جامع عقبة بن نافع في القيروان التونسية صرح علمي نشر الإسلام في أفريقيا والأندلس

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: هو أهم مساجد القارة الأفريقية على الإطلاق وبفضله وبفضل معالم إسلامية أخرى منها أضرحة الصحابة والتابعين وكبار العلماء والفقهاء ومشاهير التاريخ الإسلامي سميت مدينة القيروان التونسية رابعة الثلاث، أي أنها تأتي في القداسة في العالم الإسلامي بعد مكة والمدينة المنورة والقدس الشريف. يستمد المسجد أهميته من أهمية مدينة القيروان التي كانت عاصمة وحاضرة الإسلام الأولى في بلاد المغرب الإسلامي لقرون، وفيها ازدهرت العلوم وانتشر منها الإسلام في أفريقيا جنوب الصحراء وفي الأندلس.
وتأسست في هذا المسجد الكبير مدرسة القيروان الفقهية التي كانت وراء تأسيس جامعة الزيتونة بمدينة تونس، وهي أقدم جامعات العالم التي استمر فيها التعليم منذ التأسيس إلى اليوم ومن دون انقطاع، كما تأسست وانطلاقا من القيروان التونسية، وبعد فترة معتبرة من تأسيس جامعة الزيتونة، جامعة القرويين في فاس في أقصى بلاد المغرب على يد فاطمة الفهرية القيروانية ومن معها من أهل القيروان. كما ارتاد هذا المسجد الجامع عبر التاريخ مشاهير كثر في مختلف الميادين على غرار الفقه والشريعة والشعر والأدب والطب والفلك، خلد التاريخ التونسي والعربي أسماءهم حتى بات جامع القيروان قطبا علميا وثقافيا وحضاريا يضاهي في زمن الأغالبة والفاطميين والزيريين أو الصنهاجيين، بيت الحكمة في بغداد زمن الدولة العباسية.

الجامع المتحف

يتحدث د. الصحبي بن منصور أستاذ الحضارة الإسلامية بالمعهد العالي للعلوم الإسلامية بالقيروان عن دور الجامع لـ«القدس العربي» موضحا: «يعتبر جامع عقبة بن نافع بالقيروان من أكبر المساجد في العالم الإسلامي من حيث المساحة. وتعتبر المساحة المغطاة في الجامع والمخصصة للصلاة من أجمل ما بني في التاريخ المعماري الإسلامي وهي فسيحة وواسعة شأنها شأن صحن الجامع ويستند سقفها على الأعمدة الرخامية».
ويضيف محدثنا: «يعتبر منبر جامع القيروان أقدم منبر في العالم الإسلامي وقد تم صنعه في القرن الثالث للهجرة من الخشب المنقوش وهو تحفة فنية استثنائية لا مثيل لها حتى في المساجد الحديثة. ومن النفائس في هذا المسجد أيضا المقصورة التي صنعت في القرن الخامس للهجرة وهي أيضا أقدم مقصورة في العالم الإسلامي وما زالت محتفظة بالنقوش والزخارف إلى اليوم.
أما مئذنة الجامع والتي هي من أقدم المآذن في العالم الإسلامي فهي بحد ذاتها تحفة فنية ولها طابعها الخاص الذي يميزها عن غيرها. فهي مربعة الشكل وفي أعلاها قبة، والمربع يبدأ كبيرا في القاعدة ثم يضيق في الأعلى ويصل ارتفاعها إلى 31.5 متر. وقد باتت هذه المئذنة رمزا من رموز القيروان والبلاد التونسية وأصبحت تباع مجسمات صغيرة في محال الصناعات التقليدية يقتنيها السياح التونسيون والأجانب.
وتوجد في المسجد ست قباب وهي: قبة المحراب، وقبة باب البهو، وقبتان تعلوان مدخل بيت الصلاة، وقبة تعلو المجنبة الغربية للمسجد، وقبة في أعلى المئذنة. وتعتبر القباب من أجمل ما في هذا البناء الرائع ويعود تشييدها إلى عصر الدولة الأغلبية التي صارت معها القيروان عاصمة لدولة مستقلة استقلت عن الخلافة العباسية.
ويتابع بالقول: «يتميز عموما جامع عقبة بن نافع بحجمه الكبير بل لعله كان في عصره أضخم وأفخم مساجد العالم على الإطلاق، كما يتميز بكثرة قبابه وأعمدته وتيجانه وأقواسه المأخوذة من الطابع المعماري القرطاجي الذي تطور عبر الزمن. فقد غابت عن هذا الطابع الصور والتماثيل لتحل محلها الزخارف من خلال الأشكال الهندسية المتناسقة والخط العربي، وبدا المسجد وكأنه قلعة دفاعية مضاف إليها صومعة أو مئذنة».
ويؤكد المؤرخون وزوار هذا المسجد على أنه تحفة فنية معمارية تاريخية لا مثيل لها في العالم الإسلامي، وبأنه متحف في حد ذاته من خلال كل مكوناته التي يروي كل مكون منها قصة إبداع. فالأبواب لوحدها تحفة وكل عمود أو تاج أو قوس هو تحفة فنية وأثرية ناهيك عن المنبر والمحراب والمقصورة والقباب والزخارف على الجدران والمئذنة وبلاط الأرضية والساعة الشمسية وغيرها من مكونات المسجد المتحف.

تحسينات متعددة

يروي التاريخ أن عقبة بن نافع سيطر على القيروان كليا في حملته الثالثة عليها سنة 665 م، ودام بناء المدينة على أنقاض حصن قديم خمس سنوات شيد خلالها هذا الجامع الذي لم يكن في البداية بشكله الحالي بل كان بسيطا مثل كل مساجد القرن الأول للهجرة على غرار المسجد النبوي بالمدينة المنورة. إن أول من جدد بناء الجامع سنة 80 للهجرة هو القائد الأموي حسان بن النعمان الذي قام بهدمه مبقيا على المحراب الموجود إلى يوم الناس هذا وأعاد بناءه بعد أن وسعه وقوى بنيانه.
كما قام الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك خلال بداية القرن الثاني للهجرة بتوسعة الجامع فأضاف لصحن المسجد مكانا للوضوء وبنى مئذنة في منتصف جداره الشمالي. وخلال بداية النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة قام الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، الذي عاش في القيروان وتزوج منها زوجته الشهيرة وأم إبنه المهدي وجدة حفيده هارون الرشيد أروى القيروانية، بتوسعة المسجد وإصلاحه وترميمه وزخرفته.
وفي سنة 221 للهجرة، وبعد أن أصبحت أفريقية (تونس الحالية مع شرق الجزائر والغرب الليبي) دولة قائمة بذاتها يحكمها بنو الأغلب أصحاب شعار «لا غالب إلا الله» الذي تم الإستحواذ عليه من أمم أخرى، وكانت القيروان عاصمة هذه الدولة الأغلبية، قام ثاني أمراء بني الأغلب زيادة الله بهدم أجزاء من الجامع لتوسعته كما قام برفع سقفه وبنى قبة مزخرفة بلوحات رخامية على أسطوانة المحراب الذي لم يستطع هدمه بعد أن عارضه فقهاء القيروان رغبة في عدم هدم ما بناه عقبة بن نافع فأخفاه بالمحراب الجديد.
وقام الأمير أحمد الأغلبي سنة 261 للهجرة بتوسعة الجامع توسعة نهائية أخذ معها حجمه النهائي الذي بقي إلى يومنا هذا. وبلغ طول الجامع بعد هذه التوسعة 126 متراً وعرضه 77 مترا، وطول بيت الصلاة 70 مترا وعرضه حوالي 38 مترا. أما الصحن المكشوف فقد بلغ طوله 67 مترا وعرضه 56 مترا، ولهذا الصحن مجنبات عرض كل منها نحو ستة أمتار، ويغطي بيت الصلاة ثلث مساحة المسجد تقريبا.
كما قام المعز بن باديس الصنهاجي، في عهد الدولة الزيرية أو الصنهاجية وعاصمتها القيروان، بترميم المسجد وتجديده. كما بنى المعز مقصورة خشبية للجامع لا تزال موجودة إلى يومنا هذا بجانب محراب المسجد الذي شيده زيادة الله الأغلبي.
وبعد غزو القيروان من قبل قبائل بني هلال وبني سليم القادمين من المشرق والذين خربوا المدينة العامرة وحاضرة الإسلام الأولى في شمال أفريقيا وقضوا على حكم الزيريين للقيروان التونسية، قام الحفصيون بعد سنوات من هذا الحدث الأليم بتجديد المسجد وترميمه. ومنذ ذلك التاريخ وهذه التحفة المعمارية التاريخية تلقى العناية والصيانة لتستمر واحدة من أهم المعالم الإسلامية في العالم بأسره وليس فقط في تونس.

قلعة المشاهير

من أهم ما قيل عن جامع عقبة بن نافع بالقيروان أنه «ما من أمير أو خليفة أو سلطان يسعى لجميل الذكر وحسن الخلود ويبتغي ثواب ربه إلا وقد التمس وجها لإعمار هذا الجامع أو ترميمه وتحسين مظهره». وقيل أيضا أن «جامع القيروان يمثّل الوجه المتألّق للعمارة القيروانية التونسية التي ظلّت من أبرز روافد العمارة المغربيّة والأندلسية عبر التاريخ، حيث أصبح جامع عقبة بن نافع النموذج السائد والمثال الذي تحتذي به الجوامع المغربيّة عامّة والتونسيّة خاصّة».
وقيل أيضا أن «تونس بفضل جامعي عقبة بن نافع في القيروان والزيتونة في العاصمة تونس ليست بحاجة لتشييد مساجد ضخمة مثلما تفعل بعض بلدان منطقتها في العقود الأخيرة. فقد تغلغل البلد في الحضارة الإسلامية بصورة مبكرة فقامت هذه الحضارة بتشييد قلاعها الحصينة فيه وأهمها جامعا عقبة والزيتونة».
ولا يمكن للمرء أن يحصي مشاهير التاريخ الذين زاروا جامع عقبة بن نافع سواء من أهل القيروان أو من خارجها، إذ يكفي القول أن المدينة التونسية كانت عاصمة المغرب الإسلامي وأهم حواضره لقرون طويلة، وأن جامع عقبة بن نافع كان جامع القيروان الكبير لندرك أن من عُرفوا بالصلاح والتقوى والعلم الغزير من الأئمة والفقهاء وكذلك الخلفاء والأمراء والملوك والأطباء والنحويين والمفكرين والفلاسفة والأدباء والشعراء وعلماء الفلك والرياضيات والفيزياء الذين عرفتهم تونس منذ ظهور الإسلام، قد قدموا إلى ذلك المسجد للصلاة أو لطلب العلم أو للزيارة.
ومن المؤكد أن صحابة رسول الله من الفاتحين الأوائل وكذلك تابعوهم وعدد هام من أهل البيت النبوي الفارين من الإضطهاد في المشرق، اتخذوا من ذلك المكان الذي أقيم عليه المسجد مصلى لهم في الزيارات الاستطلاعية الأولى لفتح شمال أفريقيا، ثم شيد عقبة بن نافع المسجد الذي صلى فيه أيضا حسان بن النعمان ولاحقا ولاة القيروان على غرار أبي المهاجر دينار وموسى بن نصير وتابعه طارق بن زياد فاتح الأندلس، وكذلك الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور. كما صلى في هذا الجامع كل أمراء الدولة الأغلبية وعدد من خلفاء الدولة الفاطمية وخصوصا المنصور والمعز الدين الفاطمي وأيضا قائده جوهر الصقلي مؤسس القاهرة، وكذلك الأمراء الزيريون وعلى رأسهم المعز بن باديس الصنهاجي الذي شيد مقصورة الجامع.
ومن الفقهاء والعلماء الذين كانوا من رواد هذا الجامع الإمام سحنون بن سعيد القيرواني ويعتبر المؤسس للمذهب المالكي باعتباره أول من شرح الموطأ لمالك بن أنس وتوسع ودقق ما جاء فيه وحوله إلى مذهب. ومن رحاب هذا المسجد خرجت فاطمة الفهرية القيروانية التي أسست مع من معها من أهل القيروان جامع وجامعة القرويين في فاس في أقصى بلاد المغرب الإسلامي.
ومن الأطباء الذي ترددوا على هذا الجامع طبيب القيروان الشهير الذي ذاع صيته في تونس وخارجها أحمد بن الجزار، وهو أول طبيب متخصص في طب الأطفال. ومن الشعراء إبن رشيق القيرواني وابن شرف القيرواني وتميم بن المعز بن باديس الصنهاجي القيرواني، وخليل الحصري القيرواني وغيرهم.

عبقرية إسلامية

وفي العصر الحديث كان الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة من رواد هذا الصرح التاريخي بمناسبة المولد النبوي الشريف الذي ما زال إلى اليوم يتم الاحتفال به بمدينة القيروان. وكان بورقيبة شديد الإعجاب بصوت المُقرئ التونسي القيرواني الشهير الشيخ علي البراق الذي كان بدوره من رواد هذا الجامع وغيره من جوامع القيروان.
ومن بين الأجانب الذين أعجبوا بهذا الصرح الديني والعلمي الإستثنائي الأديب الفرنسي غي دي موبسان الذي زار القيروان في أواخر القرن التاسع عشر. واعتبر أن هذا المسجد الجامع القيرواني هو من «روائع الدنيا» ويبرز العبقرية الإسلامية في فن العمارة رغم اعتماده على عناصر كانت لحضارات سابقة. ومن بين الأجانب الذين أعجبوا أيضا بهذه التحفة المعمارية الرسام العالمي بول كلي الذي اعتبر وهو يصعد إلى أعلى صومعة جامع عقبة أنه الآن فقط أصبح رساما.
وتحافظ تونس اليوم على هذا الصرح الإسلامي العملاق الذي انتشر منه الإسلام والمذهب المالكي في ربوع بلاد المغرب الإسلامي برمتها وفي أفريقيا جنوب الصحراء والأندلس. ويكون هذا الجامع سنويا مركز الاحتفالات بمهرجان المولد النبوي الشريف الذي تحتضنه مدينة القيروان المقدسة التي يرقد فيها جمع هام من صحابة رسول الله وتابعيهم وأهل الصلاح والتقوى والعلماء والإئمة والفقهاء.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية