سامي عبد المنعم: أزميل الشعر للتحريض على فجاجة الواقع

حجم الخط
0

فعل الكمون الشعري ومجرى جاذبيته

واضح أنَّ كلَّ لهجة مواكبة للعصر تنبثق من ظواهر جمالية لسانية بنيوية، والشعر في حقيقته منتجٌ بنيوي أو قضيّةٌ جوهرية أو كينونة وجودية، وليس هناك شاعرٌ أكثر بنيويةً ودُربةً لتوليد الحروف من اللهجة العامية المنطوقة لإغناء اللغة الفصحى مثل الشاعر سامي عبد المنعم، في تجسيده المضمون الجمالي المشحون بالرموز والدلالات والايحاءات، وهو يخوض تجربتَهُ منذ بواكيرها مكافحاً صنديداً في سبيل استبطان الفكر الثوري في إطاره العميق لاتّساع دلالته وديمومته.
وإذا كان الشعرُ يسعى إلى استنباط الخصائص البنيوية، فإنَّ أشعار سامي عبد المنعم تقوم على كياناتٍ تستشفُّ تقنياتها من البنى الإيقاعية الداخلية الزاخرة بالاستعارات والمجازات والدلالات، هكذا إذن تتجلّى القيم الجمالية البنيوية بوجود مكوّناتها الدلالية يمدّها الشاعر برؤاه وخيالاته وفلسفته لاقتناص معانٍ أوسع عمقاً وبلاغةً مما يتصوّره عقل القارئ مهما كان متمرّساً في قضية التلقّي.
ربما يمكننا أن نستقري عاطفةَ الشاعر من ركام الواقع وتناقضاته الجدلية، ما دمنا نستطيع أن نثبت بالدلالة انحيازاً واضحاً يسوقنا إلى التجديد وهو وليد الرؤية الحداثية في حقل توظيف القضايا الفكرية المولّدة للسمات الشعرية، فالشاعرُ يحيلنا على أنساقٍ إيقاعية من مخزون ريفي يستند إلى حدث جوهري يعتمد في استدلاله على رؤيةٍ دلالية وخصوصية شعبية ووجدان صوفي بحت يحملُ شجناً..
لكن قد تصبحُ الرؤيةُ استاتيكيةَ المنحى إذا لم تخضع تماماً إلى صيرورة التطوّر، وقد يتعذّر انعتاقها من ربقَة التنميط وأغلاله، كمسخ يستدعي تنويع مستوياته اللغوية، ولا يمكن التنبّؤ بالصيرورة الثورية ما لم يخاطر الشاعر بنشر بذور التطوّر ويعزّزها بالجمال الإنساني المرهف ليسقي مداميك القصائد ببنيةٍ حداثية، محوّلاً تلك الجدلية إلى طاقة للبوح العاطفي والانسراب من أسار التقليد والجمود الفكري والتنكّر له نهائياً للانتقال إلى فضاء القصيدة المتحرّرة من سلطتها المعيارية، كنهج للتحريض على كلّ أدب فـجّ مثبط في الثقافة التقليدية وفي الآداب والفنون، والمأثورات الشعبية والتراث (الفلكلور المبتذل) والغزل السوقي البورنوغرافي pornography) ) لضخِّ الدم في كوكبه الشعري وفي مجرى جاذبيته وطبيعته الشاملة وحواره المستبطن داخل فعل الكمون الشعري في سياق حركةٍ جدليةٍ عميقة الدلالة.

وعي اللغة ومفهوم الثورة

لو نحن تقصّينا تجربة الشاعر سامي عبد المنعم لمعاينتها لوجدنا أنفسنا في عالمٍ مرئيٍّ انمازَ شكلاً وجوهراً ورؤيةً وانفصل عن أنساق الشعر ومحمولاتها الطبيعية، ولأنَّ التصنيف ضرورةٌ حتميةٌ فاكتسبت تجربته صلابةً وتحدّياً وجرأةً، ليبلغ قمّة تطوّره في التعبير توازياً لظاهرة شعرية أعمق دلالةً وتركيباً وتمثّلاً وتأصيلاً، ومن أبرز التجسيمات الفنية تلك النغمة الجمالية التي قادته إلى فتوحاته في مرحلةٍ مبكرةٍ أحالته على عائلة الشعراء الأوائل، ليكون أكثرهم فنّاً وفراسةً في تجسيم الصورة الشعرية اللاذعة حيناً، والساخرة طوراً، من منظور يحيلُ على رؤيةٍ شاملةٍ مناهضةٍ وثوريّة تعلن عصيانها على واقع مزرٍ، مثلما كافح من قبله في سياق هذه الرؤية، كبارُ الشعراء مثل: مظفر النواب، وذياب كزار، وعزيز السماوي، وعلي الشباني، وعبد السادة العلي، وكاظم لالة، وريسان الخزعلي.
ومعنى هذا أنَّ الوعي باللغة الشعرية وقضايا الإنسان والوطن يضعُ الشاعر حينئذ في إطار يمكّنه من الرصد والتغلغل في قضايا جوهرية، نظراً إلى شعوره الأصيل وتوقه إلى فكرة التحرّر من وهدة الديكتاتورية الفاشية وتجسّداتها الاستبدادية، لاستعادة كرامته في مناهضتها..
ومثل هذا الحضور الصريح ما فتئ يوسّع التراكيب الشعرية المتداولة بين الناس بكيفية تمكّنه من التصدّي لظاهرةٍ دمويةٍ عمّقت في شعره لغة درامية لاذعة، أضفت على مضمونه مزيّةً نضالية، وكأنّه يفجّرُ طاقةً شديدةً لإشاعة مفاهيم استعارَ مفرداتها من مجسّاته الفكرية ومن لغته الثرّة لكسر الصورة الاستعادية، وكبح الغنائية الغزلية لتأصيل أشكالها لتعالج قضايا الإنسان والوطن والتحرّر بمقاييس الحداثة، لأنّها ظواهر يمكن الإفصاح عنها لاستنطاقها لاستشرافها لانبعاث الحياة في الطبيعة وتوالدها، وكأنّها تستحثّه على البوح عنها لتشخيصها بوعي من إيمانه الكامل بقضيته، أو لتحقيق ما يرمي إليه في تمثيل الإنسان والحياة والطبيعة من منطلق رؤيوي يستمدّ كينوناته من رؤية ذاتية تكون أحياناً وجدانيةً صوفيةً تفصحُ عن عواطف مكنونةٍ لا يسلّم قيادها كليّاً إلا إلى سلطان عقله.

استعذاب التراجيديا وجماليات الكلمة

قد تمثّلُ الكلمة قيمةً إنسانيةً قبل أن تكون رصاصةً، وانطلاقاً من هذا المعنى لا يمكن دراسة أعمال سامي عبد المنعم لاستقرائها ورصدها بمعزلٍ عن الإشارة إلى تاريخه العريق ومعجمه الذي يعتمدُ السخريةَ والتندّر في إطلاقها استناداً إلى قواعد خرق انتقائية، فلا يولدُ الأسلوب عموماً بناء على ظواهر مجرّدة من مظاهر الفكر إلا للمراوغة والمغامرة والتعرية والاستنكار، وهذا ما زاد قوى الشعر صلابةً في مناهضة الفكر الشوفيني والانتصار لقيم الإنسان وقضيته الجوهرية.. ولم يجرؤ أحدٌ على إنكار هذا التوهّج الشعري الذي لا يعدو إلا أن يكون صورةً مكثّفةً من محمولات الإبداع والتطوّر ومولّدات القصيدة الوطنية ومستواها التركيبي..
ويمكن أن ينطبق مضمونُ هذه المقاربة على أشعار كلّ من عريان السيد خلف، وكاظم إسماعيل الكاطع، وزهير الدجيلي، وسفاح عبد الكريم، وشاكر السماوي، وناظم السماوي، وعلي العضب.
ولأنَّ موضوع الطبيعة الرومانسية الغنائية في شعر سامي عبد المنعم غائمٌ وجنيني، فإنَّ دليله في البحث عن كوّةِ نورٍ يرجع إلى كفاحه المرير لتوليد طاقة شعرية قويّة، لكي يصبح المفهومُ الثوريُّ إطاراً فكرياً ينطوي على جوهر رؤيته ويغطّي مساحات الحلم من منظور يقوّض الانفعالَ الشعريَّ، والوعيَ السطحيَّ الذاتي كبديل يحملُ في ثناياه نبراً إيقاعياً مجافياً للمقتضيات السائدة.

شاعر عراقي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية