«سليمو» يستعيد محمود درويش في رياح الغرباء

لم ألتقِ سليم بركات إلا عبر الهاتف قبل نحو ثماني سنوات، ربما في اليوم ذاته الذي كتبَ فيه نصَّه الحرّيف هذا «محمود درويش وأنا»، وهو يكشطُ قعرَ طنجرة البافون بملعقة الكروم، كي ينزع الخافضَ من طجينِ الطعامِ المُسودِّ بطعم الحريق، تهيئةً لطهوٍ جديد، فالجائعُ يضطر إلى تسخين الكلام البائتِ، حتى لو بعد دهرٍ من الصمتِ أو الحنين.
بركات طاهٍ ماهرٌ في قليِ القديدِ المغموسِ بخَلِّ العنب الأحمرِ في الأشهر المُحرّمةِ الصيدِ، وفي شواءِ البلاغةِ المحشوَّةِ بالكذبِ العذبِ، لتقديمه لقرّاء العربية، خصوصًا بعد أن ورَّطهُ صديقه الشاعر محمود درويش (1941 ـ 2008)، قبل رحيله، بنَعْتٍ أدهشهُ ـ هو الكرديُّ ـ بأنه «أفضلُ من كتب باللغة العربية منذ عقدين من الزمان»!
يهدي الصديقُ صديقَه قصيدةَ «ليس للكرديّ إلا الريح» في ديوانه «لا تعتذر عمّا فعلت»، ولا يظننَّ القارئُ العجولُ أن شاعرًا بحجم محمود درويش سيغفلُ عن دلالةِ الكنايةِ في هذا العنوان وإحالتهِ ـ من ثمَّ ـ إلى أهمّ مظانّ اللسان العربي المبين باستعاراته المذهلة، أيْ النصِّ القرآني الساطع في سماء الكلام، وآيتهِ الكريمة في سورة الأنبياء (81): «ولسليمانَ الريحَ عاصفةً»؛ حيث أراد درويش ـ الفلسطيني أن يواسي بركات ـ السوريّ (المشرّد المنفيّ قبل الدياسبورا السورية التالية)، ومِن ورائِه أمَّةً كرديّة، بمملكة الريح العابرة للأوطان.
ربما انخدعَ بعضُ المُلقين بدلائِهم في الفضيحةِ ـ المزعومةِ، عندما اعتقدوا أن صاحبَ سيرةِ «الجندب الحديدي»، بعنوانها الفرعيّ الشعريّ الطويل (السيرةُ الناقصةُ لطفلٍ لم يرَ إلّا أرضًا هاربةً فصاحَ: هذهِ فخاخِي أيُّها القَطا)، قد وقع في سقطةٍ، حينما نشرَ مؤخرًا مقاله الاستذكاريّ المثير، والموسوم «محمود درويش وأنا»، المُتضمِّن ـ في ما تضمَّن ـ اعترافًا درويشيًّا خطيرًا، وعابرًا في الوقت نفسه، حول أبوّتهِ لابنةٍ من امرأةٍ متزوجة، فيسلّطُ الضوءَ على الاعتراف، محفوفًا بسردٍ مُرسلٍ مُلغّز بغلالةٍ من الغموضِ والإيحاءِ والمراوحةِ في المعنى، مؤكدًا أن «كلُّ سِرٍّ يعني صاحبَه، لكن ذلك السرَّ لم يكن يعني محمودًا»!
كل من قرأ سليم بركات بتمعّن يدركُ أنَّهُ لا يلقي الكلامَ على عواهنِهِ، بل يستدرجُ القارئَ ـ كلما سنحتْ له فرصةُ نشرٍ متباعدةٍ يصنعُها في عزلته الاختيارية المديدة ـ إلى وديان نصّه السحيق كالهاوية، فيبقيهِ مشدودًا متوترًا حائرًا حتى آخر حرفٍ، بدون أن يغلق قوس الاستعارة، سواء أكان النصُّ شعرًا أم نثرًا.
فإذا كانت ثمة شبهةُ تصفيةِ حسابٍ، كما ذهبَ بعض المُتدخلين في الأمرِ، لماذا إذن يمتّن بركاتٌ لدرويشٍ على قصيدته الباذخة الآنفة، وقد «فضَحهُ» في عقر دارهِ في منفاهُ السويديّ البعيد: «سكاكينٌ مجلّخةٌ لذبح الطير والخنزير. فيديو للإباحياتِ. باقاتٌ من الشوكِ المعادلِ للبلاغة. شرفةٌ مفتوحةٌ للاستعارةِ»؟
الجوابُ: صديقان يتبادلان الهَذْرَ على مشارف الخلود في اللغة.
لا يحتاج الراحل محمود درويش للنهوضِ من نومهِ الأبديّ، كي يدافع عن نفسه، جرّاء فعلة صديقه، الذي يثقُ بمهارتهِ في اللعب بين الحقيقة والمجاز، كمن يضربُ بالرمل، راميًا «بياضه» في سواد الاحتمالات في المقال ذاته، إذ يقول: «كنا نتبادلُ كشتباناتٍ من تدريب اللسان على الأبوَّةِ»، ويعرف أهل الشام ـ ولبنان على الأخصِّ ـ مغزى ذكر «الكشتبان» في هذا المقام، إذ يعمدُ المقامرُ المحتال «الكشتبنجي» إلى إخفاءِ الكرةِ الورقيّةِ البيضاءِ تحت أحد الأقماع الثلاثة في لعبة الحظ المضبوطةِ جيّدًا بخفّة يدهِ، فلا تكون في أيّ احتمالٍ منها، بل تحت ظفرِ خِنْصَرهِ، وما يبرهنُ على ذلك قولُ سليم بركات بعد عدة سطور: «لا بأس. أنا أُلفِّقُ لتلك الأبوَّةِ إقامةً في الكلمات»!

لا يحتاج الراحل محمود درويش للنهوضِ من نومهِ الأبديّ، كي يدافع عن نفسه، جرّاء فعلة صديقه، الذي يثقُ بمهارتهِ في اللعب بين الحقيقة والمجاز، كمن يضربُ بالرمل، راميًا «بياضه» في سواد الاحتمالات في المقال ذاته.

ثمة تفسيرٌ آخرُ، أنثروبولوجي، لِمَا أقدمَ عليه «سليمو»، لقبُهُ الذي يحلو لأصدقائهِ المقرّبين مناداتُه به، ولعليّ أغامرُ بالقول إنَّهُ وراءَ هذا اللغط المقصودِ افتعالَه، إن كان مفتعلًا حقًّا لذاتِه، وهو ما يخصُّ بلدتَه عامودة (وبلدتي) في أقصى الشمال الشرقي في سوريا؛ فأهلُها يميلون إلى الطرافةِ في أكثر المواقف جَهامةً، كما هو معروفٌ، حتى أن نُكتًا تولدُ تحت خيمةِ العزاءِ، محاولةً منهم للتغلّب على صدمةِ الموت، فتظنُّ أن الراحلَ في غيابٍ قصير، وسيدخلُ الخيمةَ بعد قليل، ليس ذاك نقصانًا في احترامِ الموت، بل زيادةً في التعلًق بالميتِ، قبل تصديقِ موتهِ، فتغدو اللغةُ الحميميةُ عنه سبيلًا لاستعادة الغائب في تفاصيلهِ الأكثر حميميةً، والشاعرُ محمود درويش اكتشفَ تلك الخصلة في الشاعر والروائي سليم بركات، وأحبّها فيه، هو النافر من الصداقات الوقورة المملّة، حسبما يُرْوَى عنه، والدليلُ في قصيدته الآنفة ذاتها: «ويحلقُ عانةَ اللغةِ: انتقمتُ من الغيابِ.. ليس للكرديّ إلا الريح تسكنه ويسكنها / وتدْمنُهُ ويدْمنُهَا، لينجو من/ صفات الأرض والأشياء».
إن الإشارة إلى أبوّة محمود درويش، ليستْ حقيقةً وليست خيالًا، إنها لغةُ الخواصِّ يلقيها سليم بركات في فضاءِ العوامِّ، دعابةٌ تسيرُ على حبلٍ شاهقٍ بين نفيٍ وإثباتٍ، القصدُ منها تزجيةٌ لحزنٍ عميقٍ على فقدٍ، لكنها ـ إن شئتَ أيضًا ـ هرطقةٌ طفولية، بين كبيرين وقفا على خرائط اللغة وأسرارِها، موطنًا للإقامة الأزلية، في منطقةٍ تمورُ بتقلبّات الحدود العبثية، خاسرةٍ سياسةً سطحيةً رعناءَ، رابحةٍ أدبًا عظيمًا يعلو بالبشريّ، ولا يتعالى عليه.
كأن سليم بركات يستعيد ذكرى صديقه عبر هذا المقال الرثاء (هو جزء من كتاب يصدر حديثًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر هذا العام 2020، تحت عنوان: لوعةٌ كالرياضيات وحنينٌ كالهندسة) في رياح الغرباء الذين لا يعرفونه حق المعرفة، كاشفًا كل تلك الحمولة الوجدانية بينهما، والتي نضجتْ خلال مراحلَ زمنية طويلة، بدءًا من بيروت 1973، في بيت الشاعر السوري أدونيس، حيث يُؤْثر بركات الانزواء، وتجنّب الشاعر النجم درويش في أوج صعوده، جالسًا خلف «طاولة كتابةِ المُضيفِ البعيدة قليلًا، نُفُورًا»، رغم افتخاره بأنه كتب «رباعيات» درويش الأولى على ظهور أغلفة كتبه المدرسية، مرورًا بحصار بيروت 1982، وكتابة درويش عشرين صفحة من سيرته «ذاكرة للنسيان» عنه، ثم نيقوسيا 1990، في بيت بركات (حيث الاعتراف موضوع المقال)، ثم لقائهما في باريس، وفي نهاية المطاف سكوغوس 2007، حيث خاطِرةُ كتابهِ الأخير ـ حيًّا ـ «أثر الفراشة»؛ لأن ديوانًا آخر صدر لمحمود درويش بعد رحيله، وأثار جدلًا حول احتوائه أخطاءً عروضيةً، وهو ما لم يحدث في دواوينه السابقة، وأعني «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» عن دار رياض الريس للكتب والنشر 2009.
يقول محمود درويش لسليم (والد درويش اسمه سليم أيضًا): «لقد أوجدتَ حلًّا لمُشكلِ الحياةِ كلِّه.. حلولُك لغوية!»، وفي لقاء علنيّ أمام الجمهور في السويد، حسبما يحكي الشاعر والروائي سليم بركات: «كان محمودُ مذهِلًا في تلقائيةِ (اعترافه)، بلا تحفُّظ من شاعرٍ كبيرٍ مثله، أنه جاهدَ كي لا يتأثّر بي»، مُضيفًا: «كانت عروضُه مبذولةً لي بلا انقطاع، حتى ظننتُ، أحيانًا، أنني ابنُه»!

٭ كاتب من سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعادة فلسطين الصين:

    رائع ….

    “إن الإشارة إلى أبوّة محمود درويش، ليستْ حقيقةً وليست خيالًا، إنها لغةُ الخواصِّ يلقيها سليم بركات في فضاءِ العوامِّ، دعابةٌ تسيرُ على حبلٍ شاهقٍ بين نفيٍ وإثباتٍ، القصدُ منها تزجيةٌ لحزنٍ عميقٍ على فقدٍ، لكنها ـ إن شئتَ أيضًا ـ هرطقةٌ طفولية، بين كبيرين وقفا على خرائط اللغة وأسرارِها، موطنًا للإقامة الأزلية، في منطقةٍ تمورُ بتقلبّات الحدود العبثية، خاسرةٍ سياسةً سطحيةً رعناءَ، رابحةٍ أدبًا عظيمًا يعلو بالبشريّ، ولا يتعالى عليه.”

    حقا، هرطقة طفولية

  2. يقول آصال أبسال:

    من المفارقات التي تدعو إلى التأمُّل المعجون بالتهكُّم والاستغراب حقًّا أن نرى “شعراء” و/أو “روائيين” يطيشون حميَّةً من مجرَّد كتابة شاعر كبير /كمثل محمود درويش/ بعضا من المقاطع الشعرية مهداةً إليهم.. فنراهم بذلك يطيشون عن الكثير مما يقصده الشاعر الكبير بين كلماته المنتقاة بعناية فائقة وما وراءها في الحقيقة.. ليت سليم بركات ذاته، وهو الذي لم يصحُ بعدُ من سكرة طيشان تلك الحميَّة منذ إرهاصاتها الأولى، ليته يدرك بالحقِّ والحقيق ما يقصده الشاعر الكبير من عبارات كمثل هذه العبارات من بين أخريات كثيرة يحفظها عن ظهر الغيب، مع ذلك، ولا ريب:
    /وقلبي جمرةُ الكُرْديِّ فوق جبالِهِ الزرقاء/..
    /كلماتُهُ عضلاتُهُ، عضلاتُهُ لكماتُهُ/..
    /منزله نظيفٌ مثلُ عَيْن الديكِ / منسيٌّ كخيمة سيّد القوم الذين تبعثروا كالريش/ سَجَّادٌ من الصوف المجعَّد / مُعْجَمٌ مُتآكل، كُتُبٌ مُجَلِّدةٌ على عَجَل/.. !!

    1. يقول رائد الأسمر:

      تحية تقدير واحترام خاصة للأخت الكريمة آصال أبسال، بكلماتها الثاقبة والمنتقاة بعناية فائقة هي أيضا، تحية لها كذلك على التنويه إلى بعض من الأشياء التي غفل عنها حتى النقاد البارعون والمتمكنون من صنعتهم!!؟
      وبالمناسبة، في هذا السياق، هناك الكثير من القصائد التي نظمها شعراء فطاحل من مثل المتنبي قد ظُنَّت على مدى عقود وقرون أنها “مدائح” حقيقية مباشرة بالأشخاص المعنيين، في حين أنها تحمل بين طياتها ألذع وأقذع أنواع الذم المعروفة في الشعر العربي، والأمثلة على غير قليلة بالتأكيد !!!؟؟
      تحية للأخت النبيهة آصال أبسال مرة ثانية !!؟؟

    2. يقول وداد الصفدي - فلسطين:

      يقول سليم بركات: «كان محمودُ مذهِلًا في تلقائيةِ (اعترافه)، بلا تحفُّظ من شاعرٍ كبيرٍ مثله، أنه جاهدَ كي لا يتأثّر بي»، مُضيفًا: «كانت عروضُه مبذولةً لي بلا انقطاع، حتى ظننتُ، أحيانًا، أنني ابنُه»!
      بالنسبة لمسألة تأثُّر محمود بغيره فأمر وارد ولا ينكره هو بالذات، أما تأثُّره بسليم فهذا الأخير أكيد كان يحلم أو متوهما أو ما زال تحت تأثير الفودكا السويدية، وما شابه… وبالنسبة لظن سليم بأنه “ابن” محمود فأمر غير معقول لا في الحقيقة ولا في الخيال، حتى أن سليم في الصورة وفي غيرها يبدو أكبر سنا من محمود بكثير، رغم أن الأخير يكبر الأول بحوالي عشر سنوات… ومع ذلك، ليس هناك أب عمره عشر سنوات حين وُلد ابنه الأول !!!!!!

  3. يقول سليم:

    المثل الشعبي يقول : لا تصدق شابا تغرب ولا مسنا مات ابناء جيله وما يفهم من هذا المثل ان هذين النوعين من الناس كاذبان فعندما يطلق هذا المخلوق تصريحا كهذا فهو حتما كاذب وقصده ان يظهر على الشاشة مثل كاسر مزراب العين وتصرف كهذا هو ليس الا حقارة فالمتهم لا يستطيع الدفاع عن نفسه وتصريح كهذا لا ينتج عنه الا البلبلة والشك ولكن كل عاقل يستنتج انه كذب وحتى او يكن كذبا وما الهدف من نظر هذه الاشاعة وكانها حقيقةً انما يعلمنا تراثنا ان نذكر محاسن امواتنا ونتغاضى عن سيئاتهم ولكن سليم بركات لا يحترم حرمة الاموات بل ينبش القبور ليبحث عن مساوئ

إشترك في قائمتنا البريدية