حفريات محظورة !

حجم الخط
0

سيبدو مثيرا للسخرية والاشفاق معا ذلك الرجل الذي يحمل المرآة ويصفف شعره او ينحني ليلمع حذاءه تحت غارة جوية، فالضحك كما قال برغسون هو وليد مفارقات من هذا الطراز، لهذا نتردد كثيرا قبل التورط بالاشتباك بين المقال والمقام.
وبغير ذلك نصبح كتلك الفتاة الشاعرة التي اصطحبت صديقها الى احدى حدائق لندن في الحرب العالمية الثانية وقالت له: ما لنا وما يحدث الان، فالحياة أجدر من أي شيء آخر لنكتشف بعد فوات الأوان أن والدها قتل في تلك الحرب لكن وهو في الطريق الى البيت، وأن الأمر باغتياله مرّ بأسلاك ومسامير وربما خشب المقعد الذي كانت تقتسمه مع صديقها، وحين كتب سارتر عن فلوبير قال عبارة سوف تقترن الى الأبد بصاحب مدام بوفاري، وهي قوله ان فلوبير فوّت على نفسه فرصة غير قابلة للاستدراك، عندما أدار ظهره لاحداث جسام وقعت في فرنسا تلك الايام.
وسارتر نفسه الذي كان قبيل احتلال فرنسا مستغرقا في سجالاته الوجودية ما ان بدأ الاحتلال ولاحت اول دبابة نازية في باريس حتى هبط مع ابرز مثقفي جيله الى باطن الارض، وبدأوا بكتابة مقالات سياسية ومقاومة في صحيفة كومبا، ومن مفارقات تلك المرحلة ان الأعداء التقليديين لاسباب ايديولوجية من أمثال لويس اراغون الماركسي ومورياك اليميني المتدين وجدوا انفسهم يقتسمون رغيفا ومحبرة وورقة، لأن المشترك الاعظم تاريخيا ووطنيا بينهم قد اصبح في مهب السطو والابادة.
لكن لهذه الاطروحة وجهين، أحدهما مباشر وسطحي يفكر بقلبه فقط، والآخر جوهري وجدلي له امتدادات في الذاكرة والخيال معا، لهذا كان ما كتب في تلك الآونة الفرنسية الحرجة مشروطا بالكفاءة ذاتها، وليس مجرد هتافات موزونة شعرا او صخبا لفظيا تنتهي صلاحيته فور الفراغ من اطلاقه.
وحين ترجم كتاب سارتر الشهير بعنوان ‘ما الأدب’ والذي أفرد فيه فصولا لما سماه الأدب الملتزم كانت اساءة الفهم كالعادة بالمرصاد لهذا الرأي، وسرعان ما تحول الالتزام الى الزام، واصبح الحديث عن امرأة او شجرة او غيمة خيانة للخندق الكبير الذي اتسع لوطن، ورغم ما بذله مثقفون ونقّاد من جهة لفرز الغثّ من السمين في هذه الاطروحة، الا ان اشباه المثقفين ممن أفرزتهم مؤسسات واحزاب اصروا على مواصلة اطروحاتهم المضادة، فضيقوا مفهوم المقاومة بحيث اصبح بمساحة فوهة بندقية، وتناسوا او أغفلوا بفضل نقصان الوعي ان المقاومة تتسع للحياة كلّها، وهناك مثالان على الاقل يحضراني عن مدرس بريطاني قصفت المدرسة التي كان يمارس فيها مهنته فأصر على اكمال الدرس على اطلال المدرسة، وحذف الفارق التقليدي بين الفحم والطبشور الأبيض، لأن اللوح اصبح بسعة أفق البلاد، وفي فرنسا قصف المسرح الذي كان يقدم مسرحية الذباب، فأصر المشاهدون على البقاء تحت وابل الدخان والغبار لأن الممثلين قرروا مواصلة العرض.
المثال المضاد هو ما قاله الراحل د. سهيل ادريس بعد حزيران 1967، وهو انه تلقى ردا على رسالة كان قد طلب فيها من احد الكتّاب العرب ان يبدي رأيه في قضية معرفية، وكانت خلاصة الرّد ان الظروف التي طرأت على العرب في تلك الايام لا تسمح بمثل هذه الرفاهية، ورغم ان الهزيمة بحدّ ذاتها هي نتاح تكوينات تربوية ومعرفية وهذا ما تولى تحليله بعد ذلك مثقفون منهم د. صادق العظم، ونديم البيطار وشاكر مصطفى وآخرون !
* * * * * * * * * * *
هل ستبدو الكتابة عن أي شأن او شجن انساني في زمن الحرب اشبه بتصفيف الشعر تحت غارة جوية ؟ ام ان التضاريس الصارمة والموروثة لحياتنا بخطوط طولها وعرضها تحتاج الى اعادة نظر؟ في المقالة السابقة في هذه الزاوية تحدثت ولو بشكل عابر عن ازوالد شبنجلر وكتاب ‘تدهور الغرب’ الذي كان مستغرقا في تأليفه خلال سنوات الحرب العالمية الأولى، لأنه رأى من خلال تلك الحرب ما قبلها وما يعقبها، لكن هذا لا يعني انه ليس هناك شعراء وكتاب من الالمان لم يسارعوا الى التعبير المباشر عما حدث، لكن حين نقرأ روايات ريمارك مثلا ومنها وقت للحب ووقت للموت او كل شيء هادىء على الجبهة الغربية، نجد ان الرجل في منفاه لم يتنازل عن الشرط الروائي، وما حدث هو أن بعض الفصول مما كتب نشرت في المانيا باسم مستعار، لكن الوزير النازي والرّقيب غوبلز استطاع ان يحزر اسلوب ريمارك، لأن من كتب عن وقت للحب ووقت للموت لم يكن لديه كمبدع وقتان او بمعنى ادق اسلوبان !
* * * * * * *
هناك ما يغرينا احيانا باستدعاء الطب واستعارة بعض حالاته ونحن نتحدث عن الكتابة، فطبيب القرية وهو على الارجح حلاقها قد يتعامل مع ورم على سطح الجلد بسكين ملوّث ولا يرى ما وراءه، بعكس الاخصائي الذي يذهب الى الدّم وكل ما هو باطني لتحديد جذر الداء، وما كان ليحيى حقي ان يكتب روايته ‘قنديل ام هاشم’ الا بعد ان شاهد عددا كبيرا من ابناء جيله ووطنه فقدوا البصر بسبب تلك الخرافة ومنهم طه حسين، لكن ليس هناك من يصنّف رواية حقي في خانة الأدب المقاوم !
لأن التخلف بكل افرازاته السّامة غير مدرج في قائمة الاعداء، بل هو الجهل المقدس كما يسميه بونفوا .
ان مجتمعات راوحت لقرون وليس لعقود فقط بين نظم اتوقراطية وثيوقراطية وباترياركية لا بد ان يكون افرادها باستثناءات قليلة مُنتجات تاريخية تعاني من خلل بنيوي، وقد حاولت مدفوعا بفضول شخصي البحث في احدث المعاجم العربية عن تعريفات دقيقة لمصطلحات ومفاهيم مثل الحداثة والتراث، فالحداثة هي اول الشيء وابتداؤه، والمعجم الذي قدم هذا التعريف الاختزالي والاشتقاقي للحداثة في ثلاث كلمات فقط اعطى لمصطلح الحكاية صفحة ونصف الصفحة ومثلها ايضا لمصطلح الحبكة، فما دلالة ذلك، هل هو الفهم الشكلي للحداثة فقط ؟ ولكي تكتمل المفارقة، يقول ماكفرلين في كتابه عن الحداثة في الغرب ان بيان نعيها صدر في برلين عام 1815 اي قبل قرنين، فهل كانت الحداثة بكل تياراتها وتجلياتها في اوروبا مجرد اول الشيء وابتداؤه ؟ ان أية محاولة لإبطال مفعول العجب ازاء ما يحدث الآن لهذه المجتمعات من ارتهان وتيه وتجريف وعي لا بد أن تكشف السّبب، انه هاجع في النخاع، والمعالجات لا تزال بدائية، تماما كمن يعالج السرطان او الأيدز بكمادات الماء البارد او بإجراء جراحة للدماغ في دكان حلاق القرية !

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية