تارودانت المغربية: زواج التراث والحداثة وبهاء الأرض

عبد العزيز بنعبو
حجم الخط
0

الرباط ـ «القدس العربي»: إلى أرض سوس العالمة، نشد الرحال لنقيم قليلا في مدينة تنتمي للعائلة الكبرى وتعتبر واحدة من جواهر عقد من ألماس يزين جيد جنوب المغرب، والبقية تكمل طوق البهاء والجمال والأخلاق الدمثة والطيبة.
هي تارودانت التي تفصلها عن مدينة أغادير مسافة قدرها 84 كيلومترا، مدينة عريقة تاريخيا، وقد أزاحت الستار أخيرًا عن وجود متجدد من حياتها، حين احتضنت ربيع المسرح، فكان ناجحا، وآوت إليها أجمل المنتجعات وأفخم الإقامات وأروع المتاحف الطبيعية، أما السور المنيع فحدث ولا حرج، وعلى وزنه الأصيل تأتي الأبواب المتعددة التي تمنحك تذكرة الدخول إلى عوالم لا نراها إلا في الأفلام ولا نسمع عنها إلا في حكايات شهرزاد.
لكن لشهرزاد تلك حكاية مختلفة مع تارودانت، فقد أطلت مؤخرا من نافذة الفن، لتتأمل ربيع مسرح متألق، حج إليه النجوم المغاربة من كل المدن، وأهدوا الفرحة لجمهور غفير، وكانت تلك المشاهد التي نقلتها كاميرا القناة التلفزيونية الثانية المغربية من خلال برنامج خاص عن المهرجان، وثيقة مرجعية لكل من أراد أن يغوص في كل التفاصيل، ليس فقط الخاصة بالمهرجان بل المدينة برمتها.
هي مشاهد من شريط بليغ اسمه تاردوانت الأصيلة، تتواصل على مدار السنة وتستكين إلى هدوئها رغم صخب الزيارات، فهي مثل قديسة تحضر الحفل ولا ترقص، وتفرض حضورها بقوة السكينة والأصالة.
الحقيقة أن تارودانت ومعها باقي مدن سوس، هي أرض صالحة لزراعة كل شيء، يكفي أن تزرع فنانا لينبت لك مهرجانا ناجحا، وتزرع الكرم فتنبت لك الإقامات الفاتنة والمنتجعات البهية والفنادق المصنفة ودور الضيافة الحميمية، كما تزرع المعرفة لينبت لك فكر المختار السوسي صاحب «سوس العالمة» وأيضا تزرع النغم فينبت لك كبار المطربين والفرق الغنائية التي رفعت السوسية وهي إحدى اللغات الأمازيغية المغربية، إلى مصاف الأكثر استماعا.
هم أبناء تجارة وأبناء كرم وحفظة قرآن وأصحاب أبواب مفتوحة وموائد ممدودة ونار مشتعلة تحت «الطاجين» باستمرار وما لذ من فاكهة الروح وهي الابتسامة قبل فواكه الأرض.

حكايات التسمية

قبل الحديث عن أصل التسمية الذي اختلفت بشأنه الروايات والحكايات المتناقلة شفهيا، ندين لأبناء تارودانت بأن نبرز إحدى أوجه كرمهم الكبير، من خلال تلك الورقة الوافية المستفيضة التي خصصوها لمدينتهم في موسوعة ويكيبيديا، فجاءت طويلة مفصلة لا يحتاج معها الباحث إلى مراجع أخرى. ومنها حديث التسمية الذي تفيد إحدى الروايات التراثية بأنه مستمد من فاجعة أم على أبنائها بعد فيضان أزهق أرواح السكان وأدى إلى خراب وهلاك، فصاحت بالأمازيغية «تاروا دن» والتي تعني بالعربية «ذهب الأبناء» لتلتصق بها هذه الصيحة الحزينة وتتحول إلى تسمية تصنع الفرح في المقبل من يوميات الساكنة.
الكلام عن الفيضان تعززه بعض المصادر بتعرض المدينة للعديد منها، نظرا لكونها موجودة بين وادي سوس ووادي الواعر، فكانت رواية «الأبناء ذهبوا» الأكثر تداولا لدى الذاكرة الجماعية لأبناء تارودانت جيلا بعد جيل.
ومن التفسيرات الأخرى لأصل التسمية، نجد تلك المرتبطة بموقع المدينة وسط سهل خصب مخضر باستمرار تحفه الوديان من كل جانب وترويه بشكل متواصل، فكان أن نزل لفظ التسمية، ناهيك عن روايات أخرى حضر فيها التين باللغة الأمازيغية وهي جزء من المتداول حول أصل اسم المدينة التي تبقي سرها في قلبها النابض منذ عصور قديمة، لذلك فالثابت والأكيد أن تارودانت لم تغير اسمها وكان كما هو منذ أمد بعيد وعبر التاريخ، وهو يفيد بالوفاء وفق التقويم النبيل للأصالة.

الوصول إلى بهجة العين

من حكايات الاسم نعبر إلى بهجة ما تراه العين من معالم المدينة، ونتوقف عند أقدم سور تاريخي في المغرب، وهو سور مدينة تارودانت، الذي جاء في أحد التعاريف أن «طوله يبلغ 7.5 كلم، مبني بالتراب المدكوك المخلوط بالجير، وهو ما يعطي للسور صلابته، وقد بني على شاكلة الأسوار المغربية الأندلسية الوسيطية، وهو عبارة عن جدار من الطابية يدعمه 130 برجا مستطيلا و9 حصون، وتتخلل السور خمسة أبواب أصلية».
وتتوزع تلك الأبواب الأصيلة، بين باب القصبة، وباب الزركان، وباب تارغونت، وباب أولاد بونونة ثم باب الخميس، إضافة إلى أبواب أخرى تم فتحها لتيسير حركة المرور، ومنها نذكر باب أكفاي، باب تافلاكت، باب البلاليع، باب السلسلة، باب الحجر، وباب بنيارة، ولم تغفل السلطات المغربية المختصة عملية الترميم للحفاظ على هذا التراث العماري التاريخي.
الكثير من الشروحات التي تطال السور والأبواب وتاريخها القديم جدا، ونكتفي بذكر أن السور الأصلي لتارودانت يتكون من ثلاثة جدران في الأصل وهي متراكبة بعضها على بعض، وكل واحد منها له دور مختلف عن الآخر، ليتفرغ الأول للوظيفة الدفاعية، والثاني للحراسة أما الثالث فكان ممرا لدوريات الحراسة.
الحقيقة أن الحيز يعجز عن احتواء كم المعلومات المخصصة فقط للسور أو الأسوار الثلاثة، ولأهل التاريخ من الدارسين والباحثين شأن وباع طويل فيه نترك لهم تخصصهم، ونعبر خفافا في هذه الجولة البهية لمدينة لا تترك أحدا إلا وسحرته.
وحتى لا نبخس الأبواب حقها، نشير إلى ما تمثله بعضها، حيث نجد باب السلسلة وهو مدخل المدينة الرسمي والباب السلطاني منذ عهد الدولة السعدية، وباب الزركان، الذي يستمد اسمه من إيزكان وتعني في الأمازيغية الطواحين التي تنصب على السواقي لطحن الحبوب، وقصب السكر منذ عهود قديمة، أما باب تارغونت، فقد كان اسمه في القديم باب الغزو، ومنه يخرج الجيش إلى حملاته العسكرية، ثم باب أولاد بونونة ويحيل على نسب عائلات أندلسية انتقلت إلى تارودانت، وكما هو واضح بالنسبة لباب الخميس فقد استمد اسمه من السوق الأسبوعي، وفي ذلك نماذج عدة في مختلف مدن المغرب العتيقة.
وكما هو الحال بالنسبة لكل الأبواب القديمة، فقد أدت وظيفتها العسكرية في الحماية من أي هجوم مفاجئ، وكانت تشكل منفذ أمان للساكنة حيث تتم المراقبة الدقيقة، ومن تلك الأبواب نصل رأسا إلى الرحبات وهي ساحات حيث كان يتجمع الجيش وتشكل مجالا لتحركاته بما في ذلك تفتيش كل غريب طارئ على المدينة.
الإبهار في تارودانت لا يتوقف عن أقدم سور تاريخي في المغرب وتلك الأبواب الأصيلة، بل يتجاوزه إلى القصبة التي تعتبر من المآثر التاريخية وتدخل في إطار المشروع العسكري لحماية المدينة أثناء العهد السعدي، ودار البارود، بدورها شاهدة على الأصالة التاريخية للمدينة، وهي عبارة عن قصر قديم، يعود تاريخ بناءه إلى نهاية القرن التاسع عشر، حيث بني في عهد السعديين وهو ذات طابع عسكري وسمي بهذا الاسم لوجود مكان لتخزين السلاح به.
اقتصاديا كان للمدينة باع طويل تاريخيا من خلال معامل السكر، وهذا الأخير كان يشكل ثروة مهمة للمنطقة برمتها خلال العصور الوسطى، لكنها اليوم مجرد أطلال تحكي تاريخا تليدا، وبقاياها نعثر عليها في ضواحي المدينة.
المزيد من المعالم التاريخية الأثرية، لنصل إلى قصبة الزيدانية، «ويعود تاريخها إلى الأمير محمد زيدان بن السلطان إسماعيل، الذي قام ببنائها بعد أن بعثه والده لقتال أخيه محمد العالم الثائر بسوس عام 1114هـ.
ونحن نحكي قصة تارودانت، لن نتمكن من سرد كل شيء، فالتاريخ فيها فسيح ورحب برحابة طبيعتها، وهو يدفعنا إلى الاكتفاء بهذه الإشارات المضيئة، ونصل إلى التاريخ الحديث، ونتحدث عن البنى التحتية الخاصة بالثقافة، لتقف منتصبة بشموخ تلك المتاحف، منها الموجود في الهواء الطلق مثل كلوديو برافو وكان افتتاحه عام 2011 ورواق باب الزركان، وفضاء الذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير الذي افتتح في سنة 2015 كما تتوفر المدينة على خزانات ثقافية منها الخزانة البلدية في الحي الإداري، بالإضافة إلى خزانة الإمام علي التابعة لمعهد محمد الخامس بتارودانت التي أحدثت سنة 1957 وتحتوي على رصيد هام من المخطوطات التي توثق لحقبة تاريخية من مدينة تارودانت.
إلى جوار ذلك نجد العديد من المؤسسات الثقافية، منها المخصص للشباب مثل المجمع الثقافي حي لاسطاح، والعديد من دور الشباب، والمجمع الاجتماعي والتربوي بالمحايطة، وهناك مشروع تهيئة سينما أطلنتيك التي يعود تاريخ تشييدها إلى سنة 1931.
تارودانت لم تنس نصيبها من الموسيقى، لذلك اشتهرت بـ «الدقة الرودانية» على وزن الدقة المراكشية، بالإضافة إلى فرق نسائية تسمى «اللعابات» وهي في ذلك أسوة بباقي مدن المغرب، كما تحضر الأصالة الموسيقية من خلال أحواش وكناوة والميزان الهواري.
تارودانت مثل بقية مدن المغرب تعيش على إيقاع التعايش الديني، فإلى جانب الحضور الإسلامي الذي هو الأصل والأساس، من خلال توفرها على 44 مسجدا، منها التاريخي، ونذكر على سبيل المثال، مسجد الجامع الكبير، وهو من أقدم المساجد بالمغرب، حيث يرجع تاريخه إلى عهد الدولة السعدية، ومسجد الحسن الأول، ومسجد فرق الأحباب وهو تاريخي، بني خلال العهد المرابطي؛ نجد أيضا الحضور اليهودي بتارودانت، الذي كان موزعا على ملاحات بزكموزن وأولاد برحيل والفيض وأولوز، كما تحضر المسيحية من خلال كنيسة كاثوليكية، شيدت في عهد الاستعمار الفرنسي للمغرب.

رحابة الحضور

كم هي رحبة وفسيحة تارودانت في حضورها التاريخي والحديث، فهي تنام على العراقة وتستيقظ على الحداثة، وتصنع لنفسها حيزا محترما في مجال السياحة من خلال الفنادق ودور الضيافة، وبالنسبة للصناعة التقليدية فتلك حكاية عشق مغربي لا تنتهي تفاصيل نبضه، وفي لتارودانت، فإن هذه الأخيرة تشكل ركيزة أساسية للاقتصاد المحلي وتشمل مجالات عدة، مثل الدباغة والحدادة والخرازة والنجارة.
نعبر إلى الساحات والحدائق، ومنها ساحة العلويين التاريخية، وهي القلب النابض للمدينة القديمة، وساحة النصر وتقع عند مدخل سوق جنان الجامع، وساحة 20 غشت، وساحة باب الحجر ثم ساحة 6 نوفمبر. وبالنسبة للحدائق، نجد حديقة إبراهيم الروداني، وحديقة جنان المشماشة، والمنتزه الحضري لتارودانت.
ورغم ثقل الحداثة، فإن التاريخ القديم يفرض نفسه بقوة في أي حديث عن تارودانت، فنجد أنها منذ تأسيسها عاصرت جل الدول المغربية التي تعاقبت على الحكم، منذ عهد الأدارسة إلى عهد المرابطين، ثم عهد الموحدين، والمرينيين والوطاسيين، وعهد السعديين، وصولا إلى عهد الدولة العلوية، حيث تعيش أزهى وأبهى أيامها.
ونالت شرف زيارة العاهل المغربي محمد السادس سنة 2005 حيث أحيى بمسجدها الأعظم حفلا دينيا في ليلة القدر، كما زارها الملك سنة 2006 ودشن بها المركب الاجتماعي ودار الفتاة بحي المحايطة.
وفي زيارته الثالثة للمدينة، سنة 2009 أشرف العاهل المغربي على وضع الحجر الأساس لبناء مجمع ديني وإداري تابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية. وفي سنة 2011 وهي الزيارة الرابعة للملك محمد السادس، اطلع على برنامج التجميع لسلسلتي الحوامض والحليب ومشروع تطوير إنتاج اللحوم الحمراء بجهة سوس ماسة.

المدينة الساحرة

هل يمكن احتواء مدينة ساحرة، تاريخها شاسع وجمالها فتان مثل تارودانت؟
الجواب أبدا، فالقليل مما ذكر في هذا الاستطلاع مقارنة مع الكثير الذي تتوفر عليه، من طبيعة تتجلى في واحة تيوت والجبال، وما صنعه الإنسان على مر العصور، ونذكر كلاوديو برافو بالاس، والمدابغ، ومزرعة الخيول، وقرية تيفنيت ثم سوق الأمازيغ.
ولم يجانب المكتب الوطني للسياحة الصواب حين سماها مراكش الجديدة، ووصفها في ورقة بديعة بجوهرة ثمينة والمدينة الأجمل في المغرب، التي تدب فيها روح الحياة العصرية وتكوّن مزيجًا سلسًا مع التراث والتقاليد السائدة فيها، كما تتمتع بكل مقومات الحياة الحضرية، وهي أيضًا تمثل نقطة انطلاق كبيرة للعديد من رحلات التنزه والسير على الأقدام؛ حيث تقع المدينة بين سلسلتي (جبال أطلس) ما جعلها محط أنظار العديد من هواة السير وتسلق المرتفعات.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية