حوار مع القبائل الأوروبية

عقب انهيار برجي مانهاتن في بداية هذه الألفية قدمت الثقافة استجابتها العاطفية، وربما السياسية، التي تمثلت في مؤتمرات للحوار بين الشرق والغرب. ونظرًا للبعد الديني في ‘الغزوة النيويوركية’ انخرط الممثلون الرسميون للأديان في حوار مماثل كذلك، وكان تدبيرًا أخرق، لأن الأديان مطلقات لا يجوز أن تكون موضعًا للنقاش. ومع الوقت بدأ حوار الأديان انسحابه، بينما استمر حوار الثقافة وإن خبا في فصل الربيع العربي الذي ترافق بأزمة اقتصادية طاحنة في الغرب تنكر الرأسمالية أن سببها خلل في الجوهر تتهرب من إصلاحه.
ومن بين المؤسسات العربية التي واصلت بدأب جهودها للحوار، مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري التي ألزمت نفسها بإقامة مؤتمراتها السنوية في إحدى الحواضر الأوروبية، لا يُشترط أن تكون المدينة عاصمة بلادها، بل أرضًا صالحة للحوار، حيث بدأت فكرتها في دورة الشاعر ابن زيدون في قرطبة عام 2004، ولم تقطــــــع المؤسسة تواصلها مع الأندلس حتى اليوم، سواء بالتعاون مع الجامعات أو البلديات، حيث ساهمت في تدريب المرشدين السياحيين بغرناطة من أجل إنصاف صورة الحقبة العربية في الأندلس لدى هؤلاء الذين يقودون ملايين السياح كل عام في الحواري الضيقة للمدن العربية الباقية هناك.
واختارت المؤسسة لمؤتمرها هذا العام بروكسيل العاصمة غير الرسمية للاتحاد الأوروبي، حيث مقر حلف الناتو ومقر البرلمان الأوروبي الذي شارك في رعاية اللقاء، واستقبل جلستي اليوم الأول في مقره. وقد جمع المؤتمر ضيوفًا من مختلف بلاد العرب وكثير من بلدان أوروبا وأمريكا وتركيا وإيران، وكلها تعاني من انقساماتها الخاصة، الخافتة كجمر تحت الرماد أوالمشرعة كألسنة لهب تطاول السماء.
‘ ‘ ‘
الرئيس البرتغالي السابق ورئيس لجنة حوار الحضارات بالأمم المتحدة جورجي سامبايو غمز حول إزاحة إخوان مصر من الحكم، بينما رأى مايكل فريندو رئيس البرلمان المالطي السابق أن الديموقراطية ليست فقط ما يأتي به صندوق الاقتراع بل هي الممارسة في الفترة ما بين صندوقين. ولم يبد من الأحاديث الممتدة على طاولة الحوار أو موائد الطعام أن العرب مجمعون على رؤية واحدة للربيع العربي، بل تراوحت الرؤى ما بين الثورة والمؤامرة، بينما تصل البلبلة في الحالة السورية إلى حد انقسام الشخص الواحد على نفسه!
وعلى الرغم من ذلك بدا العرب أكثر وعيًا باللحظة التاريخية، لأن الربيع العربي مع ارتداداته كان مطروحًا للبحث، ما يعني أن العرب تصرفوا كمرضى، بينما تصرف الآخرون كأطباء يشخصون علة العرب وكأنهم بلا عيب، وحتى في علة العرب لم يتفقوا على التشخيص، أما سوء الفهم الذي سيظل قائمًا فهو الخلط الدائم بين القوميات والأديان وبينهما وبين المصالح النوعية لفئات هنا وفئات هناك.
‘ ‘ ‘
لا يبدو أن حقيقة ما حدث في 11 سبتمبر قد انجلت بأكثر مما بدا في لحظة هول الصدمة. لكن الحقيقة تقتضي القول بأن ما حدث لم يكن صدامًا بين الشرق والغرب أو بين الإسلام والمسيحية كما بدا أو كما أراد له الطرفان المتحاربان أن يبدو، بل بين الأصولية الإسلامية والرأسمالية وقد تعاديتا من بعد محبة. ولا يسطيع أحدهما أن يدعي تمثيله لبلاده.
اختار حوار 2001 الدموي برجي نيويورك رمز المال وليس مؤسسات السلطة الأمريكية. وآن الأوان لنزع الغلاف الفاخر لطردين يحوي كل منهما التناقضات ذاتها، ويراد لهما أن يكونا شرقًا موحدًا وغربًا موحدًا. وتحاول المؤتمرات الثقافية إيجاد تفاهم بين العالمين، بينما تومض في الخلفية مقولة الشاعر البريطاني روديارد كيبلنغ: ‘الشرق شرق والغرب غرب لا يلتقيان’ وهي مقولة تعلمنا الحذر من البلاغة التي تحول رؤية فرد إلى مثل سائر لا يخضع للنقاش، لمجرد أن هذا الفرد نجح في صياغة رؤيته في جملة بليغة!
لا يعاني العرب وحدهم من الانقسامات القبلية والطائفية والمذهبية بل الغرب أيضًا. ولا يعني هذا أن الاختلافات المذهبية والعرقية والقبلية لم تكن موجودة في الغرب، بل كانت مخفية، وقد ظهرت في أوروبا بسبب الإصرار على تحزيمها في طرد واحد.
الثأر لا يموت بالتقادم، والكتلاني لن يصبح باسكيًا والصقلي لن يصبح توسكانيًا، بل إن بلجيكا البلد الصغير، مقر البرلمان الأوروبي، يعاني من جروح تاريخه المحدود، وقد جاء الآن دور الشماليين في المطالبة بحقهم في الرفاه استنادًا إلى دأبهم في العمل مقابل الجنوبيين الذين ينفقون الساعات في العشاء كالفرنسيين. الجنوب عاش دورة مجده سابقًا بفضل خيرات المستعمرات، والآن يتبع الكونغوليون روائح عرق أجدادهم ويذهبون مهاجرين إلى بلجيكا.
‘ ‘ ‘
كنا نحن العرب، بسبب يأسنا من محاولات الوحدة العربية العاطفية أكثر من أحسنوا الظن بالوحدة الأوروبية القائمة على المصالح، لكن المواطن الأوروبي لم يجد مصالحه في الوحدة. نظريًا صار حرًا في الانتقال عبر مساحة جغرافية أوسع، لكن هذه الحرية مقيدة بأسعار بطاقات السفر التي ليست في متناول الجميع فظل الباسكي باسكيًا والفلمنكي فلمنكيًا، وظل أتباع المذاهب المسيحية في أماكنهم. صحيح أن الكنائس تحولت إلى مزارات سياحية لكن هذا ليس سوى المظهر المخادع، إذ انتقلت كل كنيسة إلى قلوب أتباعها قبل أن تترك جماليات عمارتها لهواة الصور التذكارية. هذا هو فخ أوروبا الصغير الموازي لفخ العولمة الذي يكابده العالم أجمع، ومن ضمنه نحن العرب. ويالها من صفة ملغزة ‘نحن العرب’!
نحن العرب دولا ودويلات، قبائل وأعراقا، مللا ونحلا. نحن العرب نتنوع من مقاتل في صفوف ‘داعش’ إلى صفوف ‘حزب الله’ إلى داعية حقوق إنسان، ومن مفكر ليبرالي يرى روحه في باريس إلى شيوعي يصر على تحضير روح موسكو.
بقية أجناس الأرض تتنوع مثلنا، والمنتمون إلى الفصيل الواحد يتشابهون في كل الأمم، والحوار المطلوب الآن هو بين الفصائل الفكرية وبعضها البعض وبينها وبين طبقات الحكم وجماعات المصالح بامتدادها الإقليمي والعالمي، لكي تتعطف وتترك شيئًا للإنسان!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول eng.Gamal Abdel Nasser:

    تصر دائما أن لاتشف غليلي أبدا بمقالك ..
    حين أحتاج منك مزيد من الإيضاح أو أستزيد من معلومات ..
    أو حين أتفق معك وأهم بأن نصل سويا لإستنتاج مبهر ….
    أجد المقال قد أغلق أبوابه يامحك الله بس أنا مش مسامحك..

  2. يقول أبو جمال:

    الصراع في الاساس صراع مصالح يستهدف السيطرة على السلطة و على وسائل الانتاج سواء على مستوى البلد الواحد او بين الدول فيما بينها غير انه في الغالب يتم تحويره بتحويله الى صراع ديني شوفيني عنصري

إشترك في قائمتنا البريدية