«دمشق طقوس رمضانية» لمحمد منصور: دراسة في الدراما السورية

حجم الخط
0

بعد انتهاء الموسم الرمضاني الدرامي، يرى نقاد ومراقبون، أن ظاهرة التسابق المحموم لبث المسلسلات الدرامية في الشهر الكريم بدأ نجمها بالأفول، وما ذلك إلا نتيجة طبيعية لثورة وسائل الاتصال الحديثة، فالجمهور لم يعد مضطراً لانتظار المحطة حتى تعرض المسلسل، اليوم بإمكانه إن يراه في أي وقت شاء عبر هاتفه المحمول وحساباته على وسائل التواصل الاجتماعي، التي باتت أغلب الشركات تتسابق لكسب متابعين عليها، كي تحقق مسلسلاتهم مشاهدة أكبر، وبالتالي يربح المنتجون أكثر، عبر إدراج الإعلانات في الفيديوهات، فضلاً عن انتشار المنصات التي يبيع لها المنتجون، المسلسلات وهي تتولى بثها لمشتركيها، الذين يتابعون التمثيليات كذلك في أي وقت شاءوا، وبالتالي بات من الطبيعي أن العديد من الشركات لم تعد حريصة على بث المسلسلات خلال الشهر الكريم.

ثقافة التخمة والبذخ

وهذه نقطة إيجابية من نقاط قلائل لانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، في كتابه «دمشق طقوس رمضانية.. من زمن الكاراكوز والحكواتي إلى دراما التلقين السياسي» الذي صدر مؤخراً عن دار موزاييك للدراسات والنشر، يشتكي الباحث والناقد الفني محمد منصور، من أن البث الكبير للمسلسلات خلال شهر رمضان قد جعل الشهر الكريم عنواناً لثقافة الترفيه الحديثة، «وأثرت في خصوصيته الدينية والاجتماعية باعتباره شهر الصوم، والزهد في ملذات الحياة والإحساس بجوع الفقراء والمعوزين، وصار موسم رمضان تجسيداً لثقافة التخمة والبذخ، ولصراع السياسة مع الفن، والفن مع الإعلان، والإعلان مع نجوم الشاشة». طبعاً هذا الكلام هو قبل الانتشار الأفقي والشاقولي لوسائل التواصل الاجتماعي، وظهور المنصات التلفزيونية، وما بات يعرف بنجوم «السوشيال ميديا» الذين باتوا يقدمون برامج ترفيهية، بل حتى إن بعضهم بات ينتج مسلسلات يشارك فيها ممثلون محترفون.

دمشق والرفاق!

الكتاب الذي هو عبارة عن دراسة لأجواء وطقوس رمضان في مدينة دمشق، كصيغة توثيقية تعتمد على عشرات المراجع والبحوث.. طقوس أراد حزب البعث طمسها منذ وصوله للحكم، بحجة أنها من الرجعية، التي يريد الرفاق «التقدميون» القضاء عليها. ويتناول الكتاب بشكل خاص الدراما، التي انطلقت وازدهرت في أجواء رمضان، وبالتالي يرصد البحث تطورها منذ بداياتها مع مسرح خيال الظل عبر شخصيتي «كركوز وعيواظ» وصولاً إلى مسلسلات البيئة الشامية، ومن ثم بعد انطلاق ثورات الربيع العربي، باتت هذه التمثيليات وسيلة للتلقين السياسي، وبث الرسائل الفجة والممجوجة، يقول منصور في مقدمة كتابه، «إنه محاولة لكشف هذا الصدام العنيف بين ثقافة شعبية كانت تبحث عن ألوان الترفيه البريء في ليالي رمضان الطويلة الزاخرة بالإيمان، وثقافة أخرى ولدت في عصر التلفزيون، فحولت الترفيه إلى صناعة، والصناعة إلى سياسة، تدس رسائلها الموجهة، وإلى تجارة تحكّمها في السوق الإعلاني أولاً، وفي الوجدان والعقول ثانياً».
يورد الكاتب أثناء حديثه عن معركة المفطرين مع المجتمع والقانون، أن حافظ الأسد وكاسترضاء لرجال الدين، زاد من عقوبة الإفطار العلني في رمضان، لتصبح ثلاثة أشهر بعد أن كانت شهراً واحداً، لكن هذا القرار لم يكن إلا ضحكاً على ذقون المشايخ التابعين له، إذ بقي حبراً على ورق، ولم ينفذ حتى لمرة واحدة.
دخل مسرح خيال الظل إلى سوريا من الدولة العثمانية منذ القرن الثامن عشر، وقد كانت له عائلات تتولى تقديمه للجمهور، خصوصاً في الشهر الكريم، بل حتى إن قاموس الصناعات الشامية قد أدرج مهنة «الكركوزاتي» ضمن الحرف والمهن التي كانت قائمة في دمشق في نهاية القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين.

حكواتي الثورة

ومن أشكال الدراما التي تزدهر في أجواء رمضان هي، الحكواتي الذي يقص على مستمعيه من زبائن المقاهي الدمشقية الكثير من قصص التضحية والبطولة، كعنترة بن شداد وأبي زيد الهلالي وغيرهما، والحكواتي أيضاً من المهن التي كانت سائدة ومزدهرة في دمشق إلى فترة ليست بالبعيدة، ولا يفوت الباحث الدمشقي الإشارة إلى أن هذا الفن وجد له موطئ قدم في الثورة، وانضم بعض الحكواتيين إليها، فيشير إلى أبو عبد الحكواتي الذي نشر سلسلة لوحات على موقع اليوتيوب، مطالباً بلهجته الدمشقية بالحرية والعدالة.

بدايات العمل الإذاعي والتلفزيوني

بعد ذلك ينتقل الباحث إلى الإذاعة، موضحاً أن الإذاعات كانت تهتم بإنتاج مسلسلات درامية إذاعية، خاصة خلال شهر الصوم، ويسرد الكثير من المسلسلات والممثلين الذين أسسوا للدراما السورية، كحكمت محسن وتيسير السعدي.
مع وصول التلفزيون وانتشاره بدأت المسلسلات الإذاعية تفقد أهميتها شيئاً فشيئاً، وبدأت بالانحدار منذ ثمانينيات القرن الماضي. وهنا يسرد الباحث المهتم بتاريخ الدراما كيف بدأ الموسم الرمضاني التلفزيوني السوري وكيف تطور، من مسلسل «البخلاء» إلى مسلسل «مساكين» وصولاً إلى «صح النوم» ثم يذكر العشرات من المسلسلات التي ارتبطت بذاكرة الجمهور السوري والعربي، عبر بثها في شهر الصوم، ودائماً في نهاية كل فصل العديد من الصور الفوتوغرافية التي توثق صورياً لما ورد ضمن الفصل.

ألف ليلة وليلة

في الفصل السادس يغوص الناقد الفني في الحديث عن جذور الدراما الرمضانية، مشيراً إلى أن حكايات ألف ليلة وليلة، وطريقة السرد الحكواتي، كانت الأساس الذي انطلقت منه معظم الأعمال الدرامية العربية عموماً، والسورية خصوصاً، ويدعم فكرته هذه بالعديد من المسلسلات، التي بدأت منذ عام 1968 وحتى عام 2007.

أنزور لم يتجاوز الإعدادية

وفي هذا الصدد كانت الأعمال التاريخية الهجينة، التي سميت بالفانتازيا التاريخية، وهي أعمال بعيدة كل البعد عن الواقع وعن التاريخ، وتولى إخراجها نجدت أنزور الذي «لم يقرأ في حياته كتاباً، ولم يتجاوز تعليمه الشهادة الإعدادية، ولم يتتلمذ على أي مخرجين كبار في عالم الدراما والسينما، لا في سوريا ولا في غيرها، كانت بالنسبة له وسيلة للبهرجة البصرية، على حساب أي معنى، ولتمرير التناقضات على حساب أي منطق، ولتغليف حكايات كثيرة بترميزات جاهلة وساذجة على مقاس تفكيره».

تلقين سياسي

الباحث الذي برصيده ثمانية كتب في النقد الفني والدرامي، لا يفوت الإشارة إلى أن أعمال البيئة الشامية، التي كانت تحظى بإعجاب كبير سوري وعربي، أصبحت وسيلة للتلقين السياسي، خصوصاً أن تلك المسلسلات قبل الثورة السورية لطالما تغنت بشجاعة ثوار الغوطة، لكن بعد الثورة تغير الحال، فتم منع حتى ذكر ثوار الغوطة، ومنع نشر علم الاستقلال، في كتاب رسمي من لجنة صياغة السينما والتلفزيون لشركات الإنتاج التلفزيوني، فضلاً عن كثير من الحوارات التي يفهم أبسط متابع بأنها كُتبت في أفرع المخابرات، بما يتناسب مع توجهات النظام المتداعي.

مقاومة بالكلمة والصورة

هذا الكتاب هو الثاني الذي يصدر للكاتب الدمشقي، حول العاصمة السورية وطقوسها، فقد صدر له، قبل أشهر «دمشق.. سيرة المواسم والفصول» الذي هو دراسة في التاريخ الاجتماعي لدمشق، وأهم معالمها التي رسمت صورة تلك العاصمة الأقدم في التاريخ، والمواسم والفصول التي تشكل الذاكرة الوجدانية للدمشقيين، وقبل ذلك أصدر عام 2014 كتابه «دمشق ذاكرة الوجوه والتحولات» ثم «دمشق تذكارات أموية». دمشق التي يُراد لها دولياً أن تبقى تحت حكم عائلة الأسد – على المدى المنظور- كي يغير ما بدا له من نسيجها الاجتماعي، ويدمر معالمها الحضارية والتاريخية بمساعدة الإيرانيين، تأتي هكذا مؤلفات إسفينا في وجه حملاتهم المتواصلة، لاسيما وأن الكاتب هو من جيل الكتّاب الدمشقيين الشباب، الذين حملوا على عاتقهم توثيق هذه التغييرات في التاريخ والثقافة والفن، عبر عدة كتب وعشرات الأفلام الوثائقية التي تولى كتابتها وإخراجها.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية