حراك السترات الصفراء القشة التي أوجعت ظهر النظام السياسي الفرنسي

أمير المفرجي
حجم الخط
0

لم يكن اتساع ظاهرة خروج “السترات الصفراء” في البداية، مؤشرا لبداية حركة سياسية أو عقائدية، تأخذ من هذا اللون، رمزا يتوافق مع أهدافها أو تاريخها، بل كان السبب هو إلزامية ارتدائها التي فرضتها قوانين السير، لسائقي المركبات المستهلكة للوقود وتزامنها مع فترة ارتفاع أسعار المحروقات، ليجعل من هذا اللون رمزا شعبيا صلبا، يجمع ملايين الفرنسيين من ذوي الدخل المحدود، نتيجة لارتفاع أسعار الوقود الذي فرضته السلطات الفرنسية، تطبيقا لبدء عملية التغيير في استعمال الطاقة والابتعاد تدريجيا عن الوقود العضوي الذي يتمثل في النفط وإبداله بمحركات بنظام الطاقة الكهربائية المشحونة في المستقبل.

أحد أسباب هذه الاحتجاجات، هي مطالب الحركة بإلغاء الضريبة على الوقود ردا على الإجراءات الهادفة لخفض انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري التي تقودها الحكومة تماشيا مع القوانين الأوروبية للحفاظ على البيئة. حيث ان تجاهل الرئيس الفرنسي لهذه المطالب ومن ثم القبول بإلغائها، لم يفلح في حلّ هذه الأزمة أو حتى امتصاصها.

وعلى الرغم من شرعية هذه التدابير التي فرضتها قوانين الاتحاد الأوروبي على الحكومة الفرنسية، للحد من استعمال محركات الديزل المسببة للتلوث البيئي، بيد ان طبيعة الحالة الاقتصادية نتيجة لانخفاض معدل القوة الشرائية لملايين من الفرنسيين، وتشبث الرئيس الفرنسي بتطبيقها، جعل من اللون الأصفر الذي خصص في البداية لحماية السائق الفرنسي من خطورة السير ليلا، رمزا لحمايته من الفقر، نتيجة الغلاء وتصاعد الضرائب وفقدانه للصلة مع الحاجة الماسة للسكان في التنقل بين المحافظات للعمل والعيش الكريم.

لقد كان لتصاعد حدة العنف في احتجاجات “السترات الصفراء” واتساع قاعدتها الشعبية، على الرغم من اختلاف حدود طبيعتها المطلبية، من خلال مشاركة العديد من قطاعات المجتمع الفرنسي، ارجاع ذاكرة المجتمع الفرنسي إلى أكثر من خمسين عاما، ليذكّر بمشاهد العنف التي عاشتها باريس عام 1968 على الرغم من عدم تشابه هذه الاحتجاجات مع ثورة الشباب والطلاب التي سميت باحتجاجات “أيار 68” من حيث المطالب والأهداف. حيث ترجمت احتجاجات الطلبة التي انطلقت من جامعة السوربون في الحي اللاتيني القديم، الرغبة في تغيير طبيعة النظام والقوانين التي سادت في ظل الجمهورية الخامسة التي قادها الجنرال ديغول، طلبا للوصول إلى المزيد من الحرية والانفتاح الاجتماعي غير المُقيد. في الوقت الذي ترجمت احتجاجات “السترات الصفراء” الرغبة في الخروج من دائرة تصاعد الأزمة الاقتصادية الخانقة، التي يعاني منها الفرنسيون منذ أكثر من ثلاثين عاما. وقد أفصح اختيار جادة الشانزليزيه التجارية ورمز فرنسا الاقتصادي، كمركز للتظاهر والصدام مع القوى الأمنية، عن رغبة المتظاهرين في ربط مطالبهم بالوضع المعيشي المتدني، الذي لحق بالطبقة الوسطى، وهي رسالة قد لا تخلو من دلالة، هدفها كشف صورة فرنسا البرّاقة، التي لا تعكس حقيقة ما يجري في داخلها.

ولفهم ما يحدث، أصبح من الأجدر العودة إلى الماضي في قراءة سريعة لتداعيات التحولات المجتمعية التي حدثت في السنوات الثلاثين الأخيرة، نتيجة لتقلص حجم الطبقات العاملة والوسطى، كتلك الموجودة في أسفل الهرم الاجتماعي للبلد في فترة السبعينيات من القرن العشرين، والحديث عن الطبقة العاملة الفرنسية التي تقاسمت ظروفًا اقتصادية واجتماعية وثقافية مشتركة خلافا لما يحدث اليوم بعد التغير المجتمعي في نسبة الطبقة العاملة، الناتج من زوال الصناعة المحلية، نتيجة للانفتاح الاقتصادي الذي جاءت به رياح العولمة، التي زادت في تفكيك الثقافة العمالية، التي ارتبطت بالطبقات الدنيا، لصالح الوظائف الخدمية المريحة، رغبة في الوصول إلى القيم البورجوازية الحديثة للمجتمع الغربي الاستهلاكي الذي يمثله المجتمع الفرنسي في الوقت الحاضر، على الرغم من الصعوبات التي واجهت هذه الطبقة العاملة للخروج من أسفل السلم، نتيجة للنسبة الكبيرة للعاطلين عن العمل وتزامنها مع ازدياد معدل هجرة الأيدي العاملة الأجنبية إلى فرنسا.

لا شك أن للطبيعة العفوية لهذه الاحتجاجات، واكتسابها زخما واسعا عبر وسائل التواصل الاجتماعي من قبل فئات مختلفة لم تكن وليدة اليوم، إذا نظرنا بعين الاعتبار لطبيعة الأزمة السياسية، التي تربط النخبة الحاكمة بالمجتمع، منذ أكثر من ثلاثين عاما بعد فشل النظام الاقتصادي الداخلي، الذي ساهم بدوره في خلق فجوة بين النخبة الحاكمة والمجتمع، نتيجة لخروج هذه الأهداف الاقتصادية من دائرة السيطرة الفرنسية، وانتقالها إلى دائرة السيطرة الأوروبية، من خلال تبعيتها المباشرة للسلطة الممنوحة للمفوضية الأوروبية، التي تجاوزت العملة الفرنسية وأضعفتها، بعد التخلي عن السياسة النقدية المحلية في نظام اليورو لصالح ألمانيا والدولار الأمريكي.

وهنا لا بد من التأكيد أن بداية الأزمة، التي حملتها احتجاجات “السترات الصفراء” كانت عام 2005 عندما صوتت أغلبية الفرنسيين بعدم قبول انضمام البلاد إلى مشروع ما سمي بالمعاهدة الأوروبية، نتيجة لرفض النخبة الحاكمة تطبيق قرار الشعب الفرنسي الرافض لمعاهدة لشبونة التي فرضت على فرنسا البقاء في النظام الاقتصادي الأوروبي، على الرغم من الصعوبات التي يجلبها للاقتصاد الوطني.

من هنا، يبدو واضحا ان ظاهرة احتجاجات الغلاء التي تحملها أصوات “السترات الصفراء” ليست سوى “قطرة الماء التي أفاضت الكأس” التي يتحملها النظام السياسي في رفضه لتصويت المواطنين الديمقراطي، من خلال تشبث النخبة اليسارية واليمينية التي حكمت فرنسا منذ عام 2005 بالالتحاق بركب السيطرة الأوروبية، والتخلي عن نموذج الديمقراطية الذي يعود إليها الفضل في دعم الفرنسيين وفخرهم ورخاء اقتصادهم.

من هذا المنطق، ترجمت مطالب حركة “السترات الصفراء” وبغياب ناطق بلسانها أو زعيم، وعدم خضوع الحركة لأي حزب سياسي، عن بداية نضوج أزمة اجتماعية واقتصادية، استمرت لعقود وما زالت تهزّ فرنسا. في المقابل، ورغم هذه الاستقلالية لم تستطع أن تحمي هذه الانتفاضة من تدخل تيار اليمين القومي واليسار الفوضوي، إلا أن هذه الاحتجاجات العفوية، ساعدت في السماح لهذه الأحزاب السياسية المتطرفة في الدخول إلى عمقها، والنجاح في بلورة إعلان رفضها لطبيعة النظام الحالي من خلال تأييدها المطلق للاحتجاجات، كتحصيل حاصل من جراء فقدان النخبة السياسية الحاكمة الصلة بمستقبل وأمنيات الشعب، من خلال غياب تحليل دقيق لأسباب استمرار الأزمة الاقتصادية، نتيجة الافتقار إلى الوضوح والشجاعة في اتخاذ الحلول، إضافة إلى تأثير قوانين الاتحاد الأوروبي وإملاءاته على الاقتصاد الفرنسي، ناهيك عن ظهور تنظيم “داعش” الذي ساهم في تعزيز تواجد وشعبية هذه التيارات وأطروحاتها المعادية، لبقاء فرنسا داخل الحدود الأوروبية، فيما يسمى بحدود “شانكان” التي فتحت أبواب الهجرة، لتساهم في تعميق حاضنتها الشعبية، والتي تعتبر من أهم أسباب صعود اليمين المتطرف.

الخلاصة التي نستطيع استحصالها من ظاهرة “السترات الصفراء” تأخذ أهميتها في تعبير ضمير الشعب الذي يشكل جزءًا من استمرارية التاريخ الفرنسي، المعروف برفضه الصمت بعد الشعور بالإهمال أو اللامبالاة. ولكن هذا الشعور الرافض في رأي الكثيرين لا يمثل معارضة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون فحسب، بل للمسؤولية الكاملة التي تتحملها النخبة السياسية الفرنسية ونظامها منذ أكثر من ثلاثين عاما. وهي بالتأكيد تعبير وشعور بالمقاومة عن حرية الشعب للدفاع عن مصالحه، التي عبر عنها فيكتور هوغو في خطابه في 9 تموز/يوليو 1849 أمام النواب حين قال “لم تنجحوا بعمل شيء ما دام الناس يعانون”.

يبدو ان صوت فيكتور هوغو هو الصوت نفسه الذي حملته “السترات الصفراء” اليوم، انه روح المقاومة الفرنسية التي لا تزال تحوم وتهمس، في أن عظمة فرنسا بنيت من خلال التضامن والشجاعة من أجل بلد حر.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية