رحلة المسلة من الأقصر إلى باريس: انتصار السياسة والعلم على لعنة الإله آمون

حجم الخط
0

ليس لزائر يمر بمدينة باريس إلا أن يلحظها. هابطاً من شارع الشانزيليزيه أو خارجاً من حديقة التويلري Jardin des Tuileries بعد زيارة لمتحف اللوفر. تسرق المسلة الفرعونية نظرات الزوار فور اقترابهم من ساحة الكونكورد، وكأنها شمس المكان، وحولها تطوف المدينة بالصلاة. قطعة أثرية غريبة عن المدينة، رغم أنها أقدم آثارها. بعمر يتجاوز الثلاثة آلاف عام، يحق للمسلة أن تختال بشبابها الخالد. عمر لم يكسر شيئاً من شموخ غرانيتها الوردي، ولم يخدش نقوشها الهيروغليفية التي تمجد إله الشمس آمون، والفرعون رمسيس الثاني الذي نُحتت في عهده. نخلة حجرية تنظر بكبرياء إلى قوس النصر الفرنسي، وتغمز لبرج إيفل الذي تكبره بأكثر من ثلاثين قرناً.
لكن السؤال الذي يتسلل مع النظرات الصاعدة لارتفاع ثلاثة وعشرين متراً، كيف كان لهذا الصرح الذي يزن مئتين وثلاثين طناً أن ينتقل بين قارتين عابراً آلاف الكيلومترات دون أن تُخدش زخارفه؟

عامود من التاريخ.. عربون صداقة!

معرض ‘رحلة المسلة’ Le voyage de lob’lisque في المتحف الوطني للبحرية في باريس يقدّم مجموعة كبيرة من المجسمات واللوحات، مصحوبة بوثائق تاريخية، وكتب رحلات، وتحف أثرية، تشرح بأدق التفاصيل حكاية الرحلة الأعجوبة لمسلة شاءت أقدار والي مصر محمد علي باشا أن تقدّم كهدية إلى ملك فرنسا. فكان أن سافرت من الأقصر إلى باريس في رحلة استمرت سبع سنوات (1829-1836) تضافرت فيها جهود العلم والسياسة والصناعة لتؤمن لهذا الصرح أن يُنتزع من ضفة النيل ويطأ ضفة السن دون جروح.
لم تكن مسلة الأقصر هي الهدية التي أراد محمد علي باشا منحها للملك الفرنسي شارل العاشر Charles X، فهديته إلى فرنسا كانت عام 1928 واحدة من مسلتي الاسكندرية، بينما أهديت الأخرى إلى بريطانيا العظمى. غير أن العالم الفرنسي شامبليون Jean-Fran’ois Champollion صاحب الفضل في فك سر اللغة الهيروغليفية عبر حجر الرشيد، أراد أن يكون لفرنسا هديتها التي لا تضاهى، وتحفتها التي ليس لبريطانيا العدوة الصديقة أن تحلم بها، فاستخدم علاقته القوية بمحمد علي ليقنعه بأن تكون الهدية مسلتي الأقصر. المسلتان اللتان وجد فيهما عالم المصريات الخبير تجلياً لعظمة الحضارة الفرعونية، وأكثر المسلات الفرعونية حفاظاً على شكلها الأصلي. وكان لشامبليون ما أراد فمنح زعيم مصر المسلتين إلى فرنسا هدية خالصة. لتبدأ منذ تلك اللحظة المغامرة الكبرى.

نجاح عظيم بعد سبع عجاف

كلف الملك شارل العاشر وزارة البحرية الفرنسية بإعداد ما يلزم لتنفيذ مهمة النقل. فتم بناء سفينة ناقلة خصيصاً لذلك حملت اسم ‘الأقصر’. بينما كان العقل الهندسي منشغلاً بتأمين إنزال المسلة من عليائها، لتنقل ممددة من موقعها إلى نهر النيل. سنتان من العمل تَطلّب الإعداد لعملية النقل، صُنّعت خلالها معدات ضخمة من الخشب والمعدن والحبال. واستغرق نقلها من معبد الأقصر إلى نهر النيل على بعد أربعمئة متر فقط نحو ستة أسابيع. لتمضي بها سفينة ‘الأقصر’ مع نهر النيل حتى المتوسط، حيث تم إصلاح الأعطاب التي أصابت السفينة في الاسكندرية. ومن هناك استخدمت سفينة ‘الأقصر’ كمقطورة، تسحبها سفينة ‘سفينكس’ Sphinxالسفينة الأفضل في البحرية الفرنسية آنذاك. لتبدأ رحلة جديدة في البحر المتوسط، مرت بعدة محطات قبل أن تصل إلى مدينة تولون الفرنسية. لكن التجربة الصعبة لنقل المسلة لمسافة قصيرة براً في الأقصر لا تترك سوى المياه سبيلاً لضمان نقلها والحفاظ عليها. لذلك استمرت الرحلة باتجاه المحيط الأطلسي حتى بلغت مدينة لوأفر Le Havre الفرنسية، ومن هناك عبرت نهر السين إلى أن وصلت مدينة باريس. حيث تم استخدام مئات الجنود، وصروح من المعدات الثقيلة، كي تؤمن نصب المسلة في مكانها وسط ساحة الكونكورد. لتحتفل باريس بعد ذلك بمسلتها في الخامس والعشرين من تشرين الأول/اكتوبر من عام 1836، بحضور الملك الفرنسي لويس فيليب Louis-Philippe، وأكثر من مئتي ألف متفرج أتوا ليروا أخيراً المسلة المصرية تنهض من رحلتها الطويلة، بعد سنوات من متابعة المغامرة عبر الصحافة.
وضع المسلة وسط ساحة الكونكورد كان له دلالات سياسية ترتبط بالداخل الفرنسي. فالمسلة وضعت في المكان الذي كان يضم تمثالاً ضخماً للملك الفرنسي لويس الخامس عشر، قبل أن تأتي الثورة الفرنسية 1789 فتحل مقصلة الثورة في مكان التمثال، ولتقطع على نصلها أعناق أكثر من ألف شخصية بينهم الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت وحتى روبسبير (1758-1794) Maximilien de Robespierre أحد زعماء الثورة. لذلك بدا الاحتفال المهيب بالمسلة أشبه بقطع مع السابق لتُفتح صفحة جديدة في عهد أول ملك للفرنســـيــين (بعد أن كان اللقب هو ملك فرنسا) ويطوى عهد المَلكية القديمة، وعهد الإرهاب الذي وصم العقود الأولى لمرحلة ما بعد الثورة.
الرحلة الأعجوبة، التي سماها البعض ملحمة، اعتبرت انتصاراً لفرنسا، فقد كانت أول دولة تتمكن من نقل مسلة بهذا الحجم في العصر الحديث، بينما انتظرت بريطانيا خمسين سنة لتنقل مسلة الاسكندرية إلى لندن على ضفة فيكتورياعام 1878، ولم تنقل الولايات المتحدة مسلة الاسكندرية الأخرى، التي تخلت عنها فرنسا، حتى عام 1881 تاريخ وضعها في سانترال بارك في نيويورك. لكن الإنجاز الفرنسي كلّف من المال والجهد والوقت ما جعل فرنسا تصرف النظر عن نقل مسلة الأقصر الأخرى، قرار ترددت فيه السلطات الفرنسية طويلاً قبل أن تعيد ملكيتها رسمياً إلى مصر عام 1981.

لعنة الإله آمون

لم يكترث محمد علي بالقيمة التاريخية والحضارية لهديته الدبلوماسية، ولم يكن يعني فرنسا، كما الكثير من الدول الغربية، أن هذه الآثار ملك لشعوب وحضارة تلك الدول. فسواء أهديت لهم الآثار أم لا كانت الدول العظمى تسرق منها ما تشاء سواء عبر ضباطها الذين كانوا يكافئون أنفسهم ببعض التحف الأثرية كلما قادتهم المهمات العسكرية إلى البلاد الضعيفة، أو عبر علمائها الذين كانت تسحرهم تلك الآثار فيحملونها كاملة إلى بلادهم تعبيراً عن إعجابهم بالحضارات الأخرى!
في عالم يتحكم به الأقوياء، لم تجد مسلة الأٌقصر سوى إلهها آمون يدافع عنها، وينتقم لنفيها عن أرضها.
قاوم آمون انتزاع المسلة عن مدخل معبده فطالت لعنته ملك فرنسا شارل العاشر الذي أطاحت به ثورة تموز/يوليو عام 1830 فأكمل بقية حياته منفياً، وأصابت اللعنة المصريين في الفترة ذاتها مع انتشار وباء الكوليرا عام 1831 الذي أزهق أرواح أكثر من مئة وخمسين ألف مصري.
وفي السنة التالية توفي شامبليون دون أن يكحل عينيه برؤية المسلة على أرض فرنسا. بينما سُجّل الملك لويس فيليب كآخر ملك في تاريخ فرنسا بعد أن أطاحت به ثورة 1948 وتوفي في المنفى. بيد أن غضب آمون لم يغيّر من مصير مسلة الأقصر التي حافظت عليها فرنسا، واعتبرتها جزءاً من تاريخها، فصنفت عام 1936 ضمن التراث التاريخي لمدينة باريس. لتستمر غربة المسلة، ولتستمر نسمات نهر السين في مداعبة غرانيتها مذكرة بنسمات النيل، وبشقيقتها التوأم التي بقيت هناك مع ثلاث مسلات أخرى، هن آخر ما خلفته السياسة من سلالتهن على أرض الفراعنة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية