شيخ الأسرى الفلسطينيين… أغرب من الخيال!

حجم الخط
6

أكثر من 42 عاماً (أغلبها) قضاها في زنزانة منفردة، وكأنه خارج حدود الزمن والتاريخ، لا يسمع ولا يكلّم غير سجّانيه، زنزانة منفردة، رطبة، عتيقة، لا يتصل بأحد ولا يزوره أحد. فعلياً هو في غياهب النسيان. معزول، لا يسمع أخباراً ولا يقرأ صحيفةً، فقط بين يديه القرآن الكريم الذي صاحبه طوال فترة سجنه.
أكثر من 42 عاماً وهو بين أيدي الجلادين، يدفعون إليه بوجبات طعام لا يسمن ولا يُغني من جوع. تتوالى النهارات والليالي عليه مغموسةً بالوحدة والوحشة والابتعاد عن أي مظهر حياتي. ما يشعره بالكون هو سجّانه فقط، كان يتغير هو الآخر بين الفينة والأخرى! لا نكتب روايةً خيالية. إنها قصة سجين فلسطيني اسمه، الشيخ حسن اللاوي من القرية الفلسطينية ‘كفر اللبد’. انهى علومه في كلية العلوم بنابلس في أوائل الثلاثينيات. عمل مدرسا وإماماً متنقلاً بين العديد من قرى وبلدات فلسطين وشرق الأردن. استقر به المطاف أثناء ثورة عام 1936 في المسجد الأقصى المبارك في القدس الشريف.
حين كان في المسجد، اقتحم ضابطان وبعض الجنود الإنكليز، الحرم الشريف، جاءوا يبحثون عن الثوار. استباحوا الحرم الطاهر، لم يحتمل الشيخ حسن المنظر، استفزّه البريطانيون، بحث عن سلاح فلم يجد تحت يديه سوى خنجر، تناوله وطعن به ضابطاً بريطانياً من المهاجمين. اعتقله الجنود، حوكم.. كان ذلك في عام 1939 حكم عليه بالإعدام وأودع سجن عكا في المنطقة التي احتلت في عام 1948، بسبب مكانته الدينية والعلمية تدخل مفتي القدس وشيوخ وأئمة مساجد فلسطين وخُفف عنه الحكم إلى السجن مدى الحياة. الشيخ حسن كان متزوجاً وله ابن وابنة صغيران. ما لبثت أن ماتت طفلته في العام التالي لاعتقاله، ثم ماتت زوجته. بقى ابنه الذي التحق بعائلة عمّه. كان له من العمر أربع سنوات. كان اقرباؤه يزورونه في السجن حتى حدوث النكبة واحتلال الجزء الأكبر من فلسطين في عام 1948. غادرت عائلة شقيقه ومعها غازي (ابن الشيخ حسن) بعد أن جرى تهجيرها مثل ثلاثة أرباع مليون فلسطيني، أُجبروا على الفرار والهجرة بفعل العصابات الصهيونية الإرهابية، أثناء حملات التطهير العرقي الصهيوني للفلسطينيين. استقر المقام بالعائلة في الأردن، لم يعرف أقرباؤه، هل تم إطلاق سراح الشيخ حسن أم أنه مات؟ أو جرى قتله في السجن! أو أن البريطانيين قاموا بترحليه معهم وأودعوه سجناً في بريطانيا؟
قدّموا طلبات كثيرة للصليب الأحمر الدولي في الأردن، ولكن ما من جواب. أنكرته سلطات الاحتلال الصهيوني.
الشيخ حسن في زنزانته لم يعرف شيئاً عن اغتصاب فلسطين ولا عن أحداثها. افتقد أهله، اعتقد أنهم ماتوا جميعاً، فلسنوات طويلة لم يقم أحد بزيارته.
بقي الأمر هكذا حتى عام 1967 حين قام الكيان الصهيوني باحتلال باقي الأرض الفلسطينية وسيناء والجولان ومناطق من جنوب لبنان. كبر الابن قام بزيارة إلى اقرباء بعيدين له في الضفة الغربية. تقصّى الأخبار عن والده، عرف من إحدى العمات البعيدات، أنه في سجن عكا، وهي حاولت زيارة الشيخ، لكن سلطات الاحتلال لم تسمح لها، بسبب قرابتها البعيدة للشيخ. ذهب الابن إلى عكا، وكان سجن عكا قد تم هدمه، أخبروه أن والده موجود في ملجأ للعجزة في منطقة (برديس حنا) قرب الخضيرة. تعب كثيرا حتى وجد الملجأ، وبعد جهود مضنية، سمحوا له بزيارة والده. يقول الابن عن أبيه: عندما قابلته، ذهلت، فقد وقع بصري على شيخ طاعن في السن، تغطي وجهه وصدره لحية بيضاء طويلة. لقد بدا والدي وقتها كرجل قادم من عالم آخر بملابسه الممزقة والمرقعة. نظر إليّ ولم يعرفني. عذرته، فقد فارقني وعمري 4 سنوات. قلت له أنا ابنك الوحيد غازي… أشاح بوجهه عني بعيداً، ولم يصدق أنني ابنه! ثم كيف يتعرف علي وهو يعتقد أنني – أنا وأقاربه- قد تركناه طوال هذه السنين، من دون أن نسأل عنه أو نزوره. ويستطرد الابن، مما زاد في آلامي أنني لم أكن أستطع أن أفعل له شيئاً وهو يعيش بين المعتوهين والمعقدين، لا سيما أنني أعلم أنه لا يعاني من أي شيء في عقله أو جسده.
طلب الابن من إدارة الملجأ تسليم أبيه له، رفضت وادّعت أن الأب هو من مسؤولية وزارة الداخلية الإسرائيلية ولا بد من أخذ موافقتها. أوكل الابن الأمر إلى محام من منطقة عام 1948. واستمرت المماطلة منذ عام 1967- 1983 ففي عام 1983 وافقت إسرائيل على إطلاق سراح الأب شريطة مغادرته إلى الخارج. لم تُعطه هوية أو إثباتا يفيد بأنه حي ومن فلسطين. إسرائيل أجبرت الابن غازي على التوقيع بأنه المسؤول مسؤولية تامة عن مصير والده. لقد أُطلق سراح الشيخ حسن، وهو قاب قوسين أو أدنى من الموت. لم تشأ إسرائيل أن يموت لديها، وإلا لم تكن لتوافق على إطلاق سراحه. تركوه: شيخاً هرماً، عليلاً بأمراض عدّة. تركوه شبه إنسان جاء من اعماق الماضي السحيق. لم يرحموا شيخوخته وقصته المأساوية. جاء الشيخ إلى الأردن، سكن في بيت ابنه غازي وقد أصبح له سبعة ابناء وبنات. لم يتفاعل الشيخ مع عائلة ابنه ولا مع الناس، وكأنه يعيش في الوهم. كان الابن قبل قدومهما إلى الأردن قد اصطحبه لزيارة قريته كفر اللبد، لم يتعرف عليها أو على أحدٍ منها. اصطحبه الابن إلى القدس وإلى الحرم القدسي لعله يستعيد بعضا من ذاكرته! لم يتعرف على الحرم وأنكر أن هذه المدينة هي بيت المقدس. عاش الأب ثلاثة شهور فقط ثم مات. لقد عاش وحيداً ومات وحيداً.
هذه هي مأساة مناضل وأسير فلسطيني، لو جرى كتابة رواية بهذا المضمون، لاعتقد القارئ بأنها رواية خيالية، لكن ما كتبناه جزء يسير من معاناة ومأساة هذا المناضل الوطني الفلسطيني. لو أن الأحداث التي مرّ بها، عاشها إنسان يهودي أو أمريكي أو غربي عموماً، لرأيناها رواية مكتوبة ومترجمة إلى كل اللغات، ولشاهدناها فيلماً سينمائياً ومسلسلاً تلفزيونياً، ولما بقي مطلق إنسان على وجه البسيطة لا يعرف ما حصل مع صاحبها.
منذ ما يقارب القرن، يعاني الفلسطيني عذاباتٍ مريرة، لربما أشد معاناة مماعاشه الشيخ حسن. لكن المعاناة الفلسطينية تظل للأسف في وسطها المحدود. مناضل يُسجن في عهدين: بريطاني وصهيوني. تنكره إسرائيل (الدولة الديمقراطية التي تحافظ على حقوق الإنسان! كما يدّعي الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة).
قصة هذا المناضل البطل جاءت إليّ في وقتها، في يوم الأسير الفلسطيني في 17 نيسان/ إبريل الحالي، علّها تكون مدخلاً من أجل الحرص على الاطلاع على أوضاع ما يقارب الخمسة آلاف سجين وسجينة من الفلسطينيين، بينهم الشيوخ والمرضى والأطفال والنساء ومن بينهن الحوامل. ما يزيد عن الخمسين أسيراً يعانون من مرضى السرطان، ومنذ عام 1967 استشهد 207 أسرى من الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، منهم من جرى قتله على أيدي المخابرات الإسرائيلية (الشاباك) ومنهم من توفي نتيجة الإهمال في العلاج وآخرهم الشهيد ميسرة أبو حمدية.
أبطالنا في الأسر بإراداتهم الصلبة وبعنفوانهم وإبائهم وفلسطينيتهم المزروعة عميقاً في عقولهم، ينتصرون على الجلاّدين الصهانية من السجّانين، لم يستطيع هؤلاء هزم الإرادة لديهم، يخرجون من السجن وهم أكثر التصاقاً بوطنهم الأصيل وأرضهم الطيبة الحانية، يخرجون أشد انتماء، لقضيتهم الوطنية ولحقوق شعبهم ولوطنهم العربي الكبير. ما من سلاح بين أيديهم سوى الإضراب، وها هو سامر العيساوي يتجاوز في إضرابه عن الطعام التسعة أشهر.
الجلاّد الصهيوني تفوق على النازية في أساليبه التي يقترفها ضد أسرانا، لكن مهما عذّبوا أسرانا الأبطال، سيظلون فلسطينيين: يخـــــتزلون وطنهم أنفاساً دافئة في صدورهم وحقيقةً جميلة في قلوبهم، ومعنى خالداً في عقولهم، وتاريخا عريقا يسري في دمائهـــــم. نعم …انهم فلسطينيون. كل التحــــية لذكرى شـــيخ الأسرى الشيخ حسن اللاوي ولكل أسرانا في المعتقلات والسجون الصهيونية.

‘ كاتب من فلسطين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عادل:

    كان الله في عونهم

  2. يقول احمد صيام:

    متضرعين إلى الله ان يفك قيد جميع الاسرى

  3. يقول محمد التعمري:

    آهٍ لك يا ايها الكاتب الكبير . فتحت جروح قلوبنا …. فجرت آهاتنا الحزينة …. أنزلت دموعنا العزيزة ….. أزددت فخراً بالشعب العظيم ، انبهرت عجباً بالشعب الاسطوري ،،، لا والله لا أجد في الحياة ما يستحق إلا سماع وقراءة ومشاهدة الطير الفلسطيني . اني امسح دموعي ثم احوال الطيران لأاحوم حولك فلسطين

  4. يقول Lina Adeeb:

    لو أن الأحداث التي مرّ بها، عاشها إنسان يهودي أو أمريكي أو غربي عموماً، لرأيناها رواية مكتوبة ومترجمة إلى كل اللغات، ولشاهدناها فيلماً سينمائياً ومسلسلاً تلفزيونياً، ولما بقي مطلق إنسان على وجه البسيطة لا يعرف ما حصل مع صاحبها.
    فصل مخفي من فصول الملهاة الفلسطينية

  5. يقول كردي:

    الأسر أجمل من مشاهدة تجار القضية .شكرا

  6. يقول عاطف - فلسطين 1948:

    كنت اتمنى على كاتب فلسطيني ان يصيغها رواية انسانية لعل ان تصل الى المستويات العالمية وهكذا يمكن لماساة هذا الاسير ان تتغلب على سجانيها . يمكن لهذه الرواية ان تعيش اطول من حياة صاحبها وهكذا يصبح لحيته معنى ومغزى.

إشترك في قائمتنا البريدية