تنبؤات المسرح المصري «باحتمالات» العبث والهوس والجريمة

حين يستهدف الكاتب المسرحي تصوير الواقع المُتناقض بالتباساته المؤلمة ومنطقه الغائب، يتعين عليه اللجوء إلى الأسلوب العبثي الساخر في اصطياد المفارقات والتعبير الدلالي عن هموم ومشكلات الواقع الناشئة باستمرار، والمُتطورة بفعل الإفرازات السلوكية الغريبة الناتجة عن اختلال المعايير، وتراجع القيم الإنسانية أمام طغيان المادة واجترائها على المبادئ والمُثل العليا.
في تجربة مهمة ومُختلفة يقدم الكاتب شريف عبد المجيد نمطاً إبداعياً غير تقليدي لمجموعة مسرحيات مُتضمنة في كتاب واحد تحت عنوان بليغ ومراوغ «احتمالات»، يحاول من خلالها الاقتراب من السمات الاجتماعية الغريبة التي تشكلت بفعل القهر وساعدت على تسجيل وتحديد أسوأ ما في الواقع الراهن. غير أن المثالب مُجتمعة قد دفعت الشخصيات المهزومة إلى البحث عن ملاذ آمن، فمعظمها يسعى للهروب من قسوة الحياة وضيقها إلى براح الخيال الفسيح، ليلتقط أنفاسه ويسبح في عنان الفكر المُطلق كي ينجو بنفسه من احتمالات الجنون المؤكدة.
لقد حصر الكاتب هموم شخصياته وآلامها في مجموعة عناوين اختصرت مضامينها الإبداعية الكثير من مساحات الأرق والقلق لنماذج بشرية إنسانية استبد بها الخوف وأدخلتها الظروف في مسارات اللاعودة، فلم تجد بُداً من التكيف وإقناع نفسها بأن المقبل أفضل ليبقى الانتظار هو الحل المؤقت لكل الانكسارات والهزائم، حتى تتالت الظواهر المرضية كانعكاس لتكرار القهر الاجتماعي المُحاط بسياج من المنطق المزيف، لإرغام الشخصيات المقهورة على تقبل الأمر الواقع تحت مزاعم باطلة أبسطها أن الحياة كفيلة بتغيير آلياتها وتوفير الحلول التي تبدو مستحيلة.
لقد رصد شريف عبد المجيد حالات بعينها وقدمها في سياق مسرحي كنماذج من عمق الحياة، تجلت تجاربها الشخصية المأساوية فتجاوزت بجلائها ووضوحها كل الصور المُتخيلة عن البؤس، فها هي واحدة من مسرحياته التي كتبها تحت عنوان «الوصية» تُصارع فيها الشخصيات المُتشابهة الموت وترفض الخضوع للنهايات التعيسة، وتُمعن في المقاومة إلى حد الإنكار المرضي للموت وعدم الاعتراف به فالبطلة سُعاد التي تعمل في مصنع للملابس تدفن معاناتها في داخلها وتتخلى عن أحلام الزواج والإنجاب والاستقرار، وتنصاع صاغرة لأوامر أم نبوي المرأة الفظة المُتصابية صاحبة المصنع كي تحتفظ بوظيفتها البسيطة، والجنيهات القليلة التي تحصل عليها شهرياً مقابل عملها المُرهق كخياطة ضمن فريق عمل يضم أشباهها من البنات والنساء البائسات.
يسرد الكاتب المسرحي وقائع حياة الأبطال بشكل إبداعي يراعي فيه الجانب التقني لخصوصية المسرح وطبيعته، فهو يحدد مستوى الإضاءة وشكل الديكور ونوعية الموسيقى التصويرية ودخول وخروج المُمثلين ومواقعهم على خشبة المسرح في مختلف المشاهد مع حرصه على التصعيد الدرامي للوصول إلى ذروة التأثير. كما أنه ادخر المفاجأة الكبرى الدالة على المعنى الذي استهدفه فجعل سُعاد البطلة التي تعيش مع أمها المريضة تقتل أم نبوي صاحبة المصنع وتحتفظ بجثتها بجوار جثة أمها، التي ماتت منذ فترة، ولكنها لم تعترف بموتها، وظلت تتعامل معها على أنها لا تزال مريضة، وهو رد فعل جنوني لحالة الخوف والتوحد مع شخصية أمها التي تُمثل لها آخر حصون الأمان!
إنها فلسفة الكاتب ذاته الذي يرى أن هناك مُتغيرات جبرية للحياة تتجاوز قُدرة العقل البشري للاستيعاب فيهرب الشخص المتأزم من الحقيقة إلى الجنون أو فصام الشخصية كحد أدنى لرد الفعل غير الطبيعي. وبشكل آخر نلحظ في النصوص المسرحية تعريجاً على الأزمات نفسها بتوظيف مغاير، فعلى سبيل المثال يصور الكاتب الخيانة الزوجية كاحتمال قائم ولا يقطع بصحتها في نصه المسرحي، الذي يحمل العنوان نفسه تقريبا، مع إضافة كلمة الصدفة للتأكيد على عدم دقة التهمة المنسوبة للبطلة، إذ يفترض أن هناك لصاً يدخل الفيلا ليسرق محتوياتها، وبينما هو يقوم بمهمته أو يمارس جريمته كلص مُحترف، يسمع الحوار الدائر بين الزوجة والعشيق ويعرف أبعاده فيكشف نفسه ويحاول عقد صفقه بينه وبين الطرفين الخائنين على أن يتركوه يخرج بالمسروقات مقابل دفن سرهما.
وبشكل فني فلسفي إبداعي يقدم كل من أبطال المسرحية حلاً للخروج من الأزمة وتصوراً لمعالجة الموقف المُحرج، وبهذا يكون عبد المجيد قد أبدع مسرحية أخرى داخل المسرحية وهي قُدرة إضافية لكاتب موهوب.
وفي نموذج ثالث بعنوان «كونشرتو الزوجين» والراديو، يكشف المؤلف جوانب التناقض والتضاد بين الثقافات المُختلفة وتأثيراتها السلبية على الأفراد، حيث ينضب نبع العلاقة العاطفية التي تربط بين الزوجين، حسب الحالة الافتراضية بعد مرور بضع سنوات ولا يتبقى من رصيد الحياة الزوجية في ظل الخلافات الدائمة والمُستمرة غير المُتناقضات التي تحيل الحياة إلى ساحة شجار وعراك حول وجهة نظر كل من الطرفين في التعامل الحياتي والمُجتمعي، فالزوج الذي يمتهن الكتابة والتأليف الروائي يقبض على جمر المبادئ، ويرفض الانزلاق في لُجة الأفكار الاستهلاكية ومسايرة موجات الهبوط والإسفاف، فيما تعتبر الزوجة ذلك جموداً فكرياً وتكاسلاً وتقهقراً للخلف ومجافاة للتقدم وعداءً للثراء. وقد مثلت هذه الإشكالية نواة البناء الدرامي عند شريف عبد المجيد، الذي يبرز انحيازه للقيمة الفنية بشكل واضح ورفضه للسوقية والفوضى بحكم تبنيه للشخصيات الإيجابية وإدانته لغيرها من الشخصيات الطفيلية الأخرى التي تسللت إلى الساحة الثقافية من الأبواب الخلفية.

كاتب مصري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية