بول بولز… والمغرب بوصفه رهانا اثنوغرافيا

يسعى الأكاديمي والكاتب الفرنسي مارك كوبر الذي يعمل أستاذا في جامعة السوربون دينيس ديدرو في هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية إلى رصد مختلف المحطات الإبداعية للكاتب الأمريكي بول بولز الذي رأى النور في نيويورك عام 1910 وتوفي في طنجة عام 1999. تكمن أهمية هذه الترجمة في احتفائها بالتعدد الذي يسم شخصية هذا الكاتب الذي أقام في طنجة قرابة ستين عاما. مثل بولز محطة رئيسية في التاريخ الثقافي للمغرب الحديث باعتباره شاهدا على التحولات التي عرفها، قبيل وبعد الاستقلال وبوصفه أيقونة لجيل البيتز الأمريكي، وإسهامه الإثنوغرافي الدال في توثيق الموسيقى الشعبية ونقل الموروث الحكائي المغربي من الشفهية إلى الكتابة. وهو ما تمثل في ما أصبح يعرف بحلقة رواة طنجة، التي كان الكاتب المغربي الراحل محمد شكري أبرز رموزها.
هل كان بولز فنانا متعددا؟ يبدو ذلك حقيقة بدهية للوهلة الأولى ويبدو جليا أيضا إنه يتجاوز مفهوم الكاتب كي يضطلع بدور أكثر تعقيدا وتعددا، يراوح بين الكتابة والتأليف الموسيقي وتدوين الحكايات الشفهية والإثنوغرافيا. وهو بالإضافة إلى ذلك رحالة وموسيقي وشاهد على التاريخ وشاعر وكاتب يتميز بمهارة في الوصف، وإعادة التركيب إلى درجة الشعور بالدوار. بيد أن القوة تكمن في إضفاء البساطة على مبدع تعتبر الكتابة عصب اشتغاله وذات ارتباط بالمحكيات والروايات والقصص.
يتمثل المظهر الثاني في اعتبار بولز أحد كتاب المغرب، لقد اختار هذا الرحالة الاستقرار في طنجة التي كانت منطقة دولية. وهذا يعني في حد ذاته حالة أصيلة من الانفتاح وعلاقة عميقة بالآخر. أمريكي في شمال افريقيا وكاتب متجذر في واقع مختلف ومهموم باختبار تجربة نادرة. لقد وجد نفسه منغمسا بشكل مباغت داخل مجتمع لم يكن أي شيء فيه في البداية مفهوما. ما هي إذن طبيعة هذا التجذر على المدى البعيد، أي في سياق حياة بكاملها في طنجة؟

الثقافة الشعبية المغربية

إذا كان بولز قد خبر تجربة غنية في سياق اختبار ذاته في علاقتها بالآخر، فهل يكون في وسعنا أن نسند إليه دورا مهما في الحياة الثقافية المحلية، وهل يسعنا اعتباره مناضلا من أجل الثقافة الشعبية المغربية؟ وليس الجواب بالبداهة التي نتصورها. هل يعتبر بولز فنانا متعدد الوجوه، أم كاتبا ناثرا كان نهبا لحياة نشيطة جدا ومبدع أعمال تتغذى من كل مواهبه وتجاربه.

تصبح الفاعلية الأدبية على الصعيد الاقتصادي أكثر مردودية وتجذب حصريا اهتمام بولز أكثر من التأليف الموسيقي، خصوصا بعد اقترانه بجين التي كانت كاملة.

يبدو من السهل نسبيا التمييز بين بولز الموسيقي وبولز الرحالة (السفر فن بالنسبة له) وبولز الفوتوغرافي والإثنوغرافي. لكن يبدو صعبا رصد متى وأين يغلب انشغال على آخر. يتعلق الأمر بحيوات تتوازى بأفعال متداخلة. علينا أن نذكر ببعض المعطيات الواقعية. تتضمن ببليوغرافيا بول بولز وزوجته جين ثماني صفحات لها تعلق بالموسيقى: سوناتات للبيانو والكمان وبعض الأغاني وموسيقى الأفلام والمشاهد المسرحية وعروض الباليه والأوبرا. ويجاور التأليف الموسيقي في حالته عوالم مختلفة ومتعددة من قبيل أورسون ويلز وإيليا كازان وتينيسي ويليامز، وعدد من المخرجين الآخرين ومصممي العروض الراقصة المشاهير وغيرهم. وفي أحيان عدة ينخرط بولز في الفعل أكثر فيكتب كلمات الأغاني أو يؤلف موسيقى المشاهد لنصه المسرحي «الحديقة» عام 1967. وقد أولى اهتمامه من جهة أخرى للعالم الناطق بالإسبانية «زارزويلا باعتبارها سوبرانو» لفيديريكو غارثيا لوركا، وتخيل في هذا السياق مؤثرات إلكترونية تمتزج بإيقاعات مغربية في عمل مسرحي ليوريبيديس «الباخوسيات». يتعلق الأمر إذن بعملية انتقاء رفيعة المستوى، وأعمال معدة بمهارة شديدة، ولكن أيضا باحتراف ارتزاقي وتحت الطلب كثيرا ما ميزت إبداعه الموسيقي.
تصبح الفاعلية الأدبية على الصعيد الاقتصادي أكثر مردودية وتجذب حصريا اهتمام بولز أكثر من التأليف الموسيقي، خصوصا بعد اقترانه بجين التي كانت كاملة. وقد انهارت هذه الموهبة عام 1946 وهو التاريخ الذي شرع فيه في كتابة القصة القصيرة والرواية. ولا يمكن في هذا السياق الفصل بين بولز مؤلف موسيقى المشاهد لمسرح برودواي، وبولز مؤلف الحبكات السردية بصيغة موسيقية.
أفلح بولز في المزاوجة بين الإمكانات التي يتيحها هذان النمطان من التعبير. وقد حل في طنجة عام 1931 بمعيّة أرون كوبلاند وبمنحة أدبية، وبتشجيع من جروترود شتين يحدوه الأمل في تأليف الموسيقى. وقد فرغ بالفعل من تأليف سوناتا لهويوا بآلة الكلارينيت كما يؤكد ذلك كاتب سيرته روبير برياط. وقد اكتشف فيها شريط أصوات رائع: أصوات المؤذنين والطبول وصدى الأصوات واللغات. كانت أذنه متعددة ومفرطة في الدقة والرهافة، وموهوبة في التقاط الأصوات والكلمات. وكانت هذه الأذن مسعفا له في انشغالاته الإثنوغرافية بوصفه جامعا وموثقا. سيؤلف والحالة هذه موسيقى شكلت نقلا وتدوينا لحالة اجتماعية، وحالات ارتجاج جمعية متولدة عن اللقاء والاتصال بطنجة. ونمثل لذلك بمقطوعة «طاب» التي أبدعها في صيف عام 1945. يمكن أن تتحول إبداعاته الموسيقية أحيانا إلى وسيط حساس يعكس علاقته الذاتية بواقع كونه كاتبا توقف مؤقتا عن الكتابة. ينبغي الاقتراب من بول بولز في الحقيقة باعتباره فنانا غير مقتنع بالوسائط المتعاقبة التي يعتمدها، قبل أن يعثر على الأفضل اقصد كلمات المحكي. أو يمكن اعتباره بشكلٍ أدق مثل فنان تحولت طموحاته وميولاته، وتعرضت رهاناته لتغيير جذري. لقد رغب هذا الكاتب في التعبير عن المظاهر المتعددة لشخصيته؛ أقصد وجهه الليلي والمعتم، الذي لم تؤاته الفرصة المناسبة وبالاعتماد الحصري على لغة الموسيقى كي يبرز إلى الوجود.

«شاي في الصحراء»

وكان يكتشف في هذا السياق أجواء لا يمكن التعبير عنها بالموسيقى. يلزمنا التشديد في هذا السياق على أن الرسم هو ما يتم الإفصاح عنه. هل يتعلق الامر بتفاعل أكثر شيوعا؟ يمكننا أن نفكر في فنه بوصفه راسما بالألوان والتعبيرات الوصفية اللامتناهية، التي خص بها المناظر الطبيعية داخل المدن وفي الصحراء في روايته «شاي في الصحراء». ويضيف في أحد حواراته: أن ترسم الخوف بالموسيقى مسألة صعبة. وهي بالنسبة لي مسألة مستحيلة. بيد أن الجانب الأكثر سلبية وعتمة في شخصيتي، يتمثل في أن ما كنت أعجز عن التعبير عنه بالموسيقى، كنت أرسمه بالكلمات.
ثمة من جهةٍ أجواء خوف وجانب سلبي ومعتم، وما هو انفعالي وشعوري وما يوجد ثاويا في لاوعيه، الذي سيغني عمله بوصفه كاتبا. وستضطلع الموسيقى من جهة أخرى بمهمة البعد المشمس والمضيء في الحياة، والمتسم بقابليته للتسمية والإدراك المباشر خلافا لأدب اللاوعي والعصي على التسمية. ويكون في مقدورنا والحالة هذه أن نتحدث عن تكامل بين الحقل الموسيقي والحقل الأدبي يطابق مراحل مختلفة في حياته. كان بولز يقينا مدفوعا في هذا السياق بذوقه الشخصي، بوصفه مبدعا أكثر من الهاجس الإثنوغرافي المتمثل في الحفاظ على الموسيقى المحلية. لم ينتحل بولز إطلاقا صفة الناطق الرسمي أو المدافع عن سمات وخصوصيات ثقافة محلية في طور الاندثار والتلاشي. كانت البداية حصوله على منحة من مؤسسة روكفلر بغاية جمع التسجيلات الموسيقية. وسوف يقطع من أجل ذلك 37000 كلم ويواجه سيلا من المشاق والصعوبات. لم تغب عنه مصداقية مسعاه في حدود كون هؤلاء الموسيقيين وفنهم مهددين بالاندثار. بيد أن غايته كانت موسيقية وليست إثنوغرافية. كان في مقدوره وهو يستفيد من وضعيته باعتباره أمريكيا مقيما في طنجة، ومتحررا من أي التزام أن يعاين التحولات التي حاقت بالمغرب وثقافته.
سوف يدافع باطراد شديد عن اختلال ثقافي في سياق العلاقة التدميرية بالعالم الخارجي (الأوربي والأمريكي). يوشك بولز في ما يهم الثقافة المغربية على التنديد بالمغرب بعد حصوله على الاستقلال لأنه لم يعد إلى تقاليده الأصلية في سياق ترميم ثقافي للزمن القديم والثقافة المحلية. يبدو بولز مشحونا بالحنين إلى المرحلة الاستعمارية التي اكتشف فيها المغرب. ويبقى جمع وتوثيق التسجيلات الموسيقية متسما بتناغمه وانسجامه بمعزل عن الظروف السانحة والذوق الشخصي. جرى سرد مشاق ومغامرات عملية الجمع هذه في صيغة يوميات في عمله «الريف والموسيقى» حيث نكتشف بعدا آخر يتمثل في الكاتب الرحالة الملاحظ وعالم الاجتماع الدقيق. وهنا أيضا يستشعر بولز قلقا مفرطا في شخصيته يتمثل في أن بداية هذه العلاقة تخلقت في ظل ثقافة تفتقر إلى أدب مكتوب، وحيث يعبر الغناء والموسيقى عن مشاعر دينية وأسطورة وتاريخ شعب بكامله. وتذكرنا هذه الوضعية بالابتعاد التدريجي عن الأدب لفائدة التأليف الموسيقي. لم تخل هذه المهمة الاستكشافية من نفع إثنوغرافي؛ لأن عددا وفيرا من التسجيلات جرى حفظها وإنقاذها من التلف والضياع. بيد أن بولز كان مأخوذا بالآلات الموسيقية والأصوات غير المألوفة التي كانت تصدر عنها: لاعبو الغيطة والقصبة. وهي مناسبة أيضا لقياس قدرة بعض الأدوار المندثرة على البقاء مثل التروبادور أو الموسيقي الجوال.
كان بولز يملك فن السفر ويعترف له محمد شكري بهذا الاستحقاق. شكّل السفر مكونا خاصا ومهما في مشروعه الإبداعي وفاعلية متواصلة باطراد إلى حدود رحيل زوجته جين أور. لا أقل من عشرة عناوين تهم مختلف أنحاء المعمورة: سيلان، الهند، الصحراء، تركيا، المغرب غالبا والنيجر. يرتبط فن السفر والحالة هذه بفن الفوتوغرافيا. ولا يتعلق الأمر في حالته بسلوك سياحي؛ لأن السائح لا يضع حضارته وثقافته موضع نقد ومساءلة. بيد أن الرحالة ينتقد ويقارن. سوف يشهد عقد العشرينيات من القرن الفارط تغييرا جذريا تمثل في تحول العالم صوب السياحة.

يوشك بولز في ما يهم الثقافة المغربية على التنديد بالمغرب بعد حصوله على الاستقلال لأنه لم يعد إلى تقاليده الأصلية في سياق ترميم ثقافي للزمن القديم والثقافة المحلية. يبدو بولز مشحونا بالحنين إلى المرحلة الاستعمارية التي اكتشف فيها المغرب.

غير أن بولز سيبقى كاتبا مشاء في سياق من البطء والأناة، حسب دانييل روندو إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار، أن رحلة واحدة قد تستغرق سنوات. يكون السفر عميقا بحيث يورث حالة من انعدام اليقين حيال الذات ويولد عند بولز حالة من الاندفاع، تؤججها خصوصا تلكم الرغبة في أن تبقى بمعزل عن الحرب التي شكلت إحدى سمات عصر المكننة، التي كان يبذل قصارى جهده في سبيل نسيانه. كان يشبه في هذا الخصوص هنري ميلر الذي رغب في إلغاء الكابوس الأمريكي في عمله الموسوم «عملاق ماروسي» أو آخرين مثل د. هـ. لورانس، أو مالكولم لوري. وإذا كان رجل المدينة قد أصبح أسير المكننة بسبب تأثره بالحرب، فإن بولز كان راغبا في أن ينأى بنفسه أكثر فأكثر مثل بطله بورط، وأن يتوغل إلى حدود الصحراء. لكن نظرته زائغة ومدموغة بالخيبة. يبدو تطابق العالم عصيا على التجاهل. يتشابه الجميع ولا يشتملون على أي سمة أو فرادة. لا شيء. لا شيء. ووحدها الصحراء تبدو استثناء. يرتبط بولز بالأمكنة وليس بالأشخاص، ويستشعر الحاجة إلى فضاءات خاصة. لا يتعلق الأمر بالمدينة الحديثة التي يعتبرها كتلة شاذة، وإنما تلكم الثقافات التي تقاوم الاندثار، وتحديدا الأدب الشفهي والموسيقى. يتعلق الأمر بعالم يمكننا في سياقه سرد الحكايات ويتحول فيه التلفزيون إلى قاتل لها. يبحث بولز عن فضاء لم تمسسه الحداثة، وحيث تظل القدرة التعبيرية والإبداعية تلقائية وبمنأى عن أي تغيير. سيكون بولز شأنه في ذلك شأن بوروز مفضلا للفضاء على ناسه، ويحتفظ بمسافة تناسب مستوى الطموح الذي كان يتوق إليه. لم تتحدد رغبة بولز في أن يضفي شيئا خاصا على الفضاء، وإنما أن يتلقى تلكم الثقافة الشعبية المحلية في صيغتها الأصلية.
يتيح وصف الحشود في رواية «شاي في الصحراء» إبراز غريزة البقاء على قيد الحياة وليس حركة الأفراد في مواجهة السارد، الذي استشعر القلق والخوف من الموت. وهو يرتاب في التضامن الإنساني أو احتمال علاقة بين فرد وآخر في سياق العلاقة مع الساكنة المحلية. لا يرغب بولز في الاضطلاع بدور القاضي حيال انشغالاتهم المادية، بل يشعر خلافا لذلك بالحرج والذنب بسبب اقتداره المادي. وهو يجهد نفسه في أن يتقاسم معهم وحدة المصير، إلى درجة الانصهار بمعاناتهم وإلغاء الاخر الذي يماثل ذاته. وهذا في حد ذاته فشل نسبي للعلاقة التي تتخلق في غمرة السفر. هل كان بولز عاشقا للمغرب أكثر من المغاربة، خصوصا مغرب الثلاثينيات من القرن الفارط؟ وهو يؤكد في النهاية بعد أن وضع موضع شك أهمية العامل الديني بالمقارنة مع الخصاص الاقتصادي انه: «يلزمك أن تكون مسلما كي تحيط بالكون المغربي. أما في ما يهم اللغة فإن محمد شكري يشدد على انعدام الدقة، في ما يتعلق باستعمال بولز لبعض تعبيرات اللهجة المحلية وهي مفارقة تتسم إجمالا بانسجامها. لا يشعر بولز بالحاجة إلى تعلم اللغة العربية المكتوبة، بحكم افتقاره إلى الفضول اللازم في ما يهم الآداب العربية الكلاسيكية، ويعتبر الترجمات التي أنجزت للقرآن كافية. وهو يستشعر من جهة أخرى انجذابا صوب بعض صيغ الدارجة المحكية، لأنها موصولة بالتجذر في المكان ومفصحة عن عبقريته. وهو يستعمل تخصيصا اللغة الإسبانية. بيد أن كل ما يتعلق بالشفهية والفضاءات والتقاليد والعادات يثيره بقوة. وهذا يعني أن تفاعله مع طنجة كان يتأسس على ازدواجية لغوية.

مارك كوبر٭

٭ كاتب فرنسي
مترجم مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية