تونس وقانون ماليتها الذي زاد الأوضاع تأزما

روعة قاسم
حجم الخط
0

تونس ـ «القدس العربي»: أثار قانون المالية التونسي لسنة 2023 سخطا واسعا لدى قطاعات عديدة فاعلة في البلاد رسخ لديها اليقين بعد التمعن في محتواه بأن تطبيقه على أرض الواقع سيشكل الضربة القاصمة لأنشطتها حتى وصل الأمر بالبعض إلى نعته بالقانون الجبائي بامتياز ونعت وزارة المالية بوزارة الجباية. ولعل أصدق دليل على حالة الرفض الواسعة لهذا القانون المرسوم هو الانتقادات الحادة التي طالته من المنظمات الوطنية الكبرى وتحديدا الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحامين.

فالأمر لا يتعلق بأحزاب معارضة قد يذهب الظن بالبعض إلى أنها تحاول تشويه الرئيس وحكومته، وإنما بمنظمات وطنية تستشعر خطرا حقيقيا محدقا بمنظوريها جراء هذا القانون المرسوم الذي أصدرته منظومة جديدة تدعي حرصها على الحفاظ على الدور الاجتماعي للدولة في حين يناقض سلوكها تماما هذا الادعاء. ويبدو أن هذه المنظومة تسير في ركاب سابقتها في تكريس رأسمالية متوحشة تسحق الطبقات الضعيفة من خلال الرفع المستمر في الأسعار مع عجزها عن إيجاد موارد أخرى خارج هذا الإطار وبعيدا عن الدائن من الخارج.
ويرى كثير من المختصين في الاقتصاد أن هذا القانون منفر للمستثمرين الأجانب والمحليين الذين سيفضلون مستقبلا وجهات استثمارية أخرى لا تفرض عليهم هذه الضرائب المشطة التي تضمنها هذا التشريع الجديد المثير للجدل. وبالتالي فإن هذا القانون سيكون عقبة تحول دون إنقاذ البلاد وسيعمق الأزمة أكثر فأكثر باعتباره يقضي على كل إمكانية لاستقرار الرأسمال الأجنبي في تونس في وقت يبدو فيه البلد بأمس الحاجة إلى ذلك.
وللإشارة فإن مصانع تصدير وتكرير الرمال، قررت إيقاف نشاطها وتسريح عمالها بسبب «قانون المالية» لسنة 2023 الذي فرض عليها ضريبة مشطة بدون الاستعانة بخبراء من هذا الميدان الذي يدر على البلاد مداخيل من العملة الصعبة. فتكلفة بيع الطن الواحد من الرمال تبلغ 60 دينارا تونسيا، إلا أن قانون المالية فرض ضريبة جديدة تقدّر بـ 100 دينار على الطن الواحد وهو ما يجعل التكلفة ترتفع إلى 160 دينارا ويجعل قدرته على المنافسة في السوق العالمية بعد تكريره والتقليص من نسبة الحديد فيه منعدمة.
وتنشط هذه المصانع في مناطق داخلية حُرمت من التنمية خلال العقود الماضية، على غرار المناطق الريفية لولاية القيروان، وتقوم بتشغيل يد عاملة من أبناء تلك الجهات المنكوبة بفعل تهميش دولتها لها منذ الاستقلال. وسيجد هؤلاء العمال أنفسهم بعد الإغلاق في بطالة قسرية وستتسبب تلك البطالة بدورها في مشاكل معيشية وصعوبات في الحياة ليست بالهينة، باعتبار أن الأمر يتعلق في كثير من الحالات بفقدان عائل وحيد لأسرة لمورد رزقه.
ويخشى البعض من أن يكون واضعو قانون المالية قد قصدوا إجبار هذه المصانع على الغلق وذلك لتحل الشركات الأهلية التي تحمس لبعثها الرئيس قيس سعيد محل هذه الشركات في استثمار ثروة البلاد من الرمل الذي يُستغل في عدة أنشطة ومنها صناعة البلور. لكن أغلب الظن هو أن من قام بوضع هذا القانون.
المرسوم المخصص للمالية لا دراية له بخصائص مختلف القطاعات واستفرد بالرأي لا غير، وأن فرضية سوء النية تبدو مستبعدة لعدة اعتبارات.
ولا يشتكي من الاستفراد بالرأي في سن قانون المالية، رجال الأعمال والمستثمرون دون سواهم، فالكل عبر عن غضبه وانتابه شعور أنه المقصود بهذه «الهجمة الجبائية» ومن ذلك المحامون، الذين تم الترفيع في أدائهم على القيمة المضافة بمقتضى هذا «القانون المرسوم» ليبلغ 19 في المئة في دولة لا توفر لهم أي امتياز مقارنة بموظفي القطاع العام وغيره. فكل أعباء المحامي، الذي يساعد في إقامة العدالة وإنارة سبيلها والدفاع عن أصحاب الحقوق، من مكتب ومستلزماته ومصاريف تنقل إلى المحاكم وأجور مساعديه وتغطيتهم الاجتماعية وكل أعباء المهنة ومصاريفها من ماله الخاص. فأين هي القيمة المضافة التي سيدفع المحامي كل هذا الأداء من أجلها؟

عجز حكومي

لذلك خرج المحامون في وقت سابق احتجاجا على ما تضمنه المرسوم وهددوا بمزيد التصعيد إذا لم تقع الاستجابة لمطالبهم في مراجعة هذا القانون الذي فاجأهم على ما يبدو مثلما فاجأ أغلب المهتمين بالشأن العام. وخلافا لما أكده الطرف الحكومي من أنه تمت استشارة المحامين حول هذا الترفيع في الأداء على القيمة المضافة ووافقوا صراحة على ذلك، فإن المحامين أنكروا موافقتهم عند لقائهم مع وزيرة المالية قبل سن هذا القانون.
ويحبس التونسيون الأنفاس في انتظار تصعيد الاتحاد العام التونسي للشغل الذي هدد بذلك وهم الذين خبروا في تاريخ تونس الحديث ماذا يعني أن ينزل الاتحاد بكل ثقله إلى الشارع ويدخل في صدام مع الفريق الحاكم. لذلك يتمنى أغلب هؤلاء أن يتم التراجع عن بعض ما جاء في قانون المالية من جهة وأن تنجح مبادرة المنظمة الشغيلة التي تنوي تقديمها مع هيئة المحامين ورابطة حقوق الإنسان في حل الأزمة السياسية.
ويرى البعض أن إملاءات صندوق النقد الدولي هي سبب سن مثل هكذا قانون، أو منشور بتعبير أدق، وذلك في ظل غياب البرلمان خاصة وأن هناك حديثا بأن هذه المؤسسة المالية العالمية قد أرجأت النظر في الموافقة النهائية على القرض الذي وعدت تونس به إلى حين صدور قانون المالية لسنة 2023 للتأكد من الموافقة التونسية على إملاءاته. لكن بالمقابل هناك من يؤكد على أن ما جاء في قانون في المالية لا علاقة له بإملاءات صندوق النقد الدولي وإنما هو تجسيد لعجز الحكومة الحالية عن إيجاد حلول للميزانية خارج إطار التداين الخارجي والجباية التي مثلت أسهل الحلول التي تجنب الحكومة عناء البحث وعناء اتخاذ الإجراءات اللازمة للاستفادة من الثروات.
فالفوسفات، على سبيل المثال، والذي كانت تونس تحتل في إنتاجه وتصديره المرتبة الثانية عالميا قبل الثورة، وتوقف إنتاجه أو كاد طيلة العشرية الماضي، قد ارتفع سعره في الأسواق العالمية وكل الدولة التي تنتجه تستغل الظرف العالمي أفضل استغلال لتحقيق الاستفادة اللازمة باستثناء تونس. فالحكومة لم تتمكن من ضمان استمرار تصديره والتصدي لمن يعطلون تدفقه عبر الخطوط الحديدية كما لم تتمكن من رفع إنتاجه للوصول إلى الرقم المسجل سنة 2010 أي قبل التوقف بسبب الثورة، ثم مواصلة الرفع في مرحلة ثانية لتجاوز ذلك الحاجز في ظل الطلب الكبير عليه سواء أكان مُصنعا أم خاما في الأسواق العالمية. فللخضراء القدرة على تصديره في الحالتين وتمتلك مجمعا صناعيا كيميائيا يتولى هذه المهمة يعتبر من المشاريع الكبرى التي أنشأتها دولة الاستقلال ولا يتم استغلاله بالشكل الجيد في الوقت الحالي.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية