الأديب السوري موسى رحوم عباس: «الاندماج» تنازل قسري عن جزء من روحك لصالح الآخر

حوار: مصطفى الخليل
حجم الخط
1

يعيش الكاتب موسى رحوم عباس خارج سوريا منذ ثمانينيات القرن الماضي، إلا أن أعماله الروائية والقصصية تدور حول سوريا وتحولاتها، بداية من روايته «بيلان»2011 التي تجسد قضية تشتت الإنسان وتجزئة هويته عند ترحيله قسرا من بيئته، حيث تدور أحداثها في قريته (كسرة مريبط) سبعينيات القرن الماضي، فترة تشييد سد الفرات، وتشكل بحيرة خلفه تسببت بغمر مساحات كبيرة على ضفتي النهر، وترحيل قرى بأكملها نحو منطقة الجزيرة السورية والمناطق العشوائية في مدينة الرقة. وصولاً إلى مجموعته القصصية «العبور إلى مَدين» 2020 التي تستعرض حال الإنسان السوري بعد الحرب، ومحاولته التكيف مع الواقع المزري الذي تمر به البلاد، سواء داخل سوريا أو خارجها. وبينهما صدر له العديد من الأعمال المتنوعة بين الشعر والمقالات.
في هذا الحوار، نسلط الضوء على عالم عباس الأدبي وإشكالاته الفكرية..

□ هل الحقيقة الوحيدة في روايتك «بيلان» هي (كسرة مريبط) كما قلت مشيرا في بدايتها؟ وإن عشقك (للامكان) يُعد حالة مرضية؟
■ إن علاقة الإنسان بالمكان ملتبسة ومعقدة، فالسياب بقي متعلقا بجيكور قريته في أبي الخصيب في البصرة، وبقيت عالقة في فمه طوال حياته، وبندرخان، قرية الرَّاحل الشاعر إبراهيم الجرادي، كتب عنها، حتى ظننا أنَّها مركز الأرض، وهنري ديفيد ثورو الكاتب الأمريكي لم يستطع الابتعاد عن كونكورد أكثر من الغابة المجاورة؛ فابتنى كوخا له فيها، كسرة مريبط ما زال عجاجها في عيوني، هربت إلى لوس أنجلس وجنيف وباريس ولندن، وطفت الريف الإنكليزي الرائع، لكنها أبت أن تتركني، كنت أتجول في طرقاتها الضَّيقة، وأعبث في طينها، وطعم «الكرمة/ الصُبحة» في أعراسها في فمي، وعندما دُفِنتْ في قاع البحيرة بعد إنجاز سد الفرات 1973 هي ماتت بالنسبة لسجلات الحكومة، لكنها بالنسبة لسجلي الروحي ما زالت حية، لا تموت، عندما تحولتْ من الوجود للعدم، بقيتُ متعلقا بهذا (اللامكان)؛ ولهذا وصفتها بالحالة المرضية، لا أدري لماذا نتعلق بما/ بِمَنْ هو غير موجود، أبناء قريتنا يعشقون قريتهم، حتى أولئك الذين ولدوا بعيدا عنها، يسألون ذويهم عن قريتهم، والآن ابتنوا قرية بديلة على شاطئ البحيرة، أطلقوا عليها اسم «كسرة مريبط» وأنفقوا عليها من مالهم الخاص للخدمات الضرورية، فأنا أكتب من الذاكرة المُنطفِئة! هكذا يكون المكان هو الحقيقة الوحيدة في الرواية، أما الأحداث والشخصيات فهي قابلة للحوار.
□ هل نحتاج لعين ثالثة، تدرك خطورة انتزاع المكان من هوية الإنسان؟ وهل يمكن تعميم وربط هذه الحالة على السوريين اليوم؟
■ ربما أتفق مع أمين معلوف في رؤيته للهوية المركبة لإنسان منطقة الشرق الأوسط، فنحن نحمل عدة هويات في الحقيقة، لكن المكان يشكل الوعاء أو الظرف الذي يحتوي كل هذه الهويات، ويعطيها صبغته، انتزاع المكان يشبه سَمْلَ العينين، يفقدك الرؤية، يحكم عليك بالعمى، وأقصد الانتزاع القسري، فقد يقرر شخص ما تغيير مكانه لاعتباراته الخاصة، السوريون اليوم هائمون على وجوههم في بلاد لا ينتمون لها ثقافة ولغة وعادات وتقاليد، وما يسمى «الاندماج» هو نوع من التنازل القسري عن جزء من روحك لصالح الآخر، الذي ينفق عليك من ضرائبه، وهو غير مستعد للتنازل عن ثقافته وشخصيته، هذه هي الحقيقة بعيدا عن الطوباويات، ربما نحتاج لأجيال أخرى من السوريين اللاجئين، ولا أقول المهاجرين، قد يحققون الاندماج بنسبة أو أخرى!
□ احتفت الراوية في قسمها الأول ببيئة «كسرة مريبط» وبإنسانها، هل قصدت أن توثق كل شيء في قريتك؟
■ لا أرى أن مهمة الرواية التوثيق، فهذا قد يكون التاريخ والدراسات الأنثروبولوجية أولى به، الرواية فن يستهدف الجمال والمتعة الفنية، وفي الوقت نفسه يؤرخ للناس وآلامهم ومخاوفهم وأوجاعهم، يؤرخ ما يهرب منه التاريخ الرسمي، الذي أقف منه موقف المتشكك دائما، فتفاصيل كسرة مريبط وعلاقة الهامش بالمركز، وذلك الهدوء القاتل، الذي تمور في داخله حركة عميقة لتأصيل الوعي والنهوض كلها قدمت في إطارها الإنساني، وشخوصها كانوا ضحايا بصورة من الصور للفشل السياسي في تكوين الدولة الوطنية التي تعطي هويتها للجميع، وتُطفِئ كلَّ البُنى ما قبل الوطنية من طائفية وإثنية وعشائرية، للأسف عادت تطلُّ برأسها القبيح من جديد.
□ كانت الشخصية الأرمينية حاضرة في الرواية، تارة بشكل مُرمّز، وأخرى بشكل واضح، من حيث النتيجة.. ما أوجه التشابه بين الحالة الأرمنية وحالة أهالي»كسرة مريبط»؟
■ لهذا السؤال جانبان: الأول نعم التشابه قائم، فالتهجير القسري والظلم والأوهام الشمولية، التي كنا وقودها، انظر إلينا كنا نسكن في هوامش المدن، ولا نجد عملا، وأبناؤنا يعملون في بيروت وعمان عمالا بالمياومة. الثاني: العائلات الأرمنية التي وصلت إلينا حقيقة دخلوا قلوبنا، وعاشوا معنا وعشنا معهم متحابين، وكبر الصغار، وصاروا جزءا من أبناء القرية، وهم أخوالنا، ونحن أخوالهم، وتعلمنا منهم بعض ما خبروه من أعمال ومهن، أردتُ أن أقول إن ابناء هذه المنطقة طيبون وعشقهم للإنسان بغض النظر عن أي صفة أخرى.
□ صورت الراوية «التدين» لدى مجتمع وادي الفرات بشكل عام على أنه حالة روحية أكثر منه أيديولوجية، وحتى طقسية، هل هذه وجهة نظر، أم الصبغة العامة لبيئتك؟
■ الأمران معا، فلن أدعي أنَّ الكاتب حيادي في ما يكتب، التدين في بيئتنا فطري يؤدي الناس فروضهم الدينية، يصومون، يؤدون زكاتهم، يبتنون المساجد، بعضهم حجَّ على الإبل في رحلة محفوفة بالمخاطر، وهم ينفرون من المتشددين، حتى تصوفهم قليل الطقوس بسيطها، وسأذكرك بحادثة ذكرتها في الرواية وهي واقعية، عندما قرر أهل قريتنا بناء مسجد «حديث» وفقا لرؤية ذلك الزمن، جمعوا التبرعات من أهل القرية، فقام المزارع الأرمني موريس عبد النور ودفع مثلهم أو أكثر، وقال: هذا لبيت «الرب» بيت الله، ففرح به أهلنا، وكانوا يعدونه واحدا منهم، الأحزاب الدينية – بمذاهبها كافة – المؤدلجة لم تحقق نجاحا يذكر حتى في بيئاتها، بل كانت كارثة على شعوبها وأوطانها، ولا عبرة بادعاءاتها وورعها! نعم، أنا أومن بالمواطنة المتساوية، والدولة الحديثة على مسافة واحدة من كلَّ مواطنيها دون النظر لمذاهبهم وقومياتهم ولغاتهم، وعليها أن تؤمِّن لهم فرصا متساوية في التدين الشَّخصي أو عدمه.
□ إلى أي حد وظفت تخصصك في علم النفس السريري لتشخيص علل شخصياتك في مجموعتك القصصية «العبور إلى مدين»؟
■ لا أكشف سرا حين أقول إنَّ دراستي لعلم النفس العلاجي والعام، منحتني هامشا واسعا في الكتابة العميقة، التي تغوص تحت السطح للأحداث، بل أُذْهَلُ حين يقول لي روائي أو قاص بأنه لا يقرأ في هذا العلم، وأستغرب، كيف نريد لشخوصنا أن يكونوا مثلنا من لحم ودم، ونحن نجهل أنماط الشخصية، واضطراباتها، وردود أفعالها، مكبوتاتها، أحلامها… لا أعلم! كتبت عن ذوي الاحتياجات الخاصة، وسيكولوجيا القمع، وألاعيب المحققين، وشخصيات الموهوبين، والشاذين، وضحايا العنف والإرهاب والقمع، والمرأة المستكينة القابلة للاضطهاد. كل هذا أدب، لكنه يستند إلى علم النفس، رحم الله العم ديستويفسكي فقد ضمَّن أعماله فهما عميقا للنفس البشرية، وسارتر تعلم من أعماله فرويد! رغم الخلافات بينهما.
□ كنت الراوي في «العبور إلى مدين» وتناولت الإنسان السوري وعلاقته مع اللامعقول في الحرب، بتصورك ما هي المخاطر المتوقعة لانهيار الطبقة المتوسطة في سوريا؟
■ «العبور إلى مدين» قصة لها خصوصية معينة في ذاكرتي الأدبية، وارتبطت بحالة إحباط شديد تزورني بين الحين والآخر، فمَدْينُ هي الأرض التي لجأ إليها موسى عليه السلام هاربا من فرعون، عَبَرَ البحرَ إليها بحثا عن الأمان، وبطل قصتي هرب من حلب بعد تهديده، لم يجد وسيلة للهرب سوى أن يندس مع الخراف التي ينقلها البدو من مكان إلى آخر للرعي والتسمين وبيعها لاحقا، يسلم من الحواجز التي تُنْصَب على الطرقات، لكن الجوع يبلغ به مبلغا، لذلك عندما وصل إلى مَدْينَ، وهي مَدْيَنُ أخرى في بادية تدمر، أخذ يزاحم الخراف على أكل العلف والشعير! الانهيار في كل الطبقات، العليا والوسطى والرَّثة، عدا تجار الحروب فهم في نعيم مُقيم!
□ هل تعتقد أن الأدب بعد «الربيع العربي» بات في مخاض عسير أكثر من ذي قبل، بسبب الفقر والجهل والهجرة إلى بيئات مختلفة من جهة، وبسبب تصاعد التنظيمات المتطرفة من جهة أخرى؟
■ «الربيع العربي» انتهى إلى كارثة، بلغة الأرقام ربما لدينا مليونا طفل أو أكثر خارج مؤسسات التعليم كليا أو جزئيا، المهجرون في الداخل بالملايين، ولا يتوفر لهم أي من متطلبات الحياة البسيطة، الأمية ستكون سمة جيلنا القادم، فمن بلغ الخامسة عشرة من عمره وهو لم يتلق تعليما نظاميا معترفا به، هذا أمي ولا مستقبل له في عصر التكنولوجيا المتقدمة، اللاجئون في الدول المجاورة بالملايين وهم يشكلون فئة مُعْدمة يواجهون تنمُّر مستضيفيهم وتذمرهم، وبلغة الأرقام أيضا دور النشر العربية لا تطبع من أي كتاب أدبي أكثر من ألفين أو ثلاثة آلاف نسخة في أحسن الأحوال، يوزع معظمها بوسائل غير احترافية، ولا يصل الكاتبَ من جهده شيءٌ، نحن في وضع كارثي! رغم صدور مئات الأعمال الإبداعية السورية، ومن الطبيعي أن تكون متفاوتة المستوى ككل بقاع العالم. فالتنظيمات المتطرفة لا اهتمامات ثقافية لها، ولا تكترث لأدب أو فن فمشروعها الدم والقتل، والإنسان آخر اهتماماتها، وربما أصبحت لعبة «محاربة الإرهاب» شماعة لكل إهمال وتقصير رسميين عربيا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د.موسى رحوم عباس:

    أقدر اهتمامكم و جهودكم، وأثني على المهنية العالية للإعلامي مصطفى الخليل، وحرصه الشديد على الدقة والأمانة المهنية، تحياتي للفريق العامل في القدس العربي جميعا، لأجل الكلمة المسؤولة، فهي شرف الكاتب ورسالته.

إشترك في قائمتنا البريدية