ثورة أصحاب الجرارات: المزارعون الأوروبيوّن في عصيان مفتوح ضد سياسات بروكسيل

حجم الخط
0

قليلاً ما يرد ذكر المزارعين في نشرات الأخبار أو عناوين الصحف، لكنّ مزارعي أوروبا قرروا أن يصبحوا الخبر، إذ يشعر هؤلاء، على طول القارة وعرضها أن الكأس قد طفح، وأن حكوماتهم غير معنية برفاههم، فترك عشرات الآلاف منهم في مختلف أنحاء القارة الأوروبيّة حقولهم، وقادوا جراراتهم وآلاتهم الزراعيّة لإغلاق الطرق السريعة والشوارع الرئيسيّة في عدد من المدن الرئيسية والموانىء، ما تسبب في أزمات خانقة، وانقطاعات في إمدادات المواد الغذائيّة والاستهلاكيّة والوقود. وانتشرت احتجاجات المزارعين سريعاً من فرنسا إلى ألمانيا وبلجيكا، كما نظمت تحركات في بولندا وسلوفاكيا ورومانيا، وتسبب حادث عرضي في سياقها إلى مقتل مزارعة فرنسية وابنتها.

مزارعو فرنسا: نخبة باريس تدفعنا إلى الإفلاس

يحتج المزارعون الفرنسيون على قائمة طويلة من المظالم التي تعاني منها معظم الطبقات العاملة في البلاد، لا سيّما الارتفاع غير المسبوق في تكاليف المعيشة، لكنّهم أيضاً يشتكون بشكل محدد من تدهور أعمالهم، بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج، واتجاه الأرباح للانخفاض، وتراجع القدرة الشرائيّة لدى غالبيّة المواطنين، كما اللوائح الجديدة من الضرائب والرسوم، التي ترفع الدّعم عن الديزل المخصص للأغراض الزراعيّة، في وقت تبدو فيه باريس خاضعة لتوجيهات بروكسيل (مقر المفوضيّة الأوروبيّة) المعنيّة أكثر بفرض توجهات عامّة مكلفة على الدّول الأعضاء في الاتحاد الأوروبيّ لخفض انبعاثات الكربون وتحسين التنوع البيولوجي، ناهيك عن تأخرها في دفع الدّعم الموعود للمزارعين وانخراطها بلا مكابح في دعم الحرب والمجهود الحربيّ الغربي في أوكرانيا، وذلك من خلال رصد المليارات لمصلحة نظام كييف، وشحن الأسلحة إليه على حساب الميزانيات العامّة، وفتح أسواق القارة أمام المحاصيل الأوكرانية، بالإضافة إلى فرض عقوبات تجارية وماليّة على روسيا على نحو تسبب في تضخم غير مسبوق في تكاليف الطاقة والكيمياويات. وتشارك الحكومة الفرنسيّة مع ذلك مزارعيها القلق من اتفاق للتجارة الحرة مع دول ميركوسور – أي الأرجنتين والبرازيل وأوروغواي وباراغواي – قد يؤدي إلى اغراق السوق الأوروبيّة بواردات لا تفي بالضرورة بالمعايير المعتمدة في القارة. مثل السّماح باستخدام المضادات الحيوية في مزارع الدجاج مثلاً، وهو أمر تحظره القوانين الأوروبيّة، ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الحريص على عدم اغضاب بروكسيل إلى مناشدتها بـ«عدم التوقيع على الاتفاق في صيغته الحاليّة».

مزارعو ألمانيا: بيروقراطية بروكسيل قتلتنا

بدورهم كان المزارعون الألمان قد نظموا أسبوعاً من الإضرابات خلال الشهر الماضي، احتجاجاً على الشروط التي تفرضها المفوضية الأوروبيّة على القطاع الزراعيّ في الدول الأعضاء، وتتضمن التزاماً بتخصيص ما لا يقل عن 4 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة للمحاصيل غير التجاريّة، بالإضافة إلى شرط إجراء تناوب المحاصيل، وتقليل استخدام الأسمدة بنسبة 20 في المئة على الأقل، وهي إجراءات يشتكي المزارعون من أنّها تجعلهم أقل منافسة ضد الواردات من دول غير خاضعة لذات الشروط، مثل أوكرانيا ودول أمريكا اللاتينية. ويقول مزارعو ألمانيا إن التضخم قد التهم أرباحهم، نظراً للارتفاعات غير المسبوقة في التكاليف، واشتكى عديدون منهم لنشرات الأخبار التي استضافتهم من انعدام قدرتهم على تحمل المزيد من الضغوطات، على الرّغم من الدّعم السنوي لهم من الاتحاد الأوروبي، والذي يقارب 40 مليار يورو.

غضب المزارعين عمّ القارة القديمة برمتها

من الجليّ أن مصاعب القطاع الزراعي الأوروبي ليست مقتصرة على دولة دون أخرى، ما يشير إلى أن الأزمة تتعلق بالفعل بسياسات عامّة تقودها بروكسيل. وكان مزارعو هولندا سباقون لنقل جراراتهم إلى شوارع المدن احتجاجاً منذ عدة سنوات، لكن حمى الغضب امتدت عبر القارة، فشاهدنا جيوش الجرارات الزراعية تغلق ميناء رئيساً في بلجيكا نفسها، فيما نفذ المزارعون في بولندا وسلوفاكيا ورومانيا أيضاً تحركات واسعة للاحتجاج على المنافسة غير العادلة – وفق تصريحات زعمائهم – التي تتسبب فيها واردات المحاصيل الأوكرانية إلى بلادهم. وكان الاتحاد الأوروبي قد قرر في 2022 رفع التعرفات الجمركية عن الحبوب والمنتجات الآتية من كييف كدعم للحكومة الأوكرانية في مواجهتها للغزو الروسي.

جناية الحكومات الأوروبيّة على شعوبها

لا شك أن عوامل عديدة قد تظافرت لتوصل هذه الفئة من المنتجين في الاتحاد الأوروبي إلى حدود الغضب، رغم أنهم فئة مدللة ومحميّة بمقاييس الزراعة العالمية، ولكن البحث عن جذور الأزمة تأخذنا دائماً إلى ذات فبراير/شباط قبل عامين عندما غزت قوات الجيش الروسى الجزء الشرقي من الأراضي الأوكرانية. عندها اصطفت الحكومات الأوروبيّة وراء الولايات المتحدة لدعم أوكرانيا فتبنت، بلا تبصّر في العواقب، عشر جولات من العقوبات الاقتصاديّة ضد روسيا، التي طالما كانت مصدراً للطاقة (النفط والغاز والفحم) والعديد من المواد الأولية الأخرى بأسعار رخيصة سمحت للاقتصادات الأوروبيّة بالازدهار والمنافسة على مستوى العالم طوال عقود. وبغض النظر عن الدّوافع السياسية العميقة وراء هذا الخيار، إلا أنّ الأمر بدا اندفاعاً أعمى وراء مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية، فلم تتخذ النخب الأوروبيّة الحاكمة أي خطوات لامتصاص الخلاف الروسي الأوكراني، وساهمت بتبعيتها شبه المطلقة لواشنطن في إفشال مفاوضات بين الجانبين، كان يمكن لها إن لم تمنع اندلاع الحرب أن تختصر مداها. انعكاس الحرب وما لحق بها من عقوبات على الاقتصادات الأوروبيّة كان كارثياً. فتضخمت الأسعار بشكل صاروخيّ، فيما أدى إغلاق طرق التجارة في البحر الأسود إلى تدخل الاتحاد الأوروبي لرفع القيود عن الواردات من أوكرانيا، مما سمح لمنتجاتها الزراعية بإغراق الأسواق الأوروبية. لقد انخفضت أسعار محاصيل البلدان المجاورة لأوكرانيا مثل المجر وبولندا ورومانيا، فأصبح المزارعون المحليون غير قادرين على بيع محاصيلهم، وبحلول ربيع العام الماضي 2023، كانت الجرارات تغلق الطرق البولندي نفسها، التي كانت تغص بالمتطوعين الذين يرحبون باللاجئين الأوكرانيين قبل عام من ذلك. الحرب جيدة فقط لصناعة الأسلحة
إلى الضحايا من العسكريين والمدنيين، فإن الحرب في أوكرانيا جلبت كساداً واسعاً وتضخماً إلى كل ركن من أركان أوروبا تقريباً، ومست برفاهية السكان وقدرة مختلف القطاعات الاقتصاديّة على المنافسة، باستثناء قطاع وحيد: صناعة الأسلحة ومعدات القتل. ثورة أصحاب الجرارات الزراعية ليست في النهاية سوى رأس جبل الجليد الظاهر من غضب متراكم في المجال الأوروبيّ كلّه. وإذا لم تسارع الحكومات والنخب الأوروبيّة إلى البحث عن صيغة للسلام في شرقي القارة، فإن قطاعات أخرى، لا سيما الصناعية، قد تحذو حذوهم، وتفتح الباب مشرعاً لفوضى واسعة.

٭ كاتبة من لبنان تقيم في لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية