بعد مضي عشرة أعوام على طرح مشروع ‘الفوضى الخلاقة’… ماذا تغير.؟!

بعد مضي كل تلك السنوات على طرح مشروع ‘ الفوضي الخلاقة ‘ أو ‘ الفوضى البناءة ‘ بات من الضروري إستحضار تلك المقاربة من جديد والدخول في مراجعة لإستراتيجية الهدم وإعادة البناء التي يقال أن أول من صاغها في مشروع هو مايكل ليدين أحد البارزين في معهد ‘أمريكا إنتربرايز’ عام 2003 وأطلق على ذلك المشروع في حينه ‘التغيير الشامل في الشرق الأوسط’، ويبدو أن تلك الفكرة ليست حكرا على السياسة وليست إختراع المذكور بل سنجدها في عملية التمثيل الغذائي ‘الهدم والبناء في الجسم’ وسنجدها أيضا في الإقتصاد ‘الجديد يتخلص من القديم’، وفي علم النفس ‘الوصول بالنفس إلى حافة الفوضى’ ثم علاجها .
منذ إختراع الآلة والعالم ليس على مايرام فقد برزت الحاجة إلى المواد الأولية وهي بالطبع ليست في نفس المكان التي تعمــــل فيه الآلة ، كما برزت الحاجة أيضا للأسواق لتصــــريف البضائع التي تجاوزت لأول مرة في التاريخ حـــــاجة المدن والمناطق المحيطة بها ، ولا أعرف إذا كان من حسن حظنا نحن الشرق اوسطيين أو من سوئه أننا كنا موقعا للحصول على المواد الأولية في كل الصناعات تقريبا نحن والمنكوبة والمغلوبة على أمرها أفريقيا، وأيضــــا سوقا لتصريف بضائع الغرب الرأسمالي وبالتبعية مناطق نفوذ لهذه الدولة العظمى أو تلك حتى وصل الأمر بنا أن نكون ميراثا لكل أمة تتحول إلى دولة عظمى .
يقول المهاتما غاندي ‘بيــــن النظرية والتطبيق تكمن الحقيقة’ وفيما يبدو هناك ‘فجوة’ بين نظرية مايكل ليدين وحتى التطورات التي لحقت بها على يد توماس بارنيت وبين التطبيق، فالمشهد السياسي يقول أن مايجري هو تدمير للمنطقة وسينعكس على طبيعة العلاقة التي تربطها بالولايات المتحدة الأمريكية والغرب بشكل عام، وليس كما يقول تعريف المشروع بأنه ‘حالة سياسية أو إنسانية يتوقع أن تكون مريحة بعد مرحلة فوضى متعمدة الأحداث’ ، وربما يتحول الأمر إلى وجهة أخرى قد تلحق الضرر بالشعوب أو جزءا كبيرا منها على الأقل، ويمكن في أحسن الأحوال أن يترك المنطقة ساحة مفتوحة للإرهاب على عكس رغبة الشعوب التي ترغب في العيش بسلام .
العراق مثال صارخ على فشل مشروع الفوضى الخلاقة ومن يتمعن في أوضاعه الداخلية خاصة بعد مضي كل تلك السنوات على إسقاط النظام السابق يجد أن الحالة ليست أفضل بكثير بل أزداد الوضع سوءا ، والديمقراطية المبشر بها أصبحت في مهب الريح، فالعراقيون تاريخيا ليسوا شعبا طائفيا ولا خلاف كبيرا بين الطائفتين الأكبر هناك ( السنة والشيعة ) حتى أنك لا تستطيع التمييز بين أبناء الطائفتين من خلال أسمائهم كما يحدث في بقية دول المنطقة، وهم اليوم نتيجة للمشروع نفسه في مواجهة مع بعضهم البعض في حرب لا يبدو أن لها نهاية ، ونفس الوضع ينطبق على الشعب الليبي، وفي سوريا هناك كارثة ونزيف لن ينتهي هو الآخر رغم أن لا ثورة هناك.
لا يمكن التعويل كثيرا على حديث وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد الرئيس السابق جورج بوش كوندليزا رايس رغم إعترافها بدعم الديكتاتوريات وربما صنعها في المنطقة بحجة الحفاظ على الإستقرار من أن ‘الفوضى تمثل الأساس المنهجي لخلق الديمقراطية’، ربما يحدث هذا في بلدان ذات ثقافات مختلفة وليست متناقضة مع المشروع الغربي لكنها لا يمكن أن تتحقق عند شعوب مختلفة حضاريا وفقا للصيغة التي تطرحها الولايات المتحدة الأمريكية، فالأولوية بالنسبة للشعوب هو التخلص من الهيمنة الغربية وتبعات التواجد الغربي في المنطقة منذ بدايات القرن التاسع عشر بما فيها الكيان الصهيوني الذي يمثل منطقة ‘مواجهة حضارية’ مع الحضارة الغربية.
الديمقراطية تحولت إلى مطلب شعبي في كل دول المنطقة وهذه حقيقة يمكن ملامستها إينما توجهت هناك، وخاصة داخل ممالك وإمارات الخليج لكن التجارب في الدول التي كانت تحكم بأنظمة ديكتاتورية في المنطقة ( ليبـــيا ، تونس ، مصر ) أسقطت فكرة اللجوء إلى مشروع الفوضى الخلاقة وتبنيه من طرف القوى الشبابية في تلك الممالك والإمارات، بل أن القــــواعد الشعبية هناك ترى الآن أن البديل الحقــــيقي للأوضاع السائدة هي أن يجري الإنتقال إلى تلك المرحـــلة أي مرحلة المشاركة في إتخاذ القرار من خلال الضغـــط على الأنظمة القائمة دون خلق حالة من الفـــوضى يمكن أن تعود بالأوضاع إلى ماقبل الأنظـــمة الحـــالية من فوضـــى عارمة أضعفت من دور الجزيرة العربية تاريخيا .
الصورة باتت واضحة أكبر مما كانت عليه بسبب تلك الفوضى ومشروعها للقوى الحية في المجتعات الخليجية بشكل عام، وربما الإستثناء هو في البحرين التي شهدت أندفاعا تعدى مرحلة الضغط المفترض إلى ماهو أبعد دون إدراك أن لعبة توازن القوى في المنطقة لا تخدم مشروعا بهذا الحجم، لذا فإن تلك القوى الحية عمدت إلى مراجعة المشهد بشكل عام على ضوء التطورات في بعض الدول العربية المحكومة أصلا بأنظمة عسكرية ورأت أن الأجدى أن يكون هناك طريقا ثالثا بعيدا عن مشروع الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الغرب وبعيدا عن البقاء في حالة الجمود الحالية التي تعاني منها شعوب الخليج.

‘ كاتب كويتي
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية