ثقافة العمارة

حجم الخط
2

في أثناء تنقلك بين مكان وآخر ، سواء في داخل بلادك ام في خارجها، يبرز أمامك سؤال الهوية العمرانية للوطن. هل صحيح ان البنيان العمراني يملك هوية خاصة ؟ هل صحيح أنه يمكننا محو الذات العمرانية على أساس أن العمران عالمي ؟ من يتطلع إلى أبنية باريس، أو اية عاصمة غربية اخرى، ير التاريخ الفرنسي ، متحفاً يضم الأبنية التاريخية والتماثيل والحجارة والألوان الأصلية والشبابيك وما إليه.
تحاول الشعوب من خلال حكوماتها، أن تحافظ على ذاكرتها. تحرص الشعوب على ذاكرتها العمرانية وتقاوم محاولات هدمها من قبل المستسهلين. يعاد تعميرها على الشكل نفسه حتى بعد الحروب المدمّرة. الذاكرة استمرار بخلاف ما يظن. لذلك ترى الحكومات في الغرب تصدر القوانين العمرانية المقيّدة. فلو حاولت القيام بعملية ترميم أو اعادة إعمار لمبنى من المباني ترى نفسك مجبراً بالقانون على الإبقاء على الشكل الخارجي للمبنى حفاظاً على الوحدة العمرانية للمدينة وعلى شخصيتها وعلى روحها. أجل الناس تحافظ على روحها. تحرص الناس على روحها ولا تعلم احياناً أنها بتهديم تراثها العمراني تهدم روحها دون أن تدري.
نبذت هذه الفكرة عندي وانا أتنقل في بيروت ومحيطها. يخيفك الموت المباشر والقصف والحروب ولا تخيفك عملية الهدم المنهجي لمعالم ذاكرة الشعب العمرانية. أمر طبيعي للإنسان أن يخشى على روحه من وقوع قذيفة على رأسه وأن ينحني أو أن ينبطح أرضاً لتجنبها. لكن أليس من الطبيعي أيضاً أن ينتصب الإنسان للدفاع عن روحه عندما يراها تنهار تدريجياً أمام عينيه كل يوم. كيف يسمح لأناس، أيا كانت نواياهم، أن يهدموا أشجار العنبر التي زينت ألوانها وروائحها الطيبة بدايات صيفنا وسحر قصائدنا وجمال نسائنا وحدود جنائننا؟
لم يعد يمكن لأبنائنا ان يتعرفوا على شجرة شكّلت لأجدادهم ذاكرة الطيب والحلاوة. شجرة العنبر الباقية لم يعد حتى جيرانها يعرفونها.يتيمة. عندما تتوقف وتسألهم عنها يتعجبون من سؤالك. حتى ولو سألت عنها أناس يسكنون حي «معمل الريحة الفرنساوي» في عين الرمانة مثلا فلن يعرفوا قصتها. هم سكان بلا ماضٍ. لا يعرفون أن حيهم سمي كذلك باسم العنبر الذي كان يفرش منطقتهم ويشكل مفتاح حياة المعمل الذي يصدر رائحتهم الطيبة إلى دول الكون. سكانٌ فقط بلا ذاكرة ولا عنبر. سكان علب بنيت لكي تستوعب أناس جاؤوا من قراهم على عجل. والعلب بنيت على العنبر وما دروا. ليس فقط. بنى البناؤون العلب السكنية مكان أبنية قديمة تمتلك كل أسرارنا القديمة. هدموا المنزل الذي يقوم على العقد والحجر الجميل. هدموا المنزل «أبو بركة» الذي تدور قصصنا حول صالونه الكبير الذي يتوزع على الغرف الباقية.
كان للمنزل بركة وشجيرة بوصفير وليمون وأكي دنيا وياسمينة وبونغانفيليا من كل الألوان. كان للبيت رائحة وطعم ولون أصفر وماض وحاضر ومستقبل. كان للبيت ذاكرة وحديقة وفاكهة وخضار. كان للبيت عمارة وتراث ثقافي وروح يحمون أصحابها وسكانها من غدر الزمان. كان للبيت لونٌ يعرفنا ويعرفّنا. ذلك ان العمارة تشير إلى شعب، تقوله. كان للبيت ألوان تتغير بتغيّر ساعات النهار وقوة الشمس ودرجة انحنائتها. كانت الألوان تتغيّر مع الفصول وتشكل لوحة الذاكرة البشرية وذائقتها. كان للبيت رائحة وطيب. كانت الياسمين والفتنة والعنبر. كات نسيمات الصباح. كان للبيت وجهة وطلّة تؤسس لعلاقة بين البشر ومحيطها الطبيعي. وفجأة صارت العلبة بمواجهة علبة اخرى تؤسس لقطيعة مع المحيط الطبيعي.
التجويف الروحي أخطر من التجويف المادي كما يقال. لكن هذا العمران الذي يهدم كل ما بناه أباؤنا أليس تجويفاً روحياً؟ مدن بأكملها تتعرض للتشويه والهدم من اجل العمران «العصري». من أجل إعداد سكن للبشر الجدد يجري هدم كل ما تستند إليه الذاكرة العامة المشتركة. وإلى ما نستند بعد أن نسكن؟ إلى التلفزيون؟ هل المطلوب من الناس أن تأتي من اللامكان إلى ذاكرة التلفزيون؟ كانت لذاكرتنا قناطر ثلاث وثلاثة شبابيك وحجر أحمر مصفرّ ورائحة طيبة تدل علينا تماماً كما تدل حجارة باريس على أهلها. كانت الناس تأتي من بعيد لتتفرج عليها، ترسمها ثم تصورها عندما جاء عصر الصورة. والآن ماذا بقي لكي تأتي الناس من بعيد؟
كان لعمارتنا طلّة وبحر وذاكرة. لم يعد لنا ذاكرة نتكء إليها. صرنا بقلب المحيط العمراني للباطون. الباطون لغة جديدة. احتلّ البر والبحر. كان لنا شاطىء فصار مبنى من الباطون يدعونه فندقاً أو مجمعا سياحياً. نعم انه مجمع.من دون شك. سياحي لا أعرف بالضبط، لست متأكدة. كان لأهل بيروت مثلا شاطىء يتنفس أولادهم من رئته يطلقون عليه إسم الدالية تدللاً ربما. ثم هجم الباطون على الرئة. يحدثونك عن النور والأنوار والعصرنة والتقدم والاقتصاد والحرية والانفتاح. لكن من أين سيأتي النور إلى أعين البشر والباطون يحجبه؟ تقدم بلا ذاكرة. إلى أين؟ مستقبل بلا ماضٍ؟
لون السطح الأحمر القاني لقرميد منازلنا طبع مخيلتنا وجعلها تفهم معنى السطح للوطن. فصارت الأبنية عالية بلا سقوف. عمارة البلد، وألوانها، حضارتها وحيطانها وسقفها وخصوصيتها الثقافية والمادية. العمارة عامود الوجود للشعوب ولا يمكن بسهولة شطبها بدون آثار مدمرة على الوجود ذاته.
طبعاً هناك من يظن أن مثل هذا الكلام ينتمي إلى عصر قديم وأنه كلام خشبي لا يتلاءم مع العصر وتطوره. وربما هناك من يظن أن الكلام على خصوصية العمران نوع من النوستالجيا المرضية التي تتناقض مع العمارة «الدولية» الموحّدة. هناك من يظن أن التمسك بماض ما تحجّر ورفض لمواكبة التطور الطبيعي. هناك من يدافع عن محو آثار الذاكرة باسم ذاكرة حداثية جديدة. هناك من يفعل عن وعي إذن.
كاتبة لبنانية

عناية جابر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Hassan:

    الإبداع منبعه الروح والذات البشرية. انعكاسه يتجسد عمرانا يكون لبنة ضمن البناء الحضاري. ورغم بداوة العرب فقد أثروا الزخرف العالمي بدءا من المنزل أو الحوش، برفع حرف الحاء المشبعة بالضمة وبسكون حرف الشين، مرورا بالمساجد عبر الطرقات والأرصفة وصولا إلى القصور والحدائق. ما يطلق على أنها حضارة الآن لم تستطع غير الحفاظ على بعض التراث في الآثار الضاربة في التاريخ ولم تفلح في تأسيس نمط يكون إرثا عالميا تحتذى به من خلال الأجيال اللاحقة.

  2. يقول S.S.Abdullah:

    يا عناية جابر من الواضح أنّ انتفاضات أدوات العولمة (الربيع العربي) قد نبهتك إلى الاعتزاز بمكونات شخصيتك أخيرا بعد أن كان الانبهار بكل ما هو غربي وخصوصا الفرنسي واضح في كتاباتك
    هنيئا لك هذه النظرة الابداعية التي جعلت من مقالاتك من بداية ٢٠١٢ مذاقها يعبق برائحة العنبر كما أنت عنيتها في مقالك أعلاه
    ما رأيكم دام فضلكم؟

إشترك في قائمتنا البريدية