تضاريس وهمية !

حجم الخط
0

الآن اكثر من اي وقت آخر أعي ما الذي يعنيه بول فاليري بقوله ان البدهيات هي اشدّ الظواهر تعقيدا، لكن البشر تواطأوا على تعريفات اختزالية لها تدخلها في عالم المألوف واليومي، فالشجرة مثلا ليست ما وضعناه من تعريف لها، وكذلك الذباب الذي دفع شاعرا وكاتبا هو كرورانسوم للتوقف عن الكتابة لمجرد ان عاملا في مزرعته سأله ما الذي جعل من الذباب ذبابا !
ومن هذه البدهيات ما نضطر الى العودة اليه عندما يبلغ الالتباس ذروته لكن في سياق سوء الفهم لا التفاهم لأن التفاهم يتطلب نديّة في الوعي اولا، ومن ثم الاتفاق الأولي على ما يشبه جدول الضرب والسلّم الموسيقي لكن في رياضيات اخرى، وايقاعات روحية غير مسموعة بالأذن المجرّدة.
من هذه البدهيات المقولة المتكررة عن فهم ما يجري او التعاطي مع الواقع بكل حراكاته السياسية والاجتماعية، فثمة من يرون بما يجري مشاهد قابلة للرصد والتصوير، سواء كانت تراجيدية كالمذابح وما ينتج عن الصراعات خصوصا الأهلي منها، وحسب هذا الفهم فإن ما يجري يحذف من الجريان أهم عناصره ومنابعه ومكوناته، فإن كان المقصود بالجريان الحراك السياسي الرّاهن، فإن اضعاف هذا الجريان باطني بامتياز، تماما كما هي المياه الجوفية والبراكين وكل ما هو غير مرئي، لكنه يفرض نفسه على العين المجردة لحظة اندلاعه اذا ما عثر على قشرة رقيقة وهشّة لا تقوى على صدّه.
ما يجري داخل النفس الانسانية وبالتحديد في باطن النفس العربية من مونولوجات وصراعات وهواجس يبقى بالنسبة للكاميرا خارج السياق والمشهد، وهو المسكوت عنه سياسيا، وحين نقول ان ما يجري بالفعل هو انفجار المكبوتات السّبعة التي توقفنا عندها في هذه الزاوية قبل عامين فإن معنى ذلك ان ما ظهر على السطح حتى الان هو مجرد بثورمتقيّحة، وسبب تقيحها هو الدورة الدموية وما يهجع تحت الجلد ذاته ليس طبقة واحدة ففيه بشرة مرئية وأدمة تقبع تحتها، لهذا يقاس منسوب الجراح والحرائق عبر مختلف درجاتها من خلال هذا التّصنيف لطبقات الجلد الآدمي.
أليست الكتابة عن ما يجري داخل هذه الذات المقهورة وما تراكم في باطنها من احباطات رصدا جوهريا لواقع لا يظهر منه غير ما نتأ منه فقط كجبل الجليد الغاطس في المحيط !
أليست الكتابة عن تضاريس اجتماعية وجيولوجيا نفسية تنتمي الى حقبة ما قبل الدولة وما تفرزه الان من أدبيات رعوية وثقافة ريعية رصدا لما يجري لكن في انساغ اخرى لا يتضح نزيفها للعين الكليلة، وبهذه المناسبة نتذكّر ما كتبه ازوالد شبنجلر عن التشكل الجيولوجي الكاذب الذي يخدع البصر لكنه يتكشف للبصيرة فالرجل كان يكتب مجلداته الثلاثة عن تدهور الغرب في حجرة باردة في مدينة شتوتغارت الالمانية، وفي ذروة الحرب العالمية الاولى وبالتحديد قبيل صمت مدافعها عام 1917 .
لقد رأى من خلال دخان الحرائق في تلك الحرب ما هو أبعد من الحريق، فكشط باظفره بشرة الواقع ليرى ما تحته من أدمة ومن أنساغ، ولأن حربا كونية ومجنونة كتلك هي نتاج ثقافة ومكونات لعدة قرون فإن الكتابة عنها تتخطى المرئي وتعود الى الوراء لاستقراء حضارة برمّتها والكشف عن جذور النزعة العدوانية فيها.
* * * * * * *
تقتادنا هذه البدهيات الى فحص كلمة واقع وبالتالي الواقعية سواء تجلّت في نصوص أدبية او في تعبير يومي تفرزه الذرائعية والشكوك في جدوى الخيال او الحلم، فالواقعية ليست زواحفية وليست وعيا مطابقا للمعطى والشروط، لهذا فالواقعية واقعيات كما ان البنيوية بنيويات والماركسية ماركسيات، وهذا ما قدمه على نحو تطبيقي جارودي في كتابه الشهير ‘واقعية بلا ضفاف’ حين رأى ان الواقعية تتسع حتى لبيكاسو في مرحلته التجريدية ولكافكا في كوابيسه ولسان جون بيرس في تهويماته البحرية التي دفعت ناقدا الى اصدار معجم بأسماء الكائنات البحرية التي كتب عنها بيرس بتعايش شعري نادر كما صدر معجم خاص باشتقاقات جيمس جويس حول روايته يوليسيز.
ولو كانت الواقعية مجرد تصوير فوتوغرافي لما يجري لما استحقت التوقف عندها، فالوعي لا يتعامل فوتوغرافيا مع المشاهد سواء كانت يومية او درامية، انه يشكّلها كلوحة قابلة للتأويل بعد ان يضيف مخزونه اليها.
وقد تكون جذور ما يجري الان سواء على سطح الارض او في باطن النفوس تمتد الى الف عام، لكن التاريخ ليس أفعى او سلحفاة او دجاجة يبيض فيفقس البيض بعد أيام او حتى شهور، ويخطىء من يصدق المقولة المأثورة عن الحضارات التي سادت ثم بادت، لأنه ما من شيء يبيد او يٌباد، سواء تعلق الامر بالمادة او بوقائع التاريخ والأدق هو القول بأن هناك حضارات وثقافات سادت ثم باضت، وكان البيض ينتظر التفقيس في حاضنة دافئة تتوفر بعد قرن او ثلاثة.
* * * * * * *
ما يجري الان ليس ما تعرضه الفضائيات بتنافس محموم، فمن يلتهم كبد انسان وهو ينزف من شفتيه وتحت نابيه، سمع عن واقعة مماثلة، ومن ينبش في طيات ذاكرته ووجدانه عن هوية صغرى سواء كانت طائفية او مذهبية انما يستجيب لما هجع في لاوعيه، لهذا حبّذا لو يتفضل علينا راصدو ما يجري على السطح بالسماح لنا ولو قليلا بكشط البشرة وصولا الى الأدمة ومن ثم بلوغا للنخاع حيث تكمن تربويات كيدية، وباسوسية تدخل الى باب الحداثة وما بعدها من النوافذ الخلفية للتاريخ حيث الحفلة التنكرية الكبرى التي يظهر فيها ابن العلقمي بطلا قوميا ويقايض صقرقريش بحافلة من القمح الاسباني كما رأى الراحل الماغوط.
ان ما يجري لنا وحولنا وتحت اقدامنا واحيانا من فوقنا ليس هذا المرئي، فالرماد الذي لا نراه كله لفرط النعاس والكلل، هو من مخلفات نار قديمة ولكل نزيف نراه الان نسب يستمد منه السّبب.
وما يجري سبق له ان جرى، لكنه تسرّب كالدم من الذاكرة الرملية الى باطن التاريخ واللاوعي الجمعي!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية