حكمة جعجع والشعب السوري «الداشر»… قلّة ضمير «بي بي سي» وصواريخ إيران

حجم الخط
0

لا مناص من الاعتراف بأن الزعيم اللبناني سمير جعجع كان يمثّل للكثيرين، على مدى عقدين من الزمن تقريباً، حكيماً بحق. مقابلاته ومواقفه وتصريحاته كانت الأفضل، مقارنة، على الأقل، بمختلف الزعماء اللبنانيين، خصوصاً إن تعلّق الأمر بالموقف من النظام السوري، والنظام الممانع عموماً، وارتكابات “حزب الله” وجرائمه.

كان علينا أن ننصاع في الأساس لتقاليد السياسة (والحرب) اللبنانية، أن نقول عفا الله عمّا مضى، نطوي الصفحة، ونبدأ من الصفر، فإنْ فُتح الحساب ستنكشف جرائم الجميع.
لكن حكمة الحكيم القواتي لم تسعفه أخيراً فيما يتطرق لـ «الوجود السوري الخطِر» في لبنان، ويقصد اللاجئين السوريين، حين يقول: «إذا الواحد ما بينتبه لبلده، بغفلة عين ممكن يصبح هو اللاجئ في بلده».
ثم يتحدث جعجع بالأرقام والتواريخ: «في العام 2030، أي بعد 6 سنوات فقط، سيصبح عدد اللاجئين في لبنان 4 ملايين، يعني بقدر اللبنانيين، وممكن بالتالي أن نخسر وطننا». وهو يعترف فقط بـ 300 ألف سوري هم في وضع قانوني، من أصل مليونين هم «غير شرعيين».

يبدو أن علينا انتظار حلول المساء لنتأكد أن يومنا كان جميلاً بالفعل، فغالباً ما يحفل ربع الساعة الأخير بالمفاجآت، والخيبات

هنا سينتقل إلى الجانب العملي، فيشرح: «بالقانون أن كل أجنبي يخالف شروط الإقامة يجب أن يرحّل إلى بلاده»، و»المسؤولية الأولى تقع على الأمن اللبناني العام». ثم يعرض على شرطة البلديات متطوّعين (قواتيين) إذا لم تمتلك تلك الشرطة عناصر كافية تقوم بترحيل السوريين.
آخر حِكَم جعجع ستكون بالفم الملآن: «اللاجئون السوريون في لبنان شعب داشر، بيشتغل شو ما بدك، وأكبر دليل الجرائم التي ترتكب. من أجل 50 ليرة يقتل إنسان، فكيف من أجل معاش، وبارودة وفَرْد وتَقْدِمات! يقتلون كل الشعب اللبناني».
ويختم: «إذا الجيش والبلديات لم يتحركوا، نحن راح نتحرك».
لا نحسب أن المتابعين كانوا على خطأ عند تقديرهم لمواقف جعجع السابقة، فقد دافع الرجل عن اللاجئين، وعن ضحايا نظام بشار الأسد عندما كان الجميع ضدهم، لكن يبدو أن علينا أن ننتظر حلول المساء لنتأكد أن يومنا كان جميلاً بالفعل، فغالباً ما يحفل ربع الساعة الأخير بالمفاجآت، والخيبات.

حادثة المنصة الإيرانية

لا أميل إلى الافتراض القائل إن إيران انخرطت بدافع الحرج في مسرحية الهجوم بالصواريخ والمسيرات على إسرائيل، وأن أمريكا والعالم كلّه، بل وإسرائيل نفسها تواطأت معها، وجرى توازع الأدوار في المسرحية.
الافتراض الأرجح أن إيران حاولت الردّ مِن كل عزْمها لكنها فشلت، لأسباب عديدة من بينها الذعر والارتباك، وفي الأساس قلّة الحيلة، فالصواريخ الإيرانية والممانِعة جبارة وقادرة فقط على السوريين عديمي الحيلة، في إدلب، ومختلف الأمصار السورية، من السيدة زينب، إلى القصير، إلى دير الزور وسواها. أما تلك المرسلة إلى العدو الغاشم، فعلى مهل. وقد كان سلاح المباغتة وحده كفيلاً بتأدية المهمة لو قصدوا، لكن.. هيهات. هيهات منهم المباغتة.
أما دليلي في هذا الافتراض فهو الخطأ الفادح في العرض العسكري، كما شاهدنا في فيديو متداول، عندما فتح صهريج حفظ النظام على المنصة الرئيسية التي تمر أمامها فصائل الجيش، بيوم الجيش الوطني في إيران.
اخترعت الدول العرض العسكري لإظهار قوة الجيش، تهدر الأموال والأيام الأطول من التدريب، وياما سقط جنود على الأسفلت اللاهب أثناء تدريب «النظام المنضم» من أجل إبهار الشعب (والشعب تحديداً) بالقوة اللانهائية للجيش. هنا كل تفصيل محسوب، الحركة، الالتفاتة، الملابس الصارمة المدججة بالأزرار، الأوامر محسوبة على الملميتر، وأقل خطأ سيظهر للملايين.

لا تدري لماذا يعود مراسل بي بي سي إلى هذا البيت، غياب السبب المباشر للتقرير هو ما يدفع للاعتقاد بانحيازه وخدمته بشكل مباشر للرواية الإسرائيلية، التي باتت مفضوحة في أرجاء العالم، ومحرجة جداً لإسرائيل وحلفائها

هنا، في يوم الجيش الإيراني سيرتكب خطأ لا بحجم التفاتة ضالة لجندي، أو «فشكلة» بالخطوات، أو سقوط أحدهم، إنه خطأ بحجم قذف ماء صهريج مكافحة الشغب على المنصة مباشرة.
أخذنا علماً إذن بما فعل نظام الملالي بحائكي السجاد، ولطالَما وصف النظام نفسه من قبل الممانعين المدافعين عنه بذكاءِ ومهارةِ حائكي السجاد بأدائه السياسي.
سوى أننا نكتشف، مع فَشَلين كبيرين، بهجوم 14 نيسان/ ابريل، كما في حادثة المنصة، أن نظام طهران حوّل السياسة والحياكة معاً إلى مضحكة.
إذا كان من نصيحة يجب أن تسدى لنظام الملالي فهي أنْ التفتوا إلى حياكة السجاد، فذلك أحصن لهيبة بلدكم، لو كنتم تعلمون.

بي بي سي.. قلة ضمير

بعد ستة أشهر على بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، يعود محرر «بي بي سي» الدولي جيريمي بوين إلى كيبوتس نير عوز، الذي يبعد 1 كلم ونصف عن قطاع غزة. يقول تقرير المحطة البريطانية إن المكان من بين المواقع الأكثر تضرّراً إثر هجمات «حماس» في 7 أكتوبر الماضي.
يتجول المراسل في البيت المحترق المهجور، المتروك منذ بداية الحرب، يستعرض غرفه، وخصوصاً الأريكة والثياب التي كانت مطوية (نشهد لك بأن استخدام هذه الكلمة صيدٌ مهم كمؤثر دعائي) بعناية حينذاك.
يقول بوين، في تقريره، إن «التنقّل في أرجاء هذا المنزل قد يجعلك تفهم لماذا يعتقد الإسرائيليون بشدة أنهم يخوضون حرباً عادلة في قطاع غزة»، ويضيف: «يشاركهم حلفاؤهم نفس الشعور (أي لماذا يخوضون حرباً عادلة)، ويوضح: «الخلاف حول الأساليب التي تستخدمها، وأودت بحياة العديد من الفلسطينيين الأبرياء».
العبارة الأخيرة فقط هي نوع من دفع اللوم، ادعاء بأن التقرير موضوعي لا ينحاز لطرف، قبل أن تأتي العبارة الختامية المؤثرة: «أما بالنسبة للأسرة التي عاشت هنا، في هذا المنزل، فقد ماتوا».

 الكسل المهني أحياناً ليس مجرد كسل، أن تكون صحفياً كسولاً في منطقة مشتعلة لن يكون أقل من قلة ضمير

لا تدري لماذا يعود المراسل إلى هذا البيت، غياب السبب المباشر للتقرير هو ما يدفع للاعتقاد بانحيازه وخدمته بشكل مباشر للرواية الإسرائيلية، التي باتت مفضوحة في أرجاء العالم، ومحرجة جداً لإسرائيل وحلفائها، إذ لا يمكن أن يكون ثمن احتراق بيت وموت أسرة، قتل وإصابة ما ينوف على مئة ألف إنسان، وتدمير مدن بحالها.
التقرير كان يمكن أن يكون مقبولاً مهنياً فقط غداة هجمات «حماس»، أما الآن، بعد ستة شهور، فإن لديك ملايين الحكايا والموضوعات والأسباب لتعد تقريراً مختلفاً، أساساً كيف يجد محرر الشؤون الدولية في المحطة «العريقة» الوقت ليعود إلى بيت فارغ، من دون سبب معقول!
لا نريد أن نرسلك إلى قلب غزة، فقد لا يبدو الأمر مناسباً تماماً لراحة بالك، خصوصاً بعد أن رأيتَ إسرائيل لا تستثني أحداً من الاستهداف، بمن فيهم فريق المطبخ الدولي العالمي، ولا بد كذلك أن تكون قد وصلتك أرقام الضحايا من الصحافيين الذين استهدفتهم حرب إسرائيل على غزة.
لا نريد أن نرسلك إلى هناك، فتقول إن اختصاصك هو تغطية الجانب الإسرائيلي، ولكن هنا أيضاً، حيث تقبع، يمكن أن ندلّك على آلاف الحكايات التي تستحق التغطية والتقارير الإخبارية المصورة. هل تعلم شيئاً عمّا يحدث في مدن الضفة الغربية المحتلة؟
مشفق فعلاً يا بوين أن تختار، في خضم هذا الزحام من القصص والأخبار والأحداث اليومية المروعة والصور، الذهاب إلى بيت وحكاية تعود إلى ستة شهور خلت!
هل تعرف القاعدة الصحفية التي تقول «ليس هناك أقدم من جريدة أمس»؟ ما بالك أن تقدم جريدةَ ما قبل ستة شهور. إلى هذا الحدّ خبرك قديم.
أحياناً الكسل المهني ليس كسلاً وحسب، أن تكون صحفياً كسولاً في منطقة مشتعلة لن يكون أقل من قلة ضمير.

* كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية