رجوعُ الأمكنة «المنسية» إلى الجغرافيا… مَحْوُ البرازخ

حجم الخط
0

صورةُ العالم الأرضي في خطوط الجغرافيا، طولاً وعرضاً، يكتنفها نقصانٌ، فداحتُه ما اجترأَ القادرون على تنازع الأرض إخضاعاً لتقسيمٍ من حصص المُلْكيَّات. قد نفكر في حال العالمِ الأطلسِ، بتجريدٍ، أنه أقسامٌ متنافرة في الغالب، ومتقاربة في قليلها. حالُ التنافر هي تعارُضاتُ الأفكار بين الأمكنةِ معتقداتٍ وأعرافاً، وحالُ التقارب اشتراكٌ من فهْمِ القيمِ، ومن تخاطُبِ الثقافات بقياسٍ يوحِّدُ موازينَ الإيمان بالعقل اختباراً وأخلاقاً، ومن النزوع إلى الثراء في المعاني استئناساً بالعدل حُكْماً وحَكَماً.
الكرةُ الأرضية تجريدٌ جغرافي، أُخضعتِ الخطوطُ فيها للرسم بألوانٍ كُثر، لذا يتخالف النظرُ من قاطنيها «البشر التجريديين» إلى الخطوط نفسياً، كاختلاف المبشِّرين بنكهات النبيذ فاخراً، أو وضيعاً، مما يحارُ فيه «عِلْمُ الذوق» كحيرة العِلم في قوانين الفيزياء الكونية نفْسِها، التي باتت أقربَ طلاوةً في تعابيرها إلى «قوانين الشِعر» ُغير الراسية على برهانٍ، لكنْ تُنجِدها المعادلاتُ الأنيقة، الموافقةُ، في الفيزياء، أختَها البلاغةَ اللغويةَ.
بذلَ علماءُ الجغرافيا، وأمَّهاتُهم من مَعَاهد «نظْمِ» الأشعار الجغرافية، أكيداً من فُقههم القويِّ في رسمِ الخرائط، باقتدار القبض على تفاصيل البرِّ، والمياه، والسماءِ الفقاعةِ محيطةً بكون الجغرافيا الصغير، لكنه لم يكن بذْلاً كافياً من «الجهد الواقعي»: لقد اسْتُظْهِرَ العالمُ بفراغاتٍ أوجبتِ البحث عن «أمكنةٍ مُضافة» تستوفي خللَ الإنشاءِ الناقص. هنا، تحديداً، تبرَّع كتابٌ للنجدة بكلابِ الخيالِ القيَّافةِ آثارَ النقصان في الخرائط. إنهم، في المصطلح خارج المعجم الأليف، كتَّابُ «وصْلِ البرازخ» أو «مَحْوِ البرازخ». الفواصلُ المُغْفَلة سهواً في بناء الجغرافيا، ذاتِ اللُّحمة المتراصة الظاهرِ هيئةً ـ كأنها جُملٌ اعتراضية من الفراغ في «نصِّ العالم» ـ كانت لوعةَ الفَقْد: للأرض لوعتُها من الفقْد مُذ أُنشئت أرضاً. خذلَها التكوين بسهوه عن سدِّ الثغرات بموجبٍ «سحريٍّ» نظاماً لإدارة الأمكنة. ثمَّت اتِّزانٌ مختلٌّ. الأرضُ في اتزانٍ مختلٍّ من «إدارةٍ واقعية» تدَّعي تَرَفاً لا تملكه، وتدعي ثراءً لا تملكه، وتدعي تعويضاً لا تملكه، وتدعي استئثاراً بحلولٍ لا تملكه «الإدارةُ الواقعية». لقد تناسى التكوين، في إنشاء العالَم الأرضي، عنصرَ «الحقِّ اللغوي» الخامس من عناصر المادةِ الأربعةِ الأُخَر. لم يتولَّ إلهٌ مُنشئٌ، أو مصادفةٌ منشئةٌ للأكوان، تعويضَ الأرض عمَّا أنقصَه منها التكوينُ سهواً، أو جهْلاً بمراتب الكمال. كلابُ قيَّافةِ السِّحر تولَّتِ النجدةَ، مثلُها ككلاب الاستدلال بحاسة الشمِّ على ناجيْنَ تحت الأنقاض في انهيار العمارات، والمناجم. رواةٌ سحريون اهتدوا بكلابهم القيَّافة إلى السطور المفقودة من «نصِّ العالم» كاهتداء الكلاب إلى الكمأ لا دليلَ عليه في مخابئ الباطن. وقد سلكوا في كشوفهم الإضافاتِ إلى الجغرافيا، وكشوفهمِ الغوصِ على ما احتالت الجغرافيا العلميةُ في إخفائه من الأصول، حيلتيْنِ متفرِّعتين من مَنْبَتِ الخيال الواحد:
الأولى: استعارةُ موضعٍ من «الأرض الواقعية» لتأسيس الإضافات.
الثانية: ابتداعُ مواضع خارج «الأرض الواقعية» ذات المعالم المرسومةِ تضاريسَ مُعْلمةً بخطوط الامتلاك السياسي. أيْ: إنشاءُ أرضٍ موازيةٍ، كسماءٍ فوق سماء الواقعي، هي جَبْرُ البرازخ من الانقطاعات في حدود العالم؛ أوْ وضْعُ السطور الناقصة من «نصِّ العالم» في الفراغات التي أُهْملَ مَلْؤها من تاريخ الجغرافيا.
الكلامُ نظريٌّ بغالبٍ عليه من التجريد المحيِّر، يلزمُ نقلُه من «فوضى» غموضه إلى «نظام» وضوحه. وهو أمرٌ أوْكِلَ «الخلْقُ اللغوي» أن يثبِّته ببرهان العقلِ الموازي ـ عقلِ التسليم بالأصل الخيالي لنشوء الإنسان في أساطير ارتقائه من «اقتصاد الخلايا العضوية» إلى «اقتصاد المعاني». فلْنسألْ مَطْلَعاً: ما الذي ألْهَمَ الإغريقَ ترتيبَ مقاماتِ الآلهة طبقاتٍ واختصاصاتٍ لم تخرج عن السياق الاجتماعي المعهود في أعراف الإنسان تصنيفاً للطبقات، وترتيباً لمواضع إقامتها؛ أيْ: استعارةُ مجتمع «الأرض الواقعية» مِثالاً بالذي فيها من العَلِيِّيْن الأسيادِ متفاوتين عقولاً وأفْهاماً، تدرُّجاً إلى «الوضيعيْنَ» كما في مراتب أهل الهند، و»الدُّونيين» في بعض مراتب الكيانات العربية؟
هذا نصفُ السؤال الذي حقيقةُ طرحه هو نصفُه الآخر: أيْ المكانُ الذي رتَّبه خيالُ الإغريق لإقامة الآلهة باستعارة من الجغرافيا هو جبلُ أولمبوس. إنه ما سنجد فيه تأسيساً للإضافة، أو للتعويض عن النقصان في «مجتمعٍ كونيٍّ» قصَّر التكوينُ عن إتمامه، أو سَهَا عنه، أو أغفله.

الدِّينيُّ

المكانُ الذي يلي جغرافيا «الإقامة الواقعية» للإنسان، هو البُعد الآخر المحتجب من أبعاد الأرض المستَظْهَرَة. إنه مكان «ما بعد الأرض» في «حدود الأرض». أيْ: تأسيسُ «المجتمع الكوني» بما توسَّطت الأديانُ إلى صوغه تحسُّباً لـ»ما بعد النهاية». نعني القيامةَ ـ أُمَّ الحقائق التي أقسَرَتِ الزمنَ كلَّه، السابقَ عليها، أن يتوكَّل بما يملأ أَهْراءها من غِلالِ «حقيقة الإنسان» وجوداً، ومعنى، وأفعالاً ملتزمة بشروط الثواب والعقاب في قادمِ وجوده الجديد ـ الوجودِ بعد الموت.
غير أنَّ هذا التظهير للمعادلة، تعويضاً عن نقصان «الأرض الواقعية» تظهيرٌ لغويٌّ أوْقَفَه كلُّ دينٍ على «كتابه» المقدسِ ـ الرَّاويةِ سيرةَ الكليِّ من غايات النشوء، ومِن، إلزام السيرورة بميزان الأقدار. الأديان هي أصل التبديل في مقادير الأبعاد الجغرافية إذن: لقد ثبَّتت بين خطوط الطول والعرض فيها مكانين، لا يستقيمُ عقلٌ إلاَّ بالتسليم أنهما جلالٌ في الإمتاع يُدعى «الجنة» وهَوْلٌ من عواقب الأفعال المارقة يُدعى «الجحيم». مكانان ليسا كالأمكنة حَسْبُ، على الرغم من تطابق العناصر فيهما نعيماً وعذاباً بعناصر «الأرض الواقعية»: تأسيسُ أطلسهما يبدأ من ترسيخ «جغرافيا الإيمان» في العقل ذي التسليم مُطلقاً، وفي القلب المُنشَدِه ببزوغ الإلهيِّ عليه. هذا الأطلسُ ـ الإضافةُ لا تتوقف امتداداتُه، من ثم، في العقل والقلب «المؤمنيْنِ» بلا ظنونٍ قطُّ، بل يجرف كلَّ موضعٍ آخر، مستحوذاً على «الأطلس الواقعي». تحديدُ «التعويض الديني» عن نقصان الأمكنة في الجغرافيا، بإضافاته، بلاهةٌ إنِ اجتهد عقلُ الشكِّ في استقصائه. الأديان نفسُها لم تتصرف بإنشاء الصِّور لطبيعة «ما بعد الأرض» في مكانٍ أرضيٍّ. إجراءاتُها تجريدية. على الإنسان أن يلوِّن الفراغات بمُتَع من الاستغراق الحسيِّ (كالإسلام) والاستغراق الروحانيِّ مُطلقاً (كالبوذية) والاستغراق الروحانيِّ التصويري (كالمسيحية).
استحدثت الأديان للجغرافيا «قدسيةً» حَجَبها النشوءُ الطبيعي، أو أرْجأها حتى مبعثِ الأديان، لتصير هذه القدسيةُ «مُلْكيةً» في تقاسُم الأرض حِصَصاً منفصلة هي الدول، أو متصلة كبعض المدن (القُدسُ مثلاً) يتشاركها أكثر من دِينٍ. كلُّ نِسْبةٍ في هذه الملكية تزيدُها الحروب، أو تُنْقِصُ منها. «جغرافيا القدسيِّ» المستخرجة من الباطن إلى الظاهر، جليَّةُ الكيان بخطوط الإيمان طولاً، وبخطوط اليقين عرضاً. إنها أطلسٌ من «حقائق» العقل في رسم الخرائط أبعاداً وحدوداً. إنها أطلسٌ «إضافةٌ»؛ «تعويضٌ» عمَّا سَها «الخلقُ الطبيعي» عنه في سياق النشوء الذي ترفَّعت فيه مقاديرُ الكيمياء والفيزياء «الخالقتيْنِ» عن أسانيد الغيب، ومَصادرها الراكنة إلى الأصل الإلهيِّ للنشوء. الأديان تعويضٌ لغوي، أو «خلْقٌ» لغوي قبالة «الخلْق الطبيعي» من تضاريس الأرضِ المادَّةِ، وكياناتها السياسية. يماثلُها ـ ببعض المزاحمةِ ـ الخلْقُ الأسطوري للمكان، و»الخلق الخرافي» و»الخلق الروائي» و»الخلق الشعري».

الأسطوريُّ

في حذرٍ نتغافل عن إلحاق الدِّين كنصٍّ بالأسطوري، بعد وَسْم طبيعته بـ»خَلْقٍ لغوي» يوجبُ الكمالَ المأمول لإتمام النقصان في جغرافيا «الأرض الطبيعية» تضاريسَ وأهويةً مناخاً. سنُبقي ما للأسطوريِّ صِرْفاً حقَّه من مصطلحه في تعويض النقصان الجغرافي بمددٍ من «اختراع» الأمكنة الكُثر، نأخذ منها قليلَها:
1ـ هاديس (Hades):
إنها جغرافيا «العالم السفلي» التي أوكل فيها هوميروسُ قاتلَ ميدوزا برسيوس بمهمة الدليل في مسالك الجحيم. «سياحة» بين معالم الرعب الأثرية: أنهار الموتى. سيربيروس الكلب ذو الرؤوس الثلاثة. المتاهات. الاحتجاز بلا مَخرج. لم يكن في «الأطلس الواقعي» بكل تضاريسه من الأقاليم الدولِ، والمَشاعات، والمياه، متَّسعٌ يعتمده هوميروس من مصادر «العقل الثاني» ـ عقلِ تأويل الملغزِ بسندٍ سحريٍّ، فاستقاها من خياله، أو استقاها متداولةً في عصره. أخذ «عمَّاله» ومَسَّاحِيْ أبعاد الأمكنة، إلى أسفل الأرض الظاهر، مستحدثاً «جغرافيا السفليِّ» ـ موضعَ الكنوز والرعب معاً: كنوزٌ معادنُ، وحجارة من نفائس الحجارة، ورعبٌ من انزلاق الموتى إلى هاوية الظلام مدفونين، يستيقظون على مآزقَ هي أجسادُهم المعتقَلة.
اكتملتِ الأرضُ الناقصة «خلْقاً» بنصفٍ من سطحٍ ظاهر، وبنصف من السفليِّ الباطن. السريُّ السحريُّ، المُلغزُ، يُشْهَدُ معلوماً بخطوط طوله وعرضه في خريطة «النشوء الكليِّ».

2 ـ فالهالا (Valhalla):
«جغرافيا عالم المحاربين» الشهداء، يحلُّون ضيوفاً على رب الأرباب أودِن، الأسكندنافي المَنْشأ من خيال الأساطير. فالهالا ليست أرضاً، بل قاعةٌ في منزلٍ من عمران «العالم الآخر» سقفها مصفَّح بالدروع. لا وصفَ لأرجائها أبعاداً وزخارفَ وأطْليةً. تقشُّفٌ ثراؤه هو الولائم من الخنانيص المشوية على كرْعٍ للخمور من قرون الحيوانات. «التعويض» هنا عن «جغرافيا الواقع» تحقِّقه «جغرافيا دخان الشواء» وجغرافيا الحضور الجليل للإله أودِن المنتسب بجذور المعنى في اسمه إلى «الغضب» وإلى «الشعر». (نَسَبٌ مُدهشُ الاشتراك بين الشِّعر والغضب). إلهٌ يستنطق الموتى، وُجِدَ متدلياًّ من «شجرة العالم» تسعة أيام، برمحه العالق بين الغصون؛ أو ـ كما لا تذكرُ الأسطورةُ، بل نستنطقُها خفيَّها بالفراسةِ ـ معلَّقاً إلى التسعِ الأغاني أنجزها قلبُه في وصف «العالم». إلهٌ يُقتل في «جغرافيا الختام» الكونيِّ ـ أرضِ المعركة النهائية الأرماغيدونية.

الخرافيُّ

«التعويض الخرافي» شأنٌ آخر أيضاً من أنساق «الخلْق اللغوي» للجغرافيا الوهمية، وراء ستارٍ رقيق من سُتُر «جغرافيا الواقع»:
1ـ جزائر «الواق الواق» تشبه جزائر الأرض: يابسةٌ طافية على المياه محيطةً بأركانها. لا تحديدَ بخطوط طول أو عرض على أطلسٍ يحويها، سوى أنها في موضع من الشرق الأقصى «الغامض». مستشرقون تحيَّروا في أمرها بإسطرلاباتهم الراصدة أبعادَ «الواقعيِّ» فأخطؤوا التصويب. كان عليهم قراءة أرقامٍ «سحرية» إلى جوار الأرقام على ألواح آلاتهم الكشافة مسالكَ البحار. جزائر الواق الواق كانت على بُعد أشبار من قياساتهم، طافية في «جغرافيا الوهم» ـ التعويضِ اللغوي عمَّا أهملتْه خرائطُ الظاهر من أقاليم الأرض. حيرةٌ أخرى تراكمت من غفلة الجغرافييْنَ عن عنصر «التعويض اللغوي» للخرافة عن نقصان «الواقعي». اختبَلتْ قياساتُهم: أساكنو الواق الواق بشرٌ صينيون، أم بشرٌ يمنيون؟ تساؤل يثير الشفقة، لأنهم لو خفضوا أبصارهم إلى المياه، تحت فُلْكِهم، لرأوا سكانَ الواق الواق كائناتٍ على صورٍ يعرف الإنسان أنه لم يمتلك كمالَ أشكالها.
2ـ سهلٌ بلوغُ الفضاء المُضاف إلى الظاهر «المتعاكس» في مرآةٍ: «الإنسانُ قُبالةَ الجنِّ في المكان «الواقعي» الواحد. البرزخُ يتلاشى. الحدودُ متقابلةٌ ظاهراً إلى باطنٍ، واقعاً مرئياًّ، وواقعياًّ خفياًّ هما وجها عُملةِ الوجودِ «التعويض». الإنسانُ والجنيُّ في «جغرافيا الخرافة» واقعيةٌ تشاركيَّةٌ. ألم يقُلْ رئيسٌ إيراني أن A.I.C تبحث عن المهدي لتؤجل ظهورَه؟ عند أهل الأرض «الواقعية» اهتداءٌ إلى «أطلس المحجوبات». نصوصُ خلْقِ «الإضافة» إلى جغرافيا الأرض موزعةٌ شتَّى على كل «منطقٍ» شفهيٍّ، وديني أيضاً. جنٌّ أخيارٌ، وأشرارٌ؛ رُسلُ رعبٍ أو حظوظُ هناءةٍ. أمكنةٌ تسير إلى جوار الإنسان بخطواتٍ من خياله، اعتقاداً بعدلِ «المناصَفةِ» يتقاسمها الخفيُّ بكائناته مع الظاهر بكائناته، على أرض واحدة. كان «نصُّ الإضافة» الخرافية شفهياًّ تَواتَرَ بين شعوب الإنسان، ثم حالفه التأييدُ من النصِّ الديني بأخبار صريحة عن أمكنة الجن، وأفعال الجن، وأشعار الجن، ومعتقدات الجن. إنه ثراءٌ آخر من التعويض عن نقصان الجغرافيا الواقعية.
3ـ تسير اختصاصاتُ علماء التشخيص في أنساب الإنسان، وأعراقه، بين حقبة وأخرى، إلى تبديل المعاني بخروج سياقٍ سابق على نفسه في سياقٍ لاحق. مَثَلُ الأمر أن تُستبدلَ امرأةٌ في حكايةٍ عن لسانِ راوٍ برجُلٍ في الحكاية نفسها عن لسانِ راوٍ آخر. التباعد الزمني بين سردٍ هنا وسردٍ هناك يستحصل تغييراً، أو تبديلاً. وهو ما نشهده جارياً في أيامنا، من الاحتفال بانتصاراتٍ لم تكن إلاَّ هزائم، ومن تعظيم مآثرَ لم تكن إلاًّ إخفاقات، ومن دول فكاهية في الشعاراتِ الوهمِ تقشعر منها جلودُ المآسي احتقاراً: منتهى خرافاتها أن إحداهن ستزيل دولة أخرى في سبع دقائق ونصف الدقيقة بلا زيادة أو نقصان. (إيران توعدت إسرائيل).
يأجوجُ وماجوج إسمٌ نَسَبَه مؤرخون إلى شعبٍ من الشرق، باهتداءٍ ضئيل من آثار العمران المندثر. نصوصُ العبرانيين وثَّقتهم جحافلَ مروِّعة (أكلة لحوم البشر). أيَّدتهم نصوصُ الإسلام في ذلك: هم خليطٌ من أممٍ سُكْناها الجغرافيا وراء «البوابات البرازخ». موعدُ «الأرض الواقعية» معهم موعدُ اجتياح العالم، فالمعركة «النهائية». «جغرافيا الإضافة» إلى أطلس الأرض هي بعضٌ من إقليم ياجوجَ وماجوجَ ـ الكائناتِ الموعدِ مع القيامة الأرماغيدونية: النزال بين جبابرة الخير وعمالقة الشر.

سيلتقي روائيُّ اليعاقبة (المفتَرض) في «التعويض» بإعادة الملوك وحدهم إلى «جغرافيا الحُكْم» مع توأمه روائيِّ الجهاد في تعويض جغرافيا الواقع نقصانَها، بإضافاتٍ كُثر من «الجغرافيا الإلهية» هي «الحقُّ» اعتراضاً على «ضلال النشوء الطبيعي» للأرض.

الرواية

لو تكفَّل أحدُ اليعاقبة من مَوَاضي القرون، بتعويض الجغرافيا الواقعية ما تفتقده من كمالٍ بـ»الخلْق اللغوي» لَمَا اكتفى برواية «يصحح» بها شقاءَ «الأرضي» مما لحقها من إذلال «الجمهوريات» لمعنى الحُكم برؤساءَ منتخبينَ، ومجالس نوابٍ تعترض وتصوِّب، وانتخابات لاختيار «الأصلح». (نعني الأمورَ الشديدة الاستعصاء فَهْماً على الجغرافيا التي نحن منها سياسةً وشعوباً). لربما يتقاطع احتقارُ اليعاقبة مع احتقار الأصوليات لهذا كله. أنكر اليعاقبةُ الحُكْم لغير الملكِ ـ وريثِ الحق الإلهي، كإنكار «جغرافيا الجهاد» بعدهم بقرون، حُكْماً لا يستحصله خليفةٌ لـ «الأمة».
سيلتقي روائيُّ اليعاقبة (المفتَرض) في «التعويض» بإعادة الملوك وحدهم إلى «جغرافيا الحُكْم» مع توأمه روائيِّ الجهاد في تعويض جغرافيا الواقع نقصانَها، بإضافاتٍ كُثر من «الجغرافيا الإلهية» هي «الحقُّ» اعتراضاً على «ضلال النشوء الطبيعي» للأرض. «الهداية» تُستوجب نشوءاً آخر للأرضيِّ في جغرافيا «الفعل الدينيِّ». ذِكْرُ اليعاقبة استطرادٌ زائد، ربما، في الوصول إلى «الفابيين» من قرننا السابق، ضاقت اشتراكيتُهم بمصطلحات «صراع الطبقات» و»الحتمية» الاجتماعية (الإلهية إنْ تُرْجِمت) لانتصار طبقات على طبقات. قومُ «الاشتراكية الفابية» التي أسسها برنارد شو (نسبةً في المصطلح إلى الجنرال الروماني فابيوس، الجدير بالثقة في خطط الاستنزاف اتَّبعها ضد هنيبعل القرطاجنيِّ) لم يبلغ بها نقدُ المصطلحات الاجتماعية للصراع إلى إعلاءٍ للنَّبالة، أو لحقوق وراثةِ الحاكم. لربما تعرَّج بنا التوضيحُ في «حقِّ اللغويِّ» الروائي عن السلوك إلى الغاية من أدبه: روائيُّ «المَحْفِل الفابي» (والاشتراكية الفابية) عوَّضَ الجغرافيا الواقعية نُقْصانَها باستظهار جحيم المستقبل على حافة العالم الراهن. لكنها جحيمُ السيرورات «المعقولة» في استظهار العالَم صِراعاً للطبقات على غير المعهود من نظرياته الاجتماعية. الإنكليزي هربرت جورج ويلز «الفابي» يقسِّم خريطةَ الصراع برسْمها في المساحات النقصان من خرائط الأمكنة. روايته «آلة الزمن» خطوطُ طولٍ وعرضٍ لـ»تَقَابُلِ العوالم» على مظْهَر الثنائية: جغرافيا الظاهر هي البشر المتنعِّمون ـ الاستئثارُ بالرفاهة؛ وجغرافيا الباطنِ هي البشرُ الكدْح في الأقبية الجوفية، مدبِّرو حاجات الطبقة العليا، الراكنة إلى اعتمادٍ عليهم مقابل الغذاء من لحومهم. لم يتطرَّف هـ. ج. ويلز في رسم خريطته «الإضافة» إلى أطلس الأرض. المستقبل، في سيرورته الاجتماعية، رهينة الانشطار إلى عالمين كحاصل الزلازل في توليد الصدوع. إنها فردانية الروائي الإنكليزي «خَلْقاً باللغة» لتاريخٍ حقيقي «آخر» يبدو التاريخ المُعتَمَدُ بتوثيقه اجتماعياً من الأكاذيب. مزاجُ «الأرض المقبلة» الموازية، مزاجٌ معتكر. اشتراكية ويلز لا تنحو إلى «تجميل» لـ»الحتميات» في الصراع، كانصراف السياسة في الصراع إلى «تجميل» أطلس العالم بضمِّ دولٍ لجزائرَ متنازعٌ عليها في البحر، تلغي ثقافةُ المسيطر ثقافةَ القاطنين قبله. مِثْلُ ذلك كـ»تطهير» المعالم رغبةً من المسيطر في نقلِ «مُلْكية الجمال» إليه، أو استبدالها على قياسٍ من حقيقة يقينه: لقد اسْتُرجِعتِ التحفةُ الأثرية «آيا صوفيا» من أطلس الجمال مشاعاً إلى مسجدٍ من «أطلس» الجمال الحكْر على الإيمان الإسلامي.
عطْفاً على العرض السابق، سنتوسل تلخيصاً آخر لِمَا يستحدثه «الخلق اللغوي» من جغرافيا مُضافةٍ في رواية «أورلاندو ـ السيرة» للأنكليزية فيرجينيا وولف. لربما نتراجع قليلاً عن وصف الأمر على معنى «الإضافة الجغرافية» مذ يبدو أقربَ إلى الزمن كتعويضٍ عن تاريخ الجغرافيا، عبر إلحاقه بسيرة إنسانٍ وليس بسيرة الأطلس الأرضي. «أورلاندو» شاعر «متحول» من رجل إلى امرأة (سياقان من تلازم الذكر والأنثى جنساً). يعيش ثلاثمئة عام. تصنيفُ لُغزه يسير بالنُّظَّار إلى عرضِ الشعر والنثر تقصَّدتْه وولف على مذهبٍ هزليٍّ قد نستحضر به ـ بلا حُكْمٍ جازم في المقارنات ـ دون كيخوته للإسباني سرفانتس (أوْ ثربانتس) الساخر من أدب الفرسان. «أورلاندو» ذكرٌ في جسد أنثى، بتفكير لا يتغير من «تصرُّف» الذكر ورغائبه. محوُ «البرزخ» بين جنسين في جسد واحد «ترتيبٌ» لأطلس آخر في «الواقعية الجندرية» عبر تاريخ من طبقات المجتمع الإنكليزي، وتاريخ من الأشعار. أسفار أورلاندو مقامُها سَعَتُها الزمنية على أطلسٍ من ثلاثمئة عام. رحلات مثيرة من إلزام الخيال «الأرضَ الواقعيةَ» باقتفاء نهجه للوصول إلى «تعويضٍ».

جوناثان سويفت، الإنكليزي الإيرلندي سبق فيرجينيا برحلات الهزل من «جغرافيا» السياسة في مجتمعه. كَّشَّافُه إلى المَجاهل هو «غاليفر» الذي يستحصل للعالم «امتداداتٍ» في جغرافيا اللغة باكتشاف أراضٍ فاتت أمريكو فيسبوتشي، وفرناند ماجلان، وكريستوفر كولومبس، أن ترسو سفنُهم في مضائقها. لقد بلغ «غاليفر» الكشافة، في «رحلاته» أرضَ العمالقة، وأرض الأقزام، وأرض الخيول المفكِّرة، وأرض العباقرة المفكرين. كلمة «الأرض» موازيةٌ في الخلق اللغوي لـ»أرض الواقع» بتعويضها النقصانَ الجغرافيَّ. رحلاتٌ أكثر ثراءً في «الإضافات» إلى الأطلس من الفرنسي اللاحق جول فيرن، الذي يستعير، بشيء من الكسل، جغرافيةً قمريةً مستنسخة من جغرافية الأرض بزواحفها المنقرضة، وببشرها المجتهدين في حِيَلِ البقاء. رحلة جول فيرن إلى القمر رحلة أرضية. رحلة من تعويضٍ «ناقص». لكنَّ المحاولة تُحتَسب له في صعوده إلى الكوكب الفضي بلا مسبارٍ أو صاروخ، بل بـ»تدحْرُجٍ» فجائي للأجساد عبر «البرزخ» فسقوطٍ من الأرض على القمر، كأنهما ليسا كوكبين في فَلَكٍ من أطلس الفضاء، بل أحدُهما معطفٌ يرتديه الكوكبُ الآخر. سنذهب إلى مصدرين آخرين من جواذب «تعطيل الزمن» في جغرافيا الواقع، استلحاقاً بـ»أورلاندو» وولف، إبن الثلاثة القرون عمراً، هما «شانغري ـ لا» (Shangri – La) الأفق المفقود، للبريطاني جيمس هاملتون، و»نيفرلاند» (Neverland) جزيرة الأرضِ الخيال، للروائي الإسكتلندي جيمس ماثيو باري. الأشخاص لا يكبرون في الروايتين: نعيمُ «شانغري ـ لا» أرضٌ في موضعٍ «مضاف» إلى جغرافيا جبل كونلوم، في تيبت (يزعم البعض أن ستالين أوفد جواسيس للعثور عليه). وادٍ للسلام الأسطوري، والسكينة مطلقةً بلا زمن. لربما استندَ هاملتون في «الخلْق اللغوي» لذلك الوادي إلى تاريخ المكانِ ـ المملكةِ الروحانية في حقبةٍ من أساطير البوذيين. المقيمون هناك لا يشيخون. شبابٌ أبدي، لكنه ينتهي بـ»قصف» من المأساة يعيد الزمنيَّ الجائرَ إلى إدارة المكان. أيْ: يرجع الانحلالُ العضوي إلى سابق خريطته قبل «الإضافة». نعيمُ «نيفرلاند» جزيرةُ أطفال، يعكِّر زمنَها «البريء» المتوقفَ عقاربُ ساعاته على أَلَقِ المغامرات، قراصنةٌ غزاة. الأطفال هم الترتيبُ الجديد للأطلس «السعيد اللازمنيِّ» إلى جوار أطلس العالم المتناحر. والقراصنةُ انتقامُ «الزمنيِّ» من خروج «أطلس الخيال» على سلطانه. النهايةُ سعيدة: الطفولة تنتصر باستتباب الأمن في جغرافيا «الجزيرة المتخيَّلة» ـ صنيعةِ الخلْق اللغوي. قد نعرج هنا على «سيد الخواتم» للبريطاني جون تولكين، صاحب الرواية المتاهة من «الخلق اللغوي» للعوالم «التعويض» عن مفقودٍ من «نصِّ العالم». لكل جغرافية منها إسمٌ يوازي خطَّ طولٍ، أو عرض، على خريطة الواقع الكبرى، وعلاماتٌ من تحفيز أحلاف الأرض مَسِيراً إلى المعركة النهائية (القيامة الأرماغيدونية).

المصطلح أعلاه يعني الخلْقَ الدائم للأطلس بوساطة اللغة. لا حاجةَ إلى برهانٍ، أو تبريرٍ، أو ترويج. الشعريُّ، أبداً، خلاصُ «الواقعيِّ» ليس بتجميله، أو تحسينه، بل بإعطائه «فرصةً ثانية» ليستعيد توازنَه على حَبْلِ أطلسهِ «الواقعي». استعارةُ الأمثلة لن تنهي. الكثرةُ تُوجِبُ الاختزالَ إلى أقلِّ قليلها.

السياق الكبير عند تولكين هو عبورُ الجحيم. رمزيةٌ صِرْفة من اقتحام «الخلْق اللغوي» لـ»نصِّ العالم» كي يستعيد معناه في «أطلس الخير» الأخير. «جغرافيا الشر» على سَعةٍ يعْرَقُ الخيرُ من النظر إليها بعيون أحلافه: المخلوقاتِ وأشكالها المتنافرةِ؛ اللغاتِ الطلاسمِ؛ البدائعِ والبشاعاتِ؛ الجهاتِ على أنساقٍ «قوطية» (Gothic) فوق أحفة الجروف جبالاً وصدوعاً، وانخسافاتٍ أرضيةً. وفي الرواية أصواتٌ من إتقان الهلع نطْقَ حروف الكون مُذْعِرةً.
«منتصفُ الأرض» هو «الشعار» لحشد الوقائع في جغرافيا نخالُها «معلومَةً». لكنه «منتصفٌ» بلا أرضٍ في الأرض. فضاءٌ مشاعٌ للَّعب اللغوي خلْقاً للمصائر، وللشعوب، وللأبعاد الزمنية في «تاريخ اللامعقول المروَّض». تولكين فقيهٌ لغوي: أيْ: صاحبُ أطلسٍ يستطيع نشْرَ ظله فوق كل أطلسٍ. غرائبيٌّ: أيْ: مجنونٌ من السائرين في ترجمة الخياليِّ إلى «واقعيةٍ». «التصرُّف» المُحْكَم بمقادير الإقناع، عبرَ ترابطٍ في منطقٍ يخصُّ الخيالي، هو صناعتُه للأسطورة. ترابطُ «المنطق» في «الخلْق اللغوي اللاواقعي» ينجيه من السقوط في وَهدة الخرافة. لقد أُخذ «منطق» تولكين في «سيد الخواتم» بالحسبان، وبُنيت عليه «ذائقةُ» القبول بحقائقَ أُخرياتٍ في «نصِّ العالم». وهو أمرٌ يلامس ما يحشده «الدينيُّ» من «منطقٍ» لأساطيره كحقائقَ معصومةٍ من أحكام البراهين. الطريق من جحيم «منتصف الأرض» إلى المطْهر، في المعركة النهائية، لا يشبه جحيم دانتي أليغيري في «الملهاة الإلهية». الهولُ الذي «يبتكره» تولكين إبداعاً للعبور إلى المطهر، في المعركة النهائيةِ، ليس كالهول «لطيفاً» عند دانتي، الذي يؤثِّث العبورَ إلى مطهره بالمحاورات لطيفةً في الفلسفة، وأصول الحُكْم، والمعتَقَد. «جغرافيا» تولكين سَحْبُ طبقاتٍ من تحت «أطلس الواقع» و»جغرافيا» دانتي كُرَّاسةٌ من الإرشاد «السياحي» إلى «المعالم الجليلة» بين أروقة «المَحاكم السفلية» القائمة على الأسس ذاتها لأبنية «المَحاكم الأرضية». لكنها سياحةٌ من مآثر الخيال في «نظْمِ» الصور تحت إشراقٍ من إيقاعات الشعر بلا ترنُّمٍ بها.

الشعريُّ

المصطلح أعلاه يعني الخلْقَ الدائم للأطلس بوساطة اللغة. لا حاجةَ إلى برهانٍ، أو تبريرٍ، أو ترويج. الشعريُّ، أبداً، خلاصُ «الواقعيِّ» ليس بتجميله، أو تحسينه، بل بإعطائه «فرصةً ثانية» ليستعيد توازنَه على حَبْلِ أطلسهِ «الواقعي». استعارةُ الأمثلة لن تنهي. الكثرةُ تُوجِبُ الاختزالَ إلى أقلِّ قليلها. فلْنأخذْ «خلْقيْنِ لغويين» (بالاعتذار عمَّا لن يبدو ، ربما ـ ربطاً). الأول كلمة مركَّبة، غامضة: «سان ـ تي» (San -Ti) تسقَّطتْها اللغةُ الصينية من الحروف المتدرِّجة نظاماً عمودياًّ في الكتابة. أصلٌ يُحتَكَم إلى معناه في اللاحقِ من صَرْف المعنى: إنها تسمية تندرج فيها «فنون القتال» (Martial art) كالجودو، والكاراتيه، والجوجيستو، إلخ. ما الرابط بين المصطلح وأمورٍ من الرياضةِ الدفاع عن النفس؟ «الإصغاء» إلى «ثلاثياتٍ» من صور «الخلْق الكوني» يُقرِّبُ سَمَعَ العقل من صوت الروابط: «سان ـ تي» هي شموسٌ ثلاث، مترادفة على قُربٍ إحداها من الأخرى، في فضاءٍ واحد. موضعها هو موضع «القُوى الثلاث» في «أدب الكون الشفهي» التجريدي، المتخيَّل خارج نظام المعقولات من تجاوُرِ النجوم، ولوازم التوازن بالجاذبية بُعْداً وقُرباً في «أشعار الفيزياء» الفَلَكية. «سان ـ تي» تعويضٌ عمَّا لا تعرف الفيزياءُ ـ بعْدُ ـ كيف تعوض عن نقصان» نصِّ الكون» بسطورٍ من تعريف مُعَلِّمي «فنون القتال» لدفاع الإنسان عن «كونه الصغير» ـ جسدِه.
المثال الثاني هو «زانادو» (Xzanado). إسمُ عاصمة أنشأها واحدٌ من خانات المغول الأكابر «كوبلي خان». تحريفٌ خفيف عن الأصل «شانجدو» وثَّقه الشاعر الإنكليزي سامويل كولريدج في «منامه». ما معنى «التوثيق في المنام» أيْ: حِفْظُ مادةٍ في سياق حقيقتها، للإطلاع عليها مضبوطة بتأريخ زمني؟ «التوثيق» هو من خصائص الفعل في الواقع، على وقْعِ حاصلٍ من الحوادث الواقعية. فكيف لشاعر أن «يوثق» حَدَثاً في منامه، مدوِّناً نصاًّ على «كمال» الإنشاء؟ تتابعت قصيدةُ «كوبلي خان» بأكملها «إشراقاً» على خيال كولريدج وهو نائم. سطَّرت يدُ الوجودِ الحلمِ الأثيريِّ وصفَ العاصمة الفاتنة (قبَّةِ الملذات) «زانادو» على صفحاتٍ من «ورق اليقظة» في منام الشاعر، الذي أحالَ بعضاً من «الإشراق» إلى أثر الأفيون تعاطاه. ها هو، إذن، التعويضُ عن «جغرافيا اليقظة الواقعية» الناقصةِ حدوداً، بـ»جغرافيا الحلم التسجيليِّ» الأمين.

أمَّا بعدُ

هذه خُطاطة من مطلعٍ قد يُسْتكْمَل بحثاً عن يدِ دارسٍ، مُذِ المصادرُ في «التعويض» عن نقصان الجغرافيا الواقعية، و»الإضافة» الممكنة إلى «نصِّ العالم» كَثيرةٌ لا تحصى من نصوص «الخلق اللغوي» لأمكنة تُجاورُ أمكنةَ الأطلس الأرضيِّ، و»الخلقِ اللغوي» للتاريخ موازياً سيطرةَ السياسة على التاريخ. مَن يدري؟ قد يصل الدارس إلى استنتاجٍ مُلْغز، أو ظريفٍ محتَمَل: عالمُنا «إضافةٌ» واقعية إلى «الخلْق اللغويِّ» لكنه ليس تعويضاً عن نقصانٍ، أو إضافةً إلى الخيال الأمينِ معارضةً للحتميات في مذاهب الصراع؛ ومعارضةً لفهْمِ العالم كمعطىً نهائي في صورته «الوثائقية». الأرض ليست كما ترونها، ولم تكن كما رأيتموها: ذلك شِعارٌ سيتولاه الذكاءُ الاصطناعيُّ ترويجاً لمستقبل الحقائق «الطبيعية».

كاتب سوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية