معرفة العرب والمسلمين للغات والثقافات والعلوم الغربية واعتقادهم في الديانتين المسيحية واليهودية ( منظومة الرموز الثقافية) تجعلهم أكثر تأهلا وترحيبا من الغربيين المسيحيين واليهود للدخول في التحاور. فنظريتنا للرموز الثقافية ترى أن المنظومة الثقافية العربية الإسلامية قد تغيرت كثيرا إلى الأحسن نحو الغرب في مخيال العرب والمسلمين في العصور الحديثة. وعلى عكس ذلك، لا تسمح المعطيات السالفة الذكر بأن نتحد ث عن وقوع تغيير إيجابي مشابه في مخيال الغربيين لصالح العرب والمسلمين. وبعبارة أخرى، الموقف الجماعي في الغرب إزاء العرب والمسلمين مازالت تغلب عليه السلبيات والاتهامات النمطية والتصورات المشحونة بالحقد والكراهية والعداوة.
فالاشتراك أو التشابه في المنظومة الثقافية بين الأمم والمجتمعات والجماعات يسهل التواصل والتحاور بينها فهو يعزز بالتأكيد الاستعداد والتحمس والقدرة على التحاور والتفاعل على المستويين الفردي والجماعي بين ثقافات المجتمعات والحضارات البشرية. هناك ثلاثة عوامل ثقافية رئيسية تقوي من إمكانية التقارب والتحاور بين البشر:
1ـ معرفة لغة الآخر تُسهل فتحَ أبواب التقارب والتواصل بين الأفراد والمجموعات البشرية. وبعبارة أخرى، إن معرفة لغة الآخر هي تأشيرة visa خضراء للدخول من البوابة الواسعة للاحتكاك به والتعرف عليه. ومن ثم، يمكن القول بأن حـوار الثقافات بين العالم العربي والعالم الغربي يتطلب في المقام الأول من الطرفين معرفة لغات بعضهما بعضا. وهذا العامل اللغوي ضعيف الحضور والانتشار في المجتمعات الغربية على المستوى الشعبي وحتى النخبوي. وربما ينطبق هذا أكثر على المجتمع الأمريكي ليس بالنسبة لفقدانه لمعرفة لغة العالم العربي فحسب بل أيضا في ضُعف معرفته للغات الأجنبية بصفة عامة. وعلى العكس من ذلك، فإن لنخب وشعوب العالم العربي معرفة واسعة ومتمكـنة أحيانا بلغات المجتمعات الغربية وفي طليعتها اللغتان الإنكليزية والفرنسية.
إن هذا الواقع اللغوي يهيئ بالضرورة المجتمعات العربية ويعزز عندها هاجس التفتح والقدرة الفعلية على الحوار مع المجتمعات الغربية. أما المجتمعات الغربية فليس لها ما يحفزها على نطاق شعبي واسع على تعلم اللغة العربية. إذ طالما يقتصر الأمر في أغلب الأحيان على تعلم بسيط للغة العربية لعدد محدود جدا من الأفراد من العلماء والمستشرقين والدبلوماسيين ورجال الأعمال واستخبارات التجسس.
2 ـ معرفة ثقافة الآخر: لا يقتصر الأمر في العالم العربي على مجرد معرفة بعض لغات المجتمعات الغربية كتأشيرات خضراء تيسر التحاور معها بل يتجاوز الأمر إلى اكتساب النخب والطبقات الاجتماعية العليا والمتوسطة في كثير من المجتمعات العربية على الخصوص معرفة لا بأس بها أو متميزة من ثقافة وعلوم المجتمعات الغربية المتقدمة بحيث يصبح البعض من نخب المتعلمين والمثقفين العرب أكثر إلماما ومعرفة بالثقافة والعلوم الغربية من ثقافة وعلوم مجتمعاتهم. وهو وضع يجعل الكثيرين من هؤلاء يشكون من عرض الاغتراب اللغوي والثقافي ومن ثم التعاطف البارز مع الانتساب القوي إلى الثقافة والعلوم الغربية على حساب الثقافة والعلوم العربية الإسلامية. فمعرفة ثقافة الآخر (الغرب) وعلومه تجاوزت أحيانا الحدود المعقولة لعملية التحاور مع الغرب عند البعض من المتعلمين والمثقفين في العالم العربي، وذلك عند ما يؤدي الانبهار بلغات الغرب وبثقافته وعلومه إلى تحقير وإلغاء التحاور مع الذات عبر رصيد تراث الثقافة والعلوم العربية الإسلامية. وهذا يعتبر نتيجة لما سماه عالم الاجتماع الماليزي الراحل سيد حسين العطاس ‹العقل السجين›، فكثير من النخب السياسية والثقافية التونسية الحديثة مثال على ذلك وفي طليعتهم الرئيس الحبيب بورقيبة.
3 ـ الدين: إذا كان العرب يتفوقون على الغربيين في رغبتهم للتحاور معهم بسبب معرفتهم للغات الغربية ومعرفتهم لثقافة الغرب وعلومه فإن عامل الدين يمثل هو الآخر قطبا جذابا يشجع ويدفع المسحيين والأغلبية المسلمة في العالم العربي وبقية المسلمين غير العرب إلى التحاور والتواصل مع الغرب المسيحي إذ يؤمن المسلمون بأن المسيحيين هم من أهل الكتاب، وبالتالي فالمسلمون يؤمنون بعيسى نبيا ورسولا. أما بالنسبة لموقف أغلبية المسيحيين الغربيين من الإسلام فهو موقف سلبي على العموم، إذ لا تعتقد الديانة المسيحية أصلا في نبوة رسول الإسلام محمد. وتأتي الرسوم المسيئة لصورة النبي محمد في الدنمارك وفرنسا والفيلم العدائي للقرآن والإسلام في هولندا كآخر شهادات على جهل وعداء كثير من الغربيين للإسلام. ولا يمكن، في المقابل، تصور وقوع مثل تلك الإساءات إلى الرسولين موسى وعيسى في أرض الإسلام سواء في العالم العربي أو في المجتمعات المسلمة غير العربية.
وعلى ضوء تلك المعطيات، فإنه لا يجوز الحديث عن المساواة في رغبة الطرفين الغربي والعربي الإسلامي في الحوار. وبالإضافة إلى ذلك فإن الهيمنة الغربية الحالية وتاريخ الغرب الاستعماري للشعوب العربية والإسلامية يضعفان كثيرا من استعداد وقدرة تلك المجتمعات الغربية على الحوار المتكافئ التلقائي والمتحمس والواعد مع المجتمعات العربية والإسلامية بل هي تود الحفاظ على علاقة الغالب بالمغلوب في هذا الحوار. ومن ثم، فالمجتمعات الغربية الحديثة هي واقعيا وموضوعيا أقل استعدادا ومقدرة لغويا وثقافيا ودينيا على الدخول في حوار ثقافي واسع ومثمر مع المجتمعات العربية والإسلامية. ومن ثم، فإن الطرف الغربي هو الأكثر تأهلا وترشحا لتكوين تصورات واعتقادات نمطية سلبية خاطئة حول العرب والمسلمين ومجتمعاتهم. يرى علم النفس الاجتماعي أن مثل تلك المواقف الجماعية تشجع وتؤهل الغربيين للدخول في صدام مع العالمين العربي والإسلامي بدلا من الدخول في حوار نزيه ومتوازن معه. ومما يزيد في صدام الثقافات هو أن هيمنة الغرب العالمية ومصالحه الكبيرة والمتنوعة في العالمين العربي والإسلامي تشجع الغرب أكثر على الهجوم على العالمين العربي والإسلامي والمساندة المطلقة العمياء لإسرائيل قبل طوفان الأقصى وبعده. نتيجة لذلك، مثلا، فمتابعة خطب الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن لا تذكر أبدا أن إسرائيل هي بلد محتل استيطاني بقوة الطرد والإبادة للشعب الفلسطيني، ومنه فالحل الحقيقي والعادل هو إنهاء الاستيطان.
واللافت في الصراع مع العدو الإسرائيلي أن حركات المقاومة الإسلامية هي التي نجحت عسكريا في شد الخناق على الكيان الصهيوني. فنجاح مقاومة حزب الله ضد العدو في جنوب لبنان في 2006 وقبل ذلك بإجباره على الانسحاب من الأراضي اللبنانية وفوز حركة حماس والجهاد الإسلامي في هجومهما في 7 أكتوبر 2023 على المحتل الإسرائيلي وفي الصدام معه لشهور عديدة في قطاع غزة شهادات على قدرة المقاومة على مجابهة العدو أكثر من الجيوش العربية. يجوز إرجاع انتصارات المقاومة الإسلامية إلى عوامل مختلفة: 1- إيمان المقاومة القوي أن الغرب عدو شرس وبغيض للشعوب العربية وما تأسيس دولة إسرائيل في قلب العالم العربي وشنها الحروب المتتالية عليها إلا دليل فاضح لمثل ذلك العداء الدفين. 2- تتصف المقاومة الإسلامية باحتضان لمعالم الهوية الإسلامية العربية مما جعلها صاحبة تحمس شديد للكفاح ضد أي احتلال للبلدان العربية واستلاب لحقوق الشعوب العربية من السيادة داخل حدودها. 3- رفضُ المقاومة الإسلامية للتبعية للغرب بكل أشكالها وفي طليعتها التبعية اللغوية والثقافية كما هو الحال في كثير من المجتمعات العربية حيث طالما تكون نخبها السياسية والثقافية خريجة المدارس والمعاهد والجامعات الغربية من خارج أو داخل الوطن العربي، وهو ما يجعل المسؤولين الغربيين ينظرون إلى الاستثمار اللغوي الثقافي في العالم العربي وبقية بلدان العالم الثالث كأعز استثمار يضمن لهم البقاء الطويل في الشعوب المستضعفة لأنه استثمار يقود إلى سهولة سقوط عقول تلك النخب والمثقفين رهينة وسجينة في قبضة العالم الغربي فيتصرفون في مجتمعاتهم في حالات كثيرة كوكلاء للمصالح الغربية في بلدانهم. 4 – إرساء قيمة الثقة في النفس والاعتماد على الذات التي جعلت المقاومة قادرة على هندسة وسائل الكفاح الناجحة ضد الكيان الصهيوني وحلفائه الغربيين. فهندسة مخطط هجوم 7 أكتوبر 2023 من طرف «حماس» في قطاع غزة تمثل عملية عسكرية معجزة لا تكاد تُصدق باعتراف الجميع، فقد وصفها الكثيرون بأنها زلزال وضع نهاية لعقد الأمان الذي اعتادت عليه إسرائيل لعقود طويلة. حصل ذلك الحدث الفارق في تاريخ الصراع العربي الصهيوني كنتيجة لقوة الثقة الفلسطينية في النفس المسلحة بشدة الحَزْم والحُزُم والمؤمنة بأن الدنيا تؤخذ غلابا.

كاتب تونسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية