عائشة عدنان المحمود: العربي في زمن الانهيارات

حجم الخط
0

من أين نؤرخ للزمن العربي في القرن العشرين؟ فالانهيارات كثرت والخسارات تعاقبت. فتلك الحقبة التي شهدت نهاية الكولونيالية، وميلاد الأحلام الكبرى من أجل الدول الناشئة، رافقها تفكك من الداخل، بالانتقال من العدو الخارجي إلى العدو الداخلي، من مواجهة الآخر بالسلاح، إلى المواجهة في ما بيننا. هذا التاريخ المتفجر الذي عشناه في القرن الماضي يندس بين فصول «عباءة غنيمة» (دار الساقي، 2022) للكاتبة الكويتية عائشة عدنان المحمود، التي فتحت بين صدامات التاريخ زقاقاً سردياً، جعلت شخصياتها في صراع، يخبو تارة ويتصاعد تارة أخرى، في مواجهة الانزلاقات العربية، وما نجم عنها من انعكاسات حولت ـ في النهاية ـ العربي إلى عدو للعربي.
تنطلق الرواية من عام 1948 وصولاً إلى 1990، لاسيما تاريخ 2 أغسطس/آب منه، حين استيقظ الناس على مشهد كسر كل الأحلام الهشة، أن نرى جيشاً عربياً يجتاح جاراً عربياً. بين 1948 و1990 ما يربو عن أربعة عقود، عرف فيها الناس نشوة الخطابات الحماسية، والوعود السياسية، عرفوا فيها التخدير باسم القيم والمبادئ العليا، قبل أن يدركوا ـ متأخرين ـ أنهم كانوا يعيشون على هامش التاريخ وليس في متنه. في هذه الرواية تجعل الكاتبة من هذا التاريخ الذي أودى بنا إلى سقوط حتمي، نافذة تطل منها على شخصياتها، في تحولاتهم وطفراتهم، وكيف أن سذاجتهم زادت من تعميق شعورهم بالحسرة، فالمؤلفة لا تميل إلى كتابة مهادنة، ولا تبحث عن مبررات إزاء ما حصل، بل إنها تضع شخصياتها في مواجهة أقدارها، دون أن تلبس عباءة أخلاقية، ولا تبحث عن أعذار لهم، فقد ورطتهم في أكثر مما يحتملون، ورطتهم في تاريخ لم يصنعوه بأيديهم، بل فرض عليهم، وتتيح للقارئ ـ في النهاية ـ بانوراما شاملة عن انهيار الحلم العربي، وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم. وليست صدفة أن هذه الرواية تنفتح بعتبة جاء فيها: «إلى الجهل، والحب، والهزيمة». للوهلة الأولى تبدو عتبة غير واضحة، وقد نحتار عما تقصده منها المؤلفة، لكن مع توالي الفصول سوف ندرك حجتها، أن الجهل الذي أودى بدول إلى سقوط لا يزال مقيماً، كما أن طيش الشخصيات في الإيمان بالحب أحالها إلى الهزيمة.

تداعي الذاكرة

بحكم أن «عباءة غنيمة» تحكي النصف الثاني من القرن العشرين، فقد كان من المنطقي أن تلجأ عائشة عدنان المحمود إلى كتابة تنتهج أسلوب تداعي الذاكرة، أو تيار الوعي ـ كما يطلق عليه ـ هذا التيار الذي وُلد وتطور في القرن العشرين، وصار مصاحباً للأدب السردي في القرن الماضي، منذ أعمال سالينجر وفوكنر وجيمس جويس، حيث أن الشخصيات تسرد ما يمور في باطنها، وفق مونولوغ داخلي، تفصح عن مشاعرها وصراعاتها ولحظات صفوها، في محادثات مع الذات، بما يتيح للقارئ أن يدنو مما تتفكر فيه ويقاسمها خوفها وبهجتها وحيرتها من الأزمنة التي تحيا فيها. ففي هذه الرواية نجد أنفسنا إزاء عائلة كويتية: الأب غازي وزوجته الأولى، مع أبنائهما الأربعة، لاسيما فيصل، ثم زوجته الثانية وابنتها سها، من غير أن نغفل عن الجدة وشلة من الأصدقاء. كل هذه الشخصيات تستدعي وقائع القرن الفارط في تداعٍ حر للأفكار، نرى السياسة وتقلباتها من أعينهم. لاسيما شخصية فيصل، التي استفردت بالمساحة الأكبر من السرد، هذا الشاب الكويتي، الذي ولد وكبر في حيز محافظ، قبل أن يدرك أن الحياة لها أوجه أخرى، عقب انتقاله للدراسة في بيروت، يصير مسيساً أكثر من اللازم، وحالماً بما سوف يجعل من أحلامه سقفاً يتهاوى على رأسه، ينزاح إلى المسألة العروبية، قبل أن يرى جيش العراق يجتاح وطنه، فيدرك أنه عاش خديعة، لكن الخديعة الأخرى التي عرفها فيصل، وكذلك عرفها من كانوا من جيله، فهي خديعة الحب، مجسداً في شخصية «لين» فآمن بأن قدر الإنسان أن يحب، قبل أن تهجره لين وتتركه معلقاً في انتظار لا يختلف عن انتظار غودو.
شخصية فيصل ـ في الرواية ـ كما أرادتها الكاتبة هي سيرة العربي في القرن الماضي، الذي رضع من نهد القومية المفرطة، وآمن بالشعارات السياسية الحماسية في الجامعة، وفي التجمعات الجماهيرية، من غير أن يتفطن إلى أن السياسة ليست ما نراه، بل هي ما يجري خلف الأبواب المغلقة.. أدرك فيصل في الختام أنه لم يكن أكثر من رقم في جوقة عميان، فلا هو بلغ مبتغاه من السياسة، ولا من الحب، انتهى به المآل مفلساً نفسياً، كما أفلست تلك الشعارات الكبرى التي آمن بها في شبابه.

بطريركية ضد الحب

هزيمة الإنسان العربي، كما تحكيها هذه الرواية، رافقتها هزيمة أخرى، وردت بشكل ثانوي، ونقصد بها هزيمة الحب، فكلما تجاورت مشاعر شخصيتين في «عباءة غنيمة» انتهى بها الأمر إلى مفارقة، بدءاً من الأب غازي الذي تنازل عن حبه لزوجته الأولى واستبدلها بحبه لامرأة أخرى لم يطل تعلقه بها، وخسر الطرفين ما أنه استعادة معاشرة الأولى، ثم هزيمة فيصل في حب لين، وأخيراً شخصية سها، التي تبدو المنتصرة الوحيدة في معارك الحب في تلك العائلة الكويتية، لكنها دفعت ثمناً بأن هجرت أهلها إلى غربتها. كما لو أن الكاتبة تخبرنا أن فشلنا في الحب أودى بنا إلى فشل في السياسة، وهزيمة الحب لها أسبابها، على رأسها سطوة البطريركية في ازدراء النساء، فالأب غازي يبدو مزهواً كلما ولد له ذكر، حزينا كلما أنجب بنتاً. وتلك ثقافة شرقية تمتد في الجغرافيا العربية، ولا تخص بلدا دون غيره. هكذا إذن تسير رواية «عباءة غنيمة» في إحصاء هزائم الإنسان العربي، في القرن العشرين، في كتابة شعرية، تتمازج بعامية في حوارات، تتماهى مع البيئة التي ولدت فيها الشخصيات، والتي كلما تقدمت في مشاغلها السياسية شهدت تلك التطورات العمرانية وطفرات الإسمنت في الكويت، قبل بلوغ لحظة القطيعة التاريخية عقب الاجتياح في 2 أغسطس 1990، حين يدرك الجميع أنه كان يعيش معصوب العينين.

روائي جزائري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية