حرب العسكر في السودان تضع ملايين السودانيين في مواجهة مرارات النزوح والتهجير القسري

ميعاد مبارك
حجم الخط
0

الخرطوم ـ «القدس العربي»: لم يكن صديق علي قد استجمع قواه بعد رحلة نزوحه الطويلة والشاقة من العاصمة الخرطوم إلى مدينة ود مدني، التي سرعان ما اجتاحتها قوات الدعم السريع لتلقي به مرة أخرى في مواجهة المجهول.

وجد نفسه وسط المعارك مجددا، بين قوات متقاتلة لا تكترث لأوضاع ذوي الإعاقة الحركية أو غيرهم، ووصل بهم الأمر لتهديده بالقتل عند كل نقطة تفتيش.
قال صديق لـ«القدس العربي» واصفا رحلة نزوحه الطويلة: «كنا نسير نحو المجهول يتهددنا الموت من كل إتجاه، بعد نفاد الوقود أضطر رفاقي لوضعي داخل (تكتك) ودفعي لأيام خلال محاولتهم إنقاذي من موت بدا محققا».
بعد دخول قوات الدعم السريع إلى مدينة ود مدني نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي، سرت حالة من الهلع والرعب في المدينة التي كانت تستضيف مئات الآلاف من النازحين الذين فروا من جحيم الحرب في الخرطوم. لتبدأ موجة جديدة من النزوح. يقول صديق: إن الناس كانوا يملئون الشوارع لا يعرفون إلى أين السبيل، بينما كانت تقتحم قوات الدعم السريع المنازل وتهدد أصحابها بالقتل، وهي تلقي عليهم اتهامات بالانتماء إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير والتخابر مع الجيش، فضلا عن حالات النهب والانتهاكات الواسعة.

أوضاع إنسانية بالغة التعقيد

وحسب إحصاءات الأمم المتحدة تسببت الحرب السودانية في نزوح نحو 7 ملايين شخص في ظل أوضاع إنسانية بالغة التعقيد، محذرة من أنها أكبر أزمة نزوح يشهدها العالم.
وقبل اندلاع الاشتباكات في 15 كانون الأول/ديسمبر الماضي، قدرت مصفوفة تتبع النزوح في السودان وفق مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في السودان «أوتشا» لجأ حوالي 234.000 نازح ـ 46 في المئة من إجمالي المتضررين ـ من ولاية الخرطوم إلى ولاية الجزيرة وشهدوا نزوحًا جديدا بعد اندلاع أعمال العنف في ولاية الجزيرة في 15 كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وبينت المنظمة الدولية للهجرة أن 152.400 نازح يعيشون في 380 موقعا في محليات شرق الجزيرة، ومدني الكبرى، والحصاحيصا، وجنوب الجزيرة، والكاملين، وأم القرى قد غادروا تلك المواقع. وشملت هذه المواقع 133 مدرسة و24 مركزا للإيواء و35 قرية و50 حيًا.
وحسب الإحصاءات حوالي 525.000 من النازحين لجأوا إلى ولاية الجزيرة وذلك حتى 13 كانون الأول/ديسمبر مع ورود تقارير بأن الغالبية العظمى قد نزحوا من ولاية الخرطوم (أكثر من 99 في المئة). وكان معظم النازحين في محليات الحصاحيصا (17 في المئة) ومدني الكبرى (16 في المئة) والكاملين (16 في المئة) وشرق الجزيرة (16 في المئة) والقرشي (10 في المئة).

اتساع رقعة الحرب

بعد اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منتصف نيسان/ابريل الماضي، أصبحت ولاية الجزيرة وعاصمتها ود مدني ملاذا آمن لملايين النازحين الفارين من الحرب المندلعة في العاصمة الخرطوم ومدن أخرى.
وانتقلت إليها المنظمات الإنسانية والمستشفيات والخدمات الطبية، التي تقدم الرعاية الصحية لمئات الآلاف من المرضى الذين نزحوا من مختلف ولايات السودان، بمن فيهم جرحى ومصابو الحرب والمرضى بأقسام العناية المركزة.
وحذرت نقابة الأطباء السودانيين من أن اتساع رقعة الحرب وتمددها إلى مدينة ود مدني يضع البلاد أمام واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في ظل الحرب الراهنة. ولفتت إلى أن مدينة ود مدني بعد اندلاع الحرب في الخرطوم ومدن أخرى أصبحت ملاذًا آمنًا لمرضى القلب والسرطان والكلى والحالات الطبية المستعصية، الذين يواجهون مصيراً مجهولاً بسبب إغلاق المستشفيات ونقص الدعم الصحي والموارد الطبية ونزوح الأطباء والكوادر الصحية الى خارج مدينة ود مدني.
وفي ظل تلك الأوضاع الكارثية، خرج صديق بين مئات الآلاف من المدنيين الفارين من المعارك التي اتخذت من الأحياء السكنية ميدانا للقتال. قال أن الخروج المفاجئ من ود مدني كان قاسيا على نحو لا يمكن وصفه، وأنهم فروا نحو المجهول لا يعرفون أين يبيتون ليلتهم أو ماذا يأكلون، بينما اضطرت أعداد كبيرة للنزوح سيرا على الأقدام بسبب انعدام الوقود، وهم مسكونون بالرعب من أن تلحق بهم المعارك العسكرية ويجدوا أنفسهم في مواجهة الرصاص من جديد.
سرعان ما نفد الوقود القليل من سيارة رفاق صديق في منطقة خالية من الحياة، بينما تمكن منهم التعب والعطش، كانت آمال النجاة ضعيفة إلا أنهم وضعوه في «تكتك» صغير في محاولة لإنقاذه وأخذوا في دفعه وصولا إلى محطة وقود مغلقة. كان الناس يحاولون كسرها للتزود بالوقود، إلا أنها اشتعلت قبل أن يسمعوا صوت إطلاق رصاص. قال: أنهم ظنوا أن قوات الدعم السريع قد أدركتهم.
وبعد انقطاعهم في إحد الشوارع وهو يحاولون الفرار إلى الريف الغربي لولاية الجزيرة، تقدمت قوات الدعم السريع وفي لحظات بدأ الاشتباك مع الطيران العسكري، لقد كانت لحظات عصيبة. لكن معاناتهم لم تنته هناك حيث لم تكترث القوات في الحواجز لأن صديق من ذوي الاحتياجات الخاصة حيث تم إيقافه أكثر من عشر مرات للاستجواب والتهديد، وتفتيش الأغراض والأمتعة.

انتهاكات الدعم السريع
ضد المدنيين

قال إن انتهاكات الدعم السريع ضد المدنيين الفارين من المعارك كانت فادحة وأنهم كانوا يتهمون الجميع بالتخابر مع الجيش أو الانتماء للإسلاميين ويتم تهديدهم بالقتل خلال الاستجواب.
«حنتمك في مكانك» أي سنقتلك في مكانك، هذا ما قاله له جنود الدعم السريع وهم يفتشون أغراضه وينكلون به على نحو مهين للغاية، لقد كان مرعوبا للغاية لأنه لم يعرف كيف يثبت لهم أنه شخص مدني لا نشاط عسكريا له.
لقد كانت رحلته طويلة للغاية بدأت مع تمدد المعارك إلى الحي الذي يقطن فيه مع أسرته، قال إن المعارك لم تمهلهم لأداء صلاة عيد الفطر، حيث أدى تبادل القصف المدفعي والمعارك الدامية إلى مقتل العديد من جيرانهم ما أدى إلى تصاعد الهلع بين الأهالي الذين فروا تاركين كل شيء خلفهم. بعضهم استطاع الخروج من الخرطوم وآخرون توجهوا نحو الأحياء التي كانت آمنة وقتها.

ينتظرون تمدد المعارك

بسبب وضعه الصحي لم يستطع علي الذي فر من بيته إلى منطقة الكلاكلة جنوب الخرطوم، التي سرعان ما تمددت إليها المعارك وظلت لأشهر تحت الحصار.
بعد 4 أشهر من الحصار إستطاع النزوح إلى ود مدني التي تبعد نحو 180 كلم من العاصمة الخرطوم. كانت رحلة شاقة استمرت ليومين بسبب ارتكازات التفتيش والمعارك وتعرضهم لمضايقات كثيرة في الارتكازات العسكرية.
عند وصولهم إلى ود مدني تحسن الوضع واستعادوا شعورهم بالاستقرار ولكن سرعان ما انتقلت الحرب إلى هناك وبدأت رحلة نزوح أكثر صعوبة من سابقتها.
قال إنهم يعيشون أوضاعا بالغة التعقيد في قرى الريف الغربي لولاية الجزيرة ينتظرون تمدد المعارك إليها، الذي يبدو وشيكا وسط نقص حاد في المواد التموينية وصعوبة حركة النقل.

معسكر أدري للاجئين

إلى معسكر أدري للاجئين بدولة تشاد الواقع على الحدود الغربية للسودان، وصلت حنان إسحاق وأسرتها تاركين جثة والدهم خلفهم، قالت لـ«القدس العربي» أنه قتل بعد سيطرة قوات الدعم السريع على حامية الجيش في مدينة الجنينة في 4 تشرين الأول/نوفمبر الماضي. كان الوالد في طريقه من مسجد الحي إلى بيتهم عندما قتل. حاول الأبناء الوصول إلى جثة الوالد إلا أن القناصين كانوا يستهدفون كل من يحاول الاقتراب من جثث القتلى. ظلت الجثة على حالها لعدة أيام. وبدأ استهداف المنازل والأسر وعمليات القتل الجماعي والتهجير القسري على أساس عرقي، الأمر الذي أضطر العائلة إلى النزوح إلى أدري دون مواراة جثمان والدهم الثرى.
قالت حنان: أنهم لا يعتقدون أنهم نجوا بعد تركهم جثة والدهم خلفهم.
ويقدر عدد السودانيين الذين فروا إلى تشاد بـ(400) ألف معظمهم من النساء والأطفال، بعد سيطرة قوات الدعم السريع على أربع من أصل خمس ولايات في إقليم دارفور غربي السودان. فيما تواجه تلك القوات اتهامات بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وأعمال تهجير قسري ضد قبائل المساليت.
وفي مدينة كسلا شرق السودان، والتي نزح إليها مئات الآلاف بعد اندلاع المعارك في مدينة ود مدني يشكو الناشطون في المجتمع المدني من تجاهل الحكومة للأوضاع الكارثية في البلاد.
سمر سليمان ناشطة في مجال العمل الطوعي في مدينة كسلا أشارت في حديثها لـ«القدس العربي» إلى أن عدد مراكز الإيواء في مدينة كسلا ارتفع بشكل كبير بعد أحداث الجزيرة، وأنهم يوميا يقومون بفتح مدرسة أو اثنتين لإيواء النازحين الذين يتوافدون بأعداد كبيرة إلى كسلا. محذرة من أن جميع المدارس امتلأت بالنازحين وأنه ما تزال الجموع تتوافدمما يتطلب معالجات سريعة لتوفير مأوى للنازحين الجدد.
ولفتت إلى الجهود المجتمعية لمساعدة النازحين مقابل الدور الحكومي الذي وصفته بالضعيف. وكذلك المنظمات العاملة في مجال العمل الإنساني في كسلا، قالت إنها تقدم خدمات شحيحة، ما يجعل معظم المسؤولية تقع على عاتق المجتمع والشبان المتطوعين والمبادرات الشعبية.
وأضافت: «الحكومة لا تقوم بأي دور حتى الآن. المدارس في كسلا امتلأت بالكامل لذلك لا يوجد خيار إلا بنصب الخيم داخل ساحات الأحياء».

العمل المجتمعي

أما حسن تكروري إدريس المشرف على مركز إيواء مدرسة الشهيد ابو فاطمة والمشرف العام على مدارس أبو ذر الغفاري والتجارية بنات وذات النطاقين بمنطقة الحلنقة بولاية كسلا، بين في حديثه لـ«القدس العربي» أن عدد المدارس التي تستضيف النازحين يبلغ 250 مدرسة. وأنهم قاموا بإنشاء عيادة ميدانية في مستشفى تاج العافية وبدأوا التعاون مع مستشفى للعيون. وأن اهالي الحلنقة يقفون وقفة واحدة من أجل اكمال نواقص المراكز عبر العمل المجتمعي.
وتوقع أن يتصاعد عدد النازحين بينما مكاتب الهلال الأحمر مكتظة بالوافدين الجدد، مشيرا إلى الحاجة إلى ناموسيات مشبعة ودفايات وبراميل في ظل أزمة المياه التي تواجه المنطقة.
وأضاف: هناك جهود لحلها عبر نقل المياه إلى مراكز الإيواء عبر خزانات مياه لإيصال المياه النقية الصالحة للشرب.
وأشار مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية «اوتشا» إلى جهود الإغاثة في ولايتي كسلا والبحر الأحمر، لافتا إلى تحرك المنظمات الإنسانية للاستجابة لاحتياجات النازحين الجدد من ولاية الجزيرة. منهم منظمة أطباء بلا حدود هولندا التي بدأت العمل في ولاية كسلا. في 52 موقعًا (مدارس حكومية في المقام الأول) تستضيف الأسر النازحة. وبينت أن المنظمات تستجيب للتدفق الجديد بمواردها المتاحة، وأن الوضع يتسم بالدينامية مع التنقل المستمر للعائلات داخل وخارج ولاية كسلا. ومن المقرر أن يقوم برنامج الغذاء العالمي بتوزيع حصص المساعدات الغذائية العامة قريبًا على 4.818 نازح من ولاية الجزيرة في 52 نقطة تجمع. ويخطط فريق اللجنة الدولية للصليب الأحمر أيضًا لتوفير الغذاء بالتنسيق مع برنامج الغذاء العالمي.

تحديات أمام عمل
المنظمات الإنسانية

وفي ولاية سنار التي تبعد 105 كلم من مدينة ود مدني لا يزال الوضع الأمني يشكل تحديًا كبيرًا حسب «اوتشا» حيث تشير التقارير إلى حدوث قصف مدفعي وجوي في ضواحي سنار، بما في ذلك بالقرب من مصنع سكر سنار، على بعد حوالي 32 كم شمال غرب مدينة سنار. بينما لا يزال انقطاع الإنترنت وشبكات الهاتف المحمول والخدمات المصرفية والسيولة النقدية يشكل تحديات أمام عمليات المنظمات الإنسانية.
وأشار إلى أن جمعية الهلال الأحمر السوداني بدعم من جمعية الهلال الأحمر الكويتي، قامت بتوزيع المواد الغذائية (السكر والعدس والأرز والزيت والفاصوليا) على 2.367 نازح من ولاية الجزيرة في خمسة مواقع تجمع و7.000 من سكان المجتمعات المضيفة في سنار. كما تواصل جمعية الهلال الأحمر السوداني حملات تعزيز النظافة وتقدم الإسعافات الأولية والدعم النفسي والاجتماعي للنازحين في مواقع التجمع في سنار.
وما تزال تتصاعد المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، التي تمضي نحو شهرها العاشر، من دون تحقيق أي من الجانبين نصر حاسم.
ويواجه المدنيون منذ اندلاع حرب 15 نيسان/ابريل الماضي، أوضاعا إنسانية شديدة التعقيد، بينما تتصاعد العمليات العسكرية داخل المدن والأحياء، والتي أسفرت عن مقتل 10 آلاف سوداني على الأقل ونزوح نحو 7 ملايين آخرين، في حين تهدد نذر المجاعة أكثر من 20 مليون سوداني، وفق إحصاءات الأمم المتحدة.
بينما لا يبدو أفق قريب للتسوية، على الرغم من التحركات المحلية والدولية الواسعة، حيث تتمسك الأطراف العسكرية بمواقفها المتصلبة على الرغم من تأكيدها المتواصل على الدفع نحو التسوية وإيقاف الحرب.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية