تونس: ثورة مفتي الجمهورية

لسنوات طويلة رسخت صورة الشيخ الذي يطل على التونسيين من شاشة التلفزيون الحكومي مرتين في العام، ليطلعهم بعد وافر الثناء والتمجيد والدعاء الخالص المطول بالتوفيق والسعادة للسيد الرئيس وعائلته الكريمة، ان رؤية الهلال قد ثبتت او تعذرت، بداية كل شهر صيام او قبيل انقضائه.
الشيخ المذكور هو مفتي الديار التونسية، وقد اعاده تصريح مقتضب ادلى به في الايام الاخيرة لبرنامج على القناة التلفزيونية الاولى، حول ظاهرة الارهاب، الى واجهة الاحداث لينال بذلك النصيب الوافر من الهجمات العنيفة، التي بدأت بالنبش في ماضيه البعيد والقريب، ووصفه بانه واحد من فلول النظام السابق، لتصـــــل بعد ذلك الى حد التشكيك في جدارته بالمنصب والمطالبة الفورية باقالته، بعد ان تجرأ على القول بان تلك الظاهرة الغريبة عن البلد لم تبدأ الان، بل ان لها جــذورا عميقة تعود الى زمن الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وقراراته ومواقفه الصادمة للناس من قبيل الدعوة الى الافطار في نهار رمضان او نزع حجاب التونسيات.
ما يلفت الانتباه في كل تلك الضجة، التي احدثها تصريح المفتي، امران،
الاول ان ما صدر عنه مثل منعرجا حقيقيا وخروجا واضحا عن الخط العام الذي سلكه اسلافه منذ الستينات، اي من تاريخ صدور الامر الرئاسي رقم 107 في السادس من نيسان/ابريل عام 1962، الذي احدثت بمقتضاه وظيفة المفتي، فلم يكن من عادة كل من تقلد تلك المهام على مر العقود الماضية ان يتخطى حدود ما رسم له من ادوار، اقتصرت في الغالب على الظهور المعتاد في رمضان او الجلوس في الصفوف الامامية في مواكب الاستقبال والاعياد الرسمية، ولم تتعداها الى اكثر من ذلك الا في حالات قليلة نادرة لم تكن في كل الاحوال لتثير قلق او انزعاج السلطات. وبهذا المعنى فان ظهور المفتي في برنامج سياسي هو امر غير مسبوق في التاريخ المعاصر لتونس، بقطع النظر عن فحوى تصريحاته. ومن هنا فقد تكون ردة الفعل القوية من قبل بعض الصحف المحلية وجانب من النخب تعني كذلك رفضا لما يمكن ان يكون انتهاكا لتلك القواعد الصارمة التي وضعتها الدولة منذ الستينات، والتي تفصل وبشدة بين ما هو ديني وما هو سياسي، ولا تسمح بأي تداخل او التقاء حتى محدود بينهما.
ما ظل يسوق باستمرار طيلة الاشهر الماضية لم يكن مجرد تحييد بسيط لبعض الوزارت السيادية، ضمانا لشفافية الانتخابات القادمة، مثلما يقول المعارضون لحكم الائتلاف، بل ان اعين الكثيرين من هؤلاء بدأت بالاتجاه اكثر صوب المساجد التي افلت عدد منها بعد فرار بن علي من سيطرة الدولة وهيمنتها، فتحولت كل مظاهر الغلو والتشدد التي تظهر بين الحين والاخر الى كوارث وطنية، يلقى العبء الاكبر من المسؤولية عنها على عاتق ما يوصف بالخطابات التحريضية التي تنتشر في دور العبادة او محاضرات ودروس بعض الدعاة العرب الزائرين، بدعوة من عدد من الجمعيات. سياسة بن علي كانت مبنية على تجفيف المنابع، وعلى جعل المؤسسات الدينية الرسمية، كالافتاء والمجلس الاسلامي الاعلى، هياكل خاوية ليست لديها القدرة على الاتصال بواقع الناس ومشاغلهم، وهو ما كان سببا مباشرا في تقلص وانكماش مساحة الاعتدال والوسطية بعد ان ضرب التصحر الديني والفكري في اكثر من موقع.
اما الان فيبدو ان محاولات الخروج عن النص واستعادة الصلة المفقودة بين المسجد والشارع لا تلقى حماسا او تشجيعا واضحا، وتقتضي بذل مزيد من الجهد والوقت كي تنضج في العقول والقلوب.
اما الامر الاخر الذي يلفت الانتباه فهو انه بقدر ما يمتد ويتسع نطاق الحرية، بقدر ما تضيق الصدورعن تقبل الاراء ووجهات النظر المخالفة، وبقدر ما يظن الجميع انه برحيل مستبد تسقط مظاهر الشخصنة، تعود في المقابل ومن الابواب لا من النوافذ صور ومشاهد التقديس المفرط والاعمى لبعض الشخصيات، ما يحول حتى دون مجرد الاقتراب منها او التعرض لها خارج السياق الرسمي القديم الذي جعلها ترتقي الى مرتبة الاسطورة.
التخبط الذي يعصف بتونس في انتقالها نحو الديمقراطية يوفر هامشا لتحطيم المؤسسات الشرعية والمس برموز الدولة، بدعوى الا احد فوق النقد والمساءلة، لكنه ويا للمفارقة يعيد انتاج نماذج فشلت في الماضي وكانت جزءا اساسيا من مأساة البلد لتقديمها كمخلص وحيد من الام ومحن الحاضر.
المصالحة الحقيقية تبدأ بالتحرر من ارث الاستبداد وفتح سجلات التاريخ بأمانة وموضوعية، وردم الهوة التي قادت الكثيرين نحو الانفصام. وما فعله المفتي قد يكون خطوة رمزية على الطريق الصحيح، ومؤشرا لثورة لكنه قد يتحول ايضا لمجرد صرخة في واد متى كان الاصرار على الاعلان عن ثبوت او تعذر رؤية الهلال اقوى لدى البعض من الحرص والعزم على تحريك الجمود الذي ابتليت به تونس وشل طاقاتها ردحا طويلا من الزمن .

كاتب صحافي من تونس

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية