سوريا: بين البورجوازية المدينية… والوطنية

حجم الخط
2

كانت البورجوازية المدينية السورية بعد الثورة العربية الكبرى عام 1916، هي من يعوَّل عليه في إنهاض البلاد إثر أربعة قرون من الرقود والركود في ظل الحكم العثماني، وهذه البورجوازية المكونة من ملاك الأراضي والتجار وموظفي السلطة العثمانية، كانت فيها نخبة مثقفة تثقيفاً عالياً، يفوق كل نخب المنطقة، قادرة على العطاء والتغيير، بل وحتى النضال، فمن رحمها ولدت الكتلة الوطنية، التي تولت مقاومة الفرنسيين طوراً بالسلاح وأطواراً بالسياسة.

السياسة الفرنسية

ولكن عدة عوامل ساهمت بإضعاف هذه الطبقة التي كانت متواجدة في المدن السورية الرئيسية من دمشق إلى حمص، وصولاً إلى حلب.
أول هذه العوامل: سياسة فرنسا التي اعتبرت سوريا منطقة نفوذ لها حسب اتفاقية سايكس بيكو، وهي سياسة قائمة على تقوية وتمييز الأقليات على الأكثرية العربية التي كانت الطبقة البورجوازية هي نخبتها، والناطقة باسمها، يقول نشوان أتاسي في كتابة « تطور المجتمع السوري من عام 1830- 2011» إن فرنسا التي قامت بدراسة المنطقة جيداً كانت لها خطط مسبقة قبل الحرب العالمية الأولى تقوم على حصر العرب السنة في الداخل، وإحلال أقليات في منطقة شرق المتوسط، لذلك تم خنق حلب التي كانت تعتبر ثالث مدن السلطنة العثمانية أهمية بعد إسطنبول والقاهرة عبر سلخ لواء إسكندرون، عام 1939 الذي كان ميناؤه التجاري واجهة حلب على العالم، وجرى تسليمه لتركيا، في صفقة سياسة جاءت كتمهيد لتجميع الحلفاء، ورص صفوفهم قبل الحرب العالمية الثانية، ليأتي بعدها نتيجة التصويت على تقرير المصير بضم اللواء لتركيا كتحصيل حاصل، وهذه المنطقة سميت لا حقاً بإقليم هاتاي.
في الساحل السوري بعد تطبيق الانتداب، أنشأ الفرنسيون دولة جبل العلويين، التي استمرت من عام 1920 حتى عام 1936، وفيها تم الضغط على برجوازيي مدينة اللاذقية من السنة والمسيحيين لإضعافهم لصالح العلويين، على الرغم من ما قيل ويقال عن ثورة صالح العلي، ولكن هدفها لم يكن مقاومة الفرنسيين كقوة احتلال، حسبما يقول بعض المؤرخين، وإنما لأن الفرنسيين قد أعطوا بعض الأراضي التي يملكها العلويون للإسماعيليين في بلدة القدموس، فتلقف الأتراك هذه التحركات ضد الفرنسيين، الذين كانوا يحتلون إقليم كيليكيا الذي يريد الأتراك ضمه للدولة الوليدة، فقدموا الكثير من الدعم بالمال والسلاح لصالح العلي، ولكن بعد توقيع الفرنسيين اتفاقية انقرة مع الأتراك في تشرين الأول- أكتوبر عام 1921، اعترفوا للأخيرين بسيطرتهم على الإقليم، فما أن تم إيقاف الدعم عن صالح العلي حتى انهارت ثورته.

حملة محمد علي

أما واجهة دمشق على العالم فهو ميناء بيروت، ولكن بعد إقامة دولة لبنان الكبير، عام 1920، فقد أصبحت دمشق بلا ميناء بحري تصدر من خلالها تجارتها للعالم.
لبنان الذي بقي لقرون محكوماً من قبل الموحدين الدروز، وكان الموارنة هم المحكومين- وكلا الأقليتين قادمتان من حلب بالمناسبة، ضمن فترات زمنية متلاحقة، كنوع من الاحتماء بالجبال خوفاً من الاضطهاد، على أساس ديني- ولكن أثناء حملة محمد علي على سوريا 1830 حصل الكثير من التغيير على خريطة السيطرة، حيث تمت إزاحة حكام ووضع حكام جدد مكانهم، وبعد إجبار محمد علي على التراجع عن سوريا، تم بضغط فرنسي تقوية الموارنة، ما أثار خوف الدروز من ضياع الحكم منهم، فاندلعت أحداث الحرب الأهلية عام 1860 انتقل شررها إلى دمشق، حيث تعرضت أحياء المسيحيين للهجوم من قبل الصناع المسلمين، الذين تأثرت صناعتهم وأرزاقهم، بعد تفعيل التجار الغربيين والقناصل لاتفاقيات أبرموها مع العثمانيين، وكان المستفيد من هذه الاتفاقيات هم المسيحيين.

سيطرة عهد المماليك

أما جبل لبنان فقد أدت الحرب فيه إلى تدخل فرنسي لصالح الموارنة وتدخل إنكليزي لصالح الدروز، فتم بناءً على ذلك تقسيم الجبل إلى قسم شمالي يحكمه الموارنة وجنوبي يحكمه الدروز، بعد ذلك تم تأسيس متصرفية لبنان التابعة مباشرة للباب العالي في إسطنبول، وهذه المتصرفية كان الموارنة يسيطرون فعلياً.
الساحل الجنوبي لسوريا في فلسطين، تم إعطاؤه لليهود ليقيموا فيه دولة إسرائيل، حسب وعد بلفور الذي قدمه وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور عام 1917 إلى ليونيل دي روتشيلد أحد كبار التجار اليهود وعضو المجلس الصهيوني البريطاني بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، رغم أن فلسطين كانت في اتفاقية سايكس بيكو منطقة خاضعة للنفوذ الدولي.
بالعودة إلى البورجوازية، فقد كانت كذلك الخلافات بين أعضائها أحد أسباب إضعافها، وهذا كان واضحاً وجلياً في الكتلة الوطنية، الواجهة السياسية للبورجوازية المدينية السورية، وعليه كان التنازع بين جناحي الكتلة في حلب ودمشق، فضلاً عن الانشقاقات الكثيرة التي رافقت عمل هذه الكتلة، والتباين في التوجه السياسي، بين داعم للهاشميين ومن ورائهم الإنكليز، وبين رافض لهذا التوجه.
وا يمكن إغفال حالة الحساسية التي كانت بين هؤلاء البرجوازيين، وغالبية سكان الأرياف السورية من الفلاحين، حيث سادت منذ سيطرة عهد المماليك نزعة تقلل من شأن من يعمل في المجال الزراعي، وتم تكريس هذه النزعة خلال فترات حكم العثمانيين، عبر نظام الالتزام، الذي يلتزم بموجبه أشخاص محددون بجباية الضرائب عن أراضٍ تملكها الدولة وتسليمها للدولة، ثم مع ضعف الدولة العثمانية أصبح هؤلاء الملتزمون ملاكاً للأراضي، والفلاحون عمالاً عندهم، أو ما يسمى بالمرابعين.
آخر سبب هو إهمال البرجوازيين للعسكرية، بل كرههم لها، ومن خلال هذا تسللت اللجنة العسكرية التي تحكم سوريا منذ عام 1963، وهي لجنة تغلب عليها اللون الطائفي الأقلوي الريفي، وعبر هذه العقود الستة تم ترييف سوريا كلها، بدل تمدينها.
والآن في ظل هذا المخاض السياسي العسير الذي تعيشه سوريا هذه الأيام، يبقى البحث عن نخبة اقتصادية وسياسة وثقافية من أهم شروط الانتقال إلى بر الأمان، لذلك في رأيي يجب إعادة بناء البورجوازية، شرط أن تكون بورجوازية سورية من جميع المناطق والطوائف، فالسوريون بعد أن انتشروا في المعمورة، اليوم، باتوا يحتلون مواقع متميزة على كافة الصعد، وهؤلاء من يُعوَّل عليهم اليوم.

كاتب سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سلافة:

    شكرا على المقال ااشامل و التحليلي لنسيج المجتمع السوري و كيف وصل الى هذا التشكيل اليوم و فعلا يحتاج المجتمع السوري مثل اي مجتمع الى طبقة النخبة من البورجوازيين و طبقة الانتلجنسيا و التكنوقراط للنهوض بالمجتمع بعد ان عرق في التخلف و الجهل و الاهمال في العقود الأخيرة من الزمن

  2. يقول Abdi:

    مقال رائع يظهر لنا دورة حياة المجتمع السوري و وأبرز نقاط الحاسمة في تاريخه

إشترك في قائمتنا البريدية