زواج الأقارب في شمال سوريا: أمراض وراثية وعادات مدمرة للطفولة

حسام محمد
حجم الخط
0

أحدثت سنوات الحرب في سوريا تصدعات كبيرة في نسيج المجتمع، وتأثرت غالبية مناحي الحياة بما أفرزه الصراع من أزمات يصعب تحجيمها مع استمرار أعمال العنف وغياب الحل السياسي وتعقيدات المشهد الإنساني؛ فتعددت النكبات التي طالت كافة جوانب الحياة من التعليمية إلى المهنية والحالة الاقتصادية المزرية للسوريين، في حين أدت عمليات التهجير القسري والنزوح وانتزاع السوريين من مدنهم وبلداتهم إلى تفكك الأسر، ونتائج مدمرة للطفولة على مستويات الحياة والتعليم والزواج.
كان المجتمع السوري يعاني قبل الثورة التي شهدتها البلاد في ربيع عام 2011 من عدة أزمات من اقتصادية وسياسية وأخرى مجتمعية كزواج الأقارب وانتشار عادات وتقاليد بعضها يُوصف بالسلبية، وأخرى تعود على العائلات بتكاليف باهظة ومستدامة المخاطر؛ جراء ما يحمله زواج الأقارب من مخاطر وراثية وأمراض يصعب في الغالب تجاوزها.
وظاهرة الزواج المبكر انتشرت بنسب أعلى في الشمال السوري خلال السنوات الأخيرة من الحرب في البلاد؛ ما أدى في نهاية المطاف إلى نتائج كارثية دفع الأطفال حياتهم ضريبة لها، خاصة مع ازدياد المؤثرات السلبية للحياة كانتشار الفقر وتراجع الأعمال وغياب الاستقرار.
ولا يبدو أن ظاهرة الزواج المبكر ستشهد تراجعا في الشمال أو على صعيد كامل التراب السوري؛ وذلك بسبب غياب الاستقرار وضعف الحملات التوعوية للعائلات بضرورة تجنب زواج الأقارب؛ لما له من نتائج مدمرة على الأفراد والعائلات وعلى صعيد المجتمع ككل.

مرض وراثي

« وقع ما كنت أخشاه» بهذه الكلمات وصفت ايمان الأحمد، وهي مهجرة من جنوب حلب إلى شمال إدلب، حالتها بعد إصابة ابنها ذو الرابعة من عمره، بمرض أدى لإصابته بالشلل، والذي شخَصه الأطباء بأنه مرض وراثي، لزواج الأقارب سبب في حدوثه.
أخبر الأطباء ايمان أن ابنها مصاب بمرض نادر يطلق عليه «مويا مويا» يصيب أوعية الدماغ لدى الأطفال ويؤدي إلى حدوث شلل نصفي، فقد تم تحويله منذ سنتين إلى تركيا لتلقي العلاج وما زال هناك، ولم تتحسن صحته، وهو يتنقل من مشفى لآخر، وفق ما قالت ايمان لـ«القدس العربي».
ايمان تزوجت من ابن عمها، بعد أن تقدم لخطبتها، ومنع غيره من التقدم لها بحكم العادات والتقاليد المنتشرة في المنطقة، ورغم ولادة أطفال معاقين في عائلتها، إلا أنها وافقت على الزواج، لترزق بعد ذلك بطفل معاق، ولم يعرف علاج له إلى الآن.
من جهتها قالت كاملة المصطفى والدة ايمان لـ«القدس العربي»: «لدي خمسة أبناء، اثنان منهم أصيبا بشلل كامل في طفولتهما، نتيجة إصابتهما بمرض السحايا، الذي لم يكن يتوفر له علاج في المنطقة آنذاك» في حين توفي لها أكثر من ولد بعد الولادة مباشرة لأسباب متفرقة.
وأضافت، تنتشر في أرياف حلب الجنوبية، ظاهرة زواج الأقارب، ولا يمكن لأحد أن يخالف هذه العادات والتقاليد، وهو ما سبب مضار كبيرة، يدفع ثمنها الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، الذين ترافقهم الإعاقة مدى الحياة، إضافة لمعاناة ذويهم، في تأمين العناية الخاصة لهم، من متابعة طبية وتغذية خاصة، وأجهزة تعينهم على الحركة.
حزنت كاملة على وفاة ولديها المعاقين محسن وزاهر، بعد بلوغهما سن الثلاثين، وباعتقادها أن الموت يريحهم، لكن لم يرحها هي، فزوجها رجل مسن أصيب بعدة جلطات دماغية وبحاجة لعناية خاصة، كما أصيبت أخت زوجها خاتون، بمرض الشلل الرعاشي» باركنسون» بعد وفاة زوجها، وعودتها لمنزل أخيها، فلا أولاد يعينونها، وأضحت مقعدة بشكل كامل، فهي بحاجة إلى رعاية خاصة يوميًا، في سلسلة تضاف لحلقات المعاناة اليومية لكاملة.
يكاد لا يمر يوم على كاملة، إلا وتستذكر معاناتها في رعاية أبنائها المقعدين وهي تتنقل بهم في المحافظات السورية على مدار عدد من السنين، لمتابعة حالتهم الصحية عند الأطباء لإيجاد علاج لهم، ولكن من دون جدوى، فقد أكل التعب والقهر من صحتها وهي المصابة بالربو والتليف الرئوي، وتأخذ عدة أنواع من الأدوية.
عائلة كاملة وايمان واحدة من عوائل كثيرة في شمال غرب سوريا، تعاني من وجود ذوي احتياجات خاصة بين أفراد أسرها، تكابد مرارة المعاناة يوميًا، في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية وهشاشة القطاع الطبي في المنطقة.

عادات وتقاليد

باتت تنتشر الأمراض الوراثية في بعض المجتمعات المتمسكة بالعادات والتقاليد، التي تمنع زواج البنت من شخص غريب غير ابن عمها أو ابن خالها أو أحد أقربائها، دون مراعاة ما يسببه زواج الأقارب من آثار سلبية على صحة الأبناء الجسدية والعقلية في المستقبل.
وقال فارس الأحمد والذي يقطن مدينة الدانا شمال إدلب ومهجر من ريف حلب لـ«القدس العربي» إنه دفع ضريبة كبيرة بعد زواجه من ابنة عمه وهي ابنة خالته بنفس الوقت، فقد أصيب ولده بمرض وراثي وهو نقص بيكربونات الصوديوم واضطراب شوارد في غازات الدم، مشيرًا إلى أن هذا المرض منتشر في عائلته وعائلة أهل زوجته، ويسبب ضمورا في الدماغ وتأخرا في النمو.
أخبر الطبيب فارس وهو المشرف على حالة ابنه، أنه يتوجب عليه التوقف عن الإنجاب خشية أن يرزق بطفل آخر مصاب، يزيد من معاناته، فقد فقدت العائلتان عددًا من الأطفال بعد ولادتهم بفترة قصيرة، نتيجة القرابة فيما بينهم، ونتيجة عدم توفر علاج لابنه، تم تحويل الطفل إلى تركيا، لكنه عاد إلى سوريا بدون أن يتماثل للشفاء، فهو يخضع الآن لعلاج فيزيائي مستمر على أمل الشفاء.
وأضاف فارس، أن العادات والتقاليد في المجتمعات الريفية، تتحكم بأفكار وقناعات الناس، وهي بلا شك ظاهرة غير صحية في المجتمع، «فحاولنا مرارا التخلص منها، فأنا منذ صغري انتشر خبر أنهم سيزوجونني من ابنة عمي، وأنا لم أستطع في كبري تجاوز هذا الأمر، كونها وصية والدي قبل مماته».
رفض فارس تزويج اخته لابن عمه وهو أخ زوجته وهو ما يعرف محلياً بـ« البديلة» خشية أن يتسبب لها بمعاناة عاشها هو، بولادة أولاد من ذوي الاحتياجات الخاصة، ما تسبب بخلاف عميق بين العائلتين، كونه لم يراعٍ العادات والتقاليد وفق ما يعرفه المجتمع المحيط به، إلا أن فارس اعتبر ذلك انجازا في تغيير بعض الأفكار البالية المنتشرة في المجتمع.
وتحدث خلافات كثيرة، تتسبب بشجارات جماعية قد تصل إلى ارتكاب جرائم قتل وانتهاكات، نتيجة زواج الأقارب، إلا أن تلك التجاوزات يقابلها من يدعم ويروج لزواج الأقارب تحت عدة ذرائع، ومنها ما يتم تحت حجة الحفاظ على وحدة ونسل العائلة أو العشيرة، أو بحجة التساوي الطبقي أو المادي بين أفراد العائلة الواحدة، وأن كلا الزوجين يصبر ويتحمل الآخر في حال حدوث مشاكل، إضافة لأنه يخفف تكاليف الزواج المرهقة، بعد انتشار ظاهرة غلاء المهور.
ورغم انتشار عادة زواج الأقارب في الشمال السوري، إلا أن هناك من ما زال ينادي بضرورة التباعد في الزواج، لحفظ النسل الصحيح، فلا ينفك المصلحون الاجتماعيون من التوعية بمخاطر هذا الزواج، داعين على الأقل لإجراء فحوصات وتحاليل قبل الزواج، ولاقت هذه الفكرة استحسانًا لدى بعض الناس في المنطقة، خصوصَا مع كثرة المشاكل الناتجة عن زواج الأقارب.

أمراض وراثية

دائمًا ما يحذر الأطباء من زواج الأقارب وخصوصًا إذا كانت الأمراض الوراثية منتشرة بينهم، ويعرف زواج الأقارب بأنه الزواج من أولاد العم، أو أولاد العمة، وأولاد الخال، أو أولاد الخالة، ولا يختلف الأمر هنا بين أقارب الأب أو الأم، مفضلين الابتعاد عن الزواج من الأقارب من الدرجة الثانية والثالثة.
والأمراض الوراثية كثيرة، ولكن من مسبباتها حسب عدد من الأطباء المختصين، هو زواج الأقارب، فالكثير يقدمون على الزواج رغم وجود أمراض وراثية مشتركة بين عائلات الزوجين، ورغم وجود حالات إعاقة من ضمن أفرادهم.
حسب الطبيب المختص بأمراض الدم والأورام جميل الدبل في مشفى المحافظة بإدلب، إن عدم إجراء فحوصات وتحاليل طبية قبل الزواج من الممكن أن يسبب أمراضًا للأطفال مستقبلًا، مشيرًا إلى أن أهم التحاليل الوراثية هي لأمراض التلاسيميا، فقر الدم المنجلي، تكور الكريات الوراثي العائلي، نقص البروتين سي، نقص الكريات البيض، نقص المناعة، متلازمة داون، وأمراض العضلات.
وأضاف الدبل، أن الكشف عن الأمراض الوراثية يتم إما عن طريق التحاليل الجينية، وهي غير متوفرة في مناطق شمال غربي سوريا، أو عن طريق التحاليل الدموية الشائعة.
وهو ما أكده الطبيب المختص بأمراض الدم ملهم خليل، الذي اعتبر أن أهم الأمراض الدموية المتعلقة بالوراثة، والمنتشرة في الشمال السوري، هي اضطرابات الخضاب بأشكالها وأهمها التلاسيميا وفقر الدم المنجلي، إضافة إلى اضطرابات التخثر وأهمها الناعور.
ولفت خليل إلى ازدياد نسبة هذه الأمراض في المنطقة، والتي تعود في الغالب لأسباب وراثية، خاصة في ظل انتشار زواج الأقارب وعدم الاهتمام بإجراء فحوصات طبية قبل الزواج.
ومن الأمراض الوراثية الناتجة عن زواج الأقارب التخلف العقلي بأنواعه، التشوهات الخلقية، أمراض العضلات، الأمراض العصبية، أمراض العيون والفم والأسنان، أمراض القلب، وأمراض الدم.
وتنتشر ظاهرة الزواج المبكر في المجتمعات الريفية أكثر منها في المدن، بهدف الحفاظ على الأرض والإرث، ما يعني أنها أسبابها اقتصادية، إضافة لأسباب اجتماعية، بهدف المحافظة على الوضع الاجتماعي بالزواج من الأقارب الذين يماثلونهم بالوضع الاجتماعي والغنى.
فيما أكدت بعض الدراسات العلمية، أن 80 في المئة من أطفال زيجات الأقارب مصابون بعيوب خلقية، ومن بين كل من 5000 حالة مصابة بالتخلف العقلي يوجد منها 4400 ناتجة عن زواج الأقارب، ولهذا يرى العلماء بضرورة التوعية بمخاطر هذا الزواج، الذي يعتبر سببًا بنقل الأمراض والعاهات الجسدية والنفسية والعقلية بين الأجيال.
يشار إلى أن صندوق الأمم المتحدة للسكان»UNFPA» ذكر أن أكثر من 1.3 مليون امرأة يعانين نقصًا في الوصول لخدمات الصحة الإنجابية في شمال غربي سوريا، منذ وقع الزلزال المدمر في 6 من شباط/فبراير الماضي.
فيما بلغ عدد السكان في مناطق شمال غربي سوريا في أحدث إحصائية محلية لفريق «منسقو استجابة سوريا» ضمن ثلاث مناطق (محافظة إدلب وريفها، درع الفرات، غصن الزيتون) 6.017.52 نسمة، يشكل النازحون في المخيمات وخارجها نسبة 49.32 في المئة من العدد الكلي للسكان، في حين بلغت إحصائية ذوي الاحتياجات الخاصة 209.838 من عدد النازحين ضمن المخيمات: 2.016.344 نسمة.
هذا وتشهد مناطق شمال غرب سوريا وقفات احتجاجية للعاملين في القطاع الإنساني وأهالي مخيمات المنطقة، للمطالبة بتمديد آلية دخول المساعدات الأممية عبر الحدود، رافضين دخول المساعدات عبر مناطق النظام ومن خلال مؤسساته، أو إيجاد آلية بديلة للخروج من نطاق الابتزاز الروسي المستمر لملف المساعدة الإنسانية لسكان المنطقة، التي تعاني من تردٍ في الأوضاع الاقتصادية.
كما ساهمت العديد من الأزمات بشكل أو بآخر بانتشار ظاهرة الزواج المبكر هربا من مصاعب الحياة والأزمات الخانقة التي تضرب السوريين منذ عقد ونيف، ومنها ارتفاع معدلات البطالة والبحث عن العمل وفق فريق «منسقو استجابة سوريا» خلال المرحلة الأولى بنسبة 47 في المئة والمرحلة الثانية بنسبة 25 في المئة، وتعتبر هذه النسبة مرتفعة مقارنة بإحصاء العام الماضي.
بالإضافة إلى انخفاض ملحوظ بالموارد المتاحة ضمن الشمال السوري وعدم قدرة الموارد الحالية على تلبية احتياجات المنطقة، حيث لن تستطيع الحركة التجارية تأمين النقص الحاصل وخاصةً مع عدم قدرة عشرات الآلاف من المدنيين من تأمين احتياجاتهم اليومية، وخاصة مع وصول أكثر من 89.81 في المئة من العائلات إلى خط الفقر وحوالي 40.3 في المئة ضمن مستويات الجوع.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية